Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

سركون بولص القاص الذي تحول إلى شاعر

شاكر الأنباري * أعتقد أن سركون بولص لم يكتب قصصا بعد عام ألف وتسعمائة وسبعين، بذلك ظلت نصوصه الأربعة عشر يتيمة حتى ارتحل عن عالمنا. ار...

شاكر الأنباري *


أعتقد أن سركون بولص لم يكتب قصصا بعد عام ألف وتسعمائة وسبعين، بذلك ظلت نصوصه الأربعة عشر يتيمة حتى ارتحل عن عالمنا. ارتحل شاعرا كبيرا، وشغل بهذه الصفة ساحة الثقافة العراقية والعربية. كتب سركون تلك القصص خلال عقد واحد فقط، هو عقد الستينيات من القرن الماضي، وهو العقد الذي شهد أكبر موجة تجديد لكتابة القصة في العراق، بعد الانفتاح الثقافي المحلي عن طريق الترجمة، والتحولات الاجتماعية التي حدثت في العراق والمنطقة. لهذا يمكن إدراج قصص سركون في موجة الحداثة الستينية، أي أنها ذات نفس جديد في القصة، بعد أن تجاوزت الأطر القديمة، والحبكة التقليدية، والجمل الكلاسيكية في البناء، والمحسنات اللفظية، والاستطرادات ذات الايقاع البطيء.

من يقرأ قصص بولص يجد فيها روحا حداثية بامتياز، ووعيا متطورا في فهم الكتابة السردية، واحترافا مبكرا، ومعرفة بخفايا القصة والرواية، وتسويق الحدث، وانتقاء المفردة. يجد القارئ انتماء إلى المكان ونكهته، في كركوك أو الموصل أو بغداد، وهذا بارز من خلال حساسية الشخصيات، والفكر الذي تحمله، والهواجس والخيالات ونمط الحياة الموجود في القصص، رغم أنها ملتقطة من عين مثقفة أساسا وواعية، لكنها في النهاية تعكس الروح الشعبية للمكان وأسئلته على الصعيد الإنساني.

إذن لماذا غادر سركون عالم القصة إلى عالم الشعر؟ هل اقتنع بولص أنه فشل في كتابة القصة فما كان منه إلا أن مضى إلى عالم الشعر؟ ما علاقة نصوص سركون القصصية بمعماره الشعري الذي بناه خلال نصف قرن تقريبا، حتى أصبح واحدا من الأسماء اللامعة في ساحة الشعر العربي؟ وأين الخيوط الرابطة بين ضفة القص وضفة الشعر لديه؟ هناك أسئلة كثيرة في هذا المجال، تخص انتقال سركون من القصة إلى الشعر. الإجابة تكمن حتما في القصص الأربعة عشر التي أنجزها، ونشرها في أهم المجلات العربية في تلك الفترة، مثل مجلة (الآداب) البيروتية و(العاملون في النفط) و(الكلمة) وغيرها.
مفتاح التحول الدراماتيكي من القصة إلى الشعر يوجد في تلك القصص حتما، مثلما يمكن الدخول إلى عالم سركون الشعري عبر فهم تلك القصص، وفهم أسرارها وكيف رصفها، وبم كان يفكر حين كان يكتب الجمل، وينتقي المفردة، ومن أية زاوية ينظر إلى الواقع اليومي، وما هو الهم الوجودي لشخوص القصص، وهل لها علاقة بهموم الكاتب؟ رغم أنني قرأت قصائد كثيرة لسركون بولص، لاحقا، حين صار قامة شعرية في الوسط العربي، لكنني وجدت إجابات كثيرة لغموضه الشعري، وصوره الفنية، وهواجسه وقلقه الوجودي بعد أن قرأت القصص الأربعة عشر. الإضاءة الكبرى في تجربة سركون، حسب قراءتي (الشخصية) لقصصه، وشعره كذلك، هي انشغاله بتساؤلات وجودية عميقة، تساؤلات الإنسان في هذا العالم الفاني، الذي يفارقه الفرد بعد حياة تعتبر قصيرة جدا، وعبثية، ولا تقود إلى هدف واضح أو مقنع. من هنا نجد أغلب شخصيات قصصه تفكر بالهروب، كما في قصة قطار الصباح، والقنينة، والأيام الأخرى أيضا. هاجس سفر وهروب ملح لأسباب قد تكون كثيرة مثل عدم التواصل مع المكان والبشر، الحساسية الفائقة من مظالم الواقع، العزلة الروحية بين الرجل والمرأة...الخ، وإذا بطل قصصه يعيش تكرارا أبديا في عبثية الحياة التي يعيشها كل يوم، وكل ساعة.

كان سركون يتعامل مع شخوصه، وعوالمها، بعقلانية باردة، تلك العقلانية الباردة تخفي تحتها نارا عاطفية ليس بالسهولة إمساكها، وقد يكون هذا مشتركا مع قصائد سركون، التي تعتبر للوهلة الأولى جافة، مصاغة عقليا، ومنحوتة بإرادة فنية حادة وقاسية. القصص معظمها تقتصد بالكلمات، تنتقي الكلمة الحاملة لأقصى ما تستطيع من الفكرة او العاطفة، حتى تقتصر جملته بعض الأحيان على كلمة واحدة، تكون كافية لتنقل الحدث إلى مستوى آخر، أو لتكشف عن سر الشخصية أو تزيح الغطاء عن التباس ما بين كائن وآخر. عوالم سركون، بهذا المعنى، تأخذنا إلى شخصيات مقذوفة قسرا في الوجود، واقعها لم تختره بل هو مفروض عليها، حساسيتها نحو ذلك الوجود تتفاقم لتصل إلى حد القطيعة ثم التفكير بالسفر أو الخروج من النفق أو الانتقال إلى بلاد أخرى. ألا يحق لنا إذن أن نعيد التذكير بجملة سركون الشعرية الشهيرة التي قال فيها: الوصول إلى مدينة أين.... المدينة الفكرة، الأمثولة، الخيال، الموت، الفضاء المجهول للكائن البشري الذي لن يبلغه أبدا؟

لا أمل أحيانا في هواجس سركون، سواء كانت سردية أم شعرية، لذلك عادة ما تكون حواراته في القصص مقطوعة، غير مكتملة، متلعثمة، إيحاءات، ترميز. وهذه دلالات واضحة على الأزمة الوجودية التي تعيشها شخصياته، وربما لاحقا الأزمة الوجودية التي عاشها سركون الإنسان، ثم الشاعر. وتلخص قصة من يجوب المدن وهو ميت، توق سركون الشعري للانتماء الى مدينة (أين) التي وجدها لاحقا في الشعر، وليس عبثا اختياره عالم الغجر خلاصا لبطل القصة الذي افترق عن أصدقائه السكارى باحثا عن هدف، عن جدوى للحياة الشاحبة، فوجدها في عائلة غجرية تجوب المدن والبلدان، بلا هدف. تحمل موتها على عربة يجرها حصان هرم، وتقود العربة امرأة تصادق قردا.

هذا العالم السوريالي وجد فيه البطل غايته وطريقه، فقرر أن يتشبث فيه ويندغم في نسيجه عله يصل إلى مدينة الحلم،مدينة أين، الواقعة خلف اللغات، والقوميات، والأوطان، والقارات. إذن ثمة عالم شبحي يفرض ذاته على سركون، عالم مصنوع من لايقين، وقطيعة، وعزلة، وحساسية مرضية، وتساؤلات مستعصية على الإجابة. وكل ذلك كان مقومات لعالم سركون بولص القصصي، وهو ذاته الذي عبره إلى عالم آخر أكثر شبحية وضبابية ألا وهو عالم الشعر. بتركه القص، وتماهيه في الشعر، قد يكون سركون بولص حقق شيئا من توازنه الداخلي المفقود في تلك الحقبة. إذ استطاع الوصول إلى ماهيته الحقيقية كإنسان، أي أنه شاعر فحسب، ووجوده لا يكتمل سوى بممارسة هذا الدور.

(*) كاتب وروائي عراقي 
عن الفايسبوك

ليست هناك تعليقات