الخميس، 30 أغسطس 2018

الماء والهالة في التاريخ والمخيال بغرب إفريقيا



 




مو
 يصلي على المياه، 1998.


الماء مسرح ضاجٌّ للتاريخ وسريرٌ لمخيالٍ خصب. وعلى سطحه، الذي يصلح أيضا كدعامة لتمثلات أسطورية ـ دينية، أُنجزت حلقات حاسمة في تطور البشرية. فالعالم المائي يشكل جسرا بين الواقع واللاواقع، إذ يغذي بإسهاب المعتقدات والطقوس التي تؤطرهما، والتصورات التي تحكم العلاقات والممارسات الاجتماعية.
في غرب إفريقيا، تَدِينُ الشخصيات المرجعية بمكانتها الاعتبارية غالباً إلى علاقتها بالماء. فوفق التقاليد المتبعة، تُرسَمُ صورة الشخصية الأسطورية ندياديانه نديايه، التي يعود لها الفضل في تأسيس البنى السياسية لإثنية وولوف في القرن الثاني عشر، بملامح سَيِّد المياه. نديايه الذي راوح ما بين فترات قضاها في النهر وتجليات على اليابسة، رحل من الفوتا مسقط رأسه إلى والو، حيث كرسته حِكْمَتُه ومهاراته الخطابية زعيماً للجماعة، قبل أن يرتحل إلى المناطق الوسطى، حيث أسس إمبراطورية دجولوف.
الشعوب المجاورة للوولوف تسبح هي الأخرى في عوالم التشكل الأول نفسها. ففي سيني سالوم وكازامانس، الأجداد هم أيضا عَطِيَّة من النهر. أسطورة الأختين لا تزال حية وحاضرة. هاتان الأخيرتان، فاجأتهما عاصفة شديدة دمرت قاربهما، خلال رحلة على نهر غامبيا. هكذا دُفع بهما إلى اتجاهين مختلفين. جامبون اتجهت نحو الشمال والتقت صياداً أحسن ضيافتها ثم تزوج بها. وهذان الزوجان كانا الأصل الذي تحدّرت منه إثنية سيرير.  أما آجين، الأخت الأخرى، فاتجهت نحو الجنوب والتقت مزارع أرز. وكانا الأصل في إثنية الجولا. تعتبر أسطورة الأصل هذه أساس علاقات القرابة، المدعاة للمزاح[1]، بين شعبي الجولا وسيرير. 
والسيرير أيضا لديهم علاقة القرابة نفسها مع شعب الفولاني، الذي يستقر جزء منه في شرق السنغال. وفي هذا الفضاء البعيد عن ساحل البحر وضفاف الأنهر، نجد الآبار في صلب الحياة، حتّى أنها تعطي اسمها للمنطقة: بوندو. والمُرابط[2] مالك سي، مؤسس أول دولة ثيوقراطية في سينيغامبيا عند نهاية القرن التاسع عشر، تميّز بعلمه الذي استعمله لاستغلال هذا المصدر الثمين. إذ قام البطل المنحدر من فوتا تورو، حسب الحكايات، بالاندماج سريعا في المجتمع المحلي، من خلال جلب التقنية التي تمكن من مد الآبار بخرزات[3]، ما يُيَسِّر وصول الناس إلى الماء الصالح للشرب. هذه المساهمة المهمة مكنته من الاستقرار المريح لدى مضيفيه ومَدِّ نفوذه تدريجيا، وممارسة السيطرة على جزء من البلاد. وتأكدت سلطته بفضل الموقع الاستراتيجي لبوندو التي تقع على الطرق التجارية الواصلة بين منحنى نهر النيجر والسواحل الغامبية. أفعال مالك سي وسلالته ألهمت المُنْشِدَات المحليات أناشيد حربية، لا تزال حيّة في إبداعات الثقافة الفولانية.
ويقتسم الربرتوار الموسيقي الخاص بمنشدات الغريوت[4] للشعب الفولاني[5] (انظر الفهرس) المعروف بالـ«ييلا»، الذاكرة السمعية في غرب إفريقيا مع أنغام نُواحية أخرى حبلى بالقصص. أغنية مالي ساديو، وهي من كلاسيكيات موسيقى المندنكا الأكثر غناءً، مستخلصة من أسطورة لا تزال تثير الدموع حتى اليوم. بطلا القصة هما فرس النهر (مالي في لغة البامانان) وصبية شابة (ساديو) من قرية بافولابي، التي تقع عند تقاطع نهري البافينغ والباخوي. الحيوان، الذي يقع في حب الصبية، ينذر نفسه لخدمة السكان. من كانوا يأتون لجلب المياه أو للإستحمام، والصيادون الذين يبحثون عن مواضع غنية بالأسماك، كانوا يحصلون على خدمات فرس النهر. هكذا احتضنت القرية مالي. لكن في أحد الأيام، ظهر حيوان آخر من الفصيلة ذاتها في مياه بافولابي. خلافا لسابقه، كان يجرح ويقتل سكان القرية الذين يرغبون في رفقته. ولشدة استيائهم، حاول هؤلاء التخلص من هذا الحيوان الدخيل. لكن الصيادين الذين أرسلوا لقتل الحيوان أخطأوا الهدف (تحت تأثير بعض الحسودين الذين طمعوا بالحسناء ساديو، بحسب بعض صيغ الأسطورة)، وقتلوا مالي. حين علمت ساديو بالخبر المفجع، ووفاءً لحبها، قررت الموت التحاقاً برفيقها.

تمثال تذكاري لمالي ساديو، بافولابي، مالي.
تمثال تذكاري لمالي ساديو، بافولابي، مالي.

هذه التأليفات الموسيقية المؤثرة، المستعادة دوما، والتي يُغَالَى فيها، استمرت عبر للعصور. في القرن العشرين، ستكتسب هذه الألحان إيقاعاًت خاصة ووظيفة جديدة أثناء النضال من أجل الاستقلال، ضمن مسعى بناء الهوية الوطنية. هذه الإيقاعات المستعادة ستهز أوتار المشاعر الوطنية، وتدفع المواطن للبحث في ماضي البلاد المجيد عن ارتدادات يواجه بها تحديات العصر. في غينيا ملأ صدى تكريم دجوليبا (اسم آخر من أسماء نهر النيجر) أجواء فترة تصفية الاستعمار. في وسط هذه الجوقة المحفّزة، نميز إيقاع الشاعر والموسيقي والكاتب المسرحي كيتا فوديبا الذي يدعو أبناء بلده إلى تقديم الثناء إلى النهر «المبجل» في «أغنية دجوليبا»[6]. وسوري كانديا كوياتيه، أحد أهم الأصوات التي أنجبتها إفريقيا، سيجعل إسم «دجوليبا» يرن في لازمة أغنياته التعبوية، بأسطوانته بعنوان «جولة في إفريقيا الأغنية».
في السنغال أيضا نجد الأزرق الكبير محور الاهتمام. تعقد له دورياً طقوس في الجهات الأربعة من البلاد، إذ أن غالبية الجن الأوصياء على المدن يسكنون في المياه: لوك داوور مبايه (داكار)، وكومبا كاستيل (غوري)، وكومبا لامب (روفيسك)، وماما مينديس (كاولاك)، كومبا بانغ (سان لوي)... ضمن هذه المدن التي يقطعها النهر، تتميز سان لوي، بخاصية كونها المكان حيث يُعْقَدَ قران النهر والمحيط. تشكّل هذه المدينة، التي لم تحتضن قصر حاكم السنغال بالصدفة، فضاءً لمواجهات متعددة بين الإدارة الاستعمارية وبين السكان الأصليين. فخلال عبور لوي بريار دو ليل، الذي عُيِّن حاكماً للسنغال ما بين 1876 و1881، في المدينة، تحدث صدامات عدة[7]. لكن مبارزته مع العرّافة پندا سار، إبنة موسى بوكاري من قرية نغاوليه، هي التي استقرت في الذاكرة الجماعية لسكان فوتا[8]. فما زالت نتيجة مصارعة الذراعين هذه تُذكر بمتعة بأشعار المغنين الشهيرين، كما بابا مال:
«پندا لَوَتِ النهر
وأبعدت البحر
وأذلّت الزعيم الأبيض الكبير».
أسياد موسيقى الپيكان (أغاني ملحمية لصيادي شعب الفولاني) يجهدون في استحضار صدى هذه الواقعة، كرمز لمقاومة الهيمنة الاستعمارية، وكتعبير عن المعرفة العميقة بالعالم المائي، التي تُصنف بأعلى الدرجات في سلّم القيم لدى السوبالبيه (صيادو ن فولانيون شعب بول من فوتا تورو في شمال السنغال).
أمّا لدى الشخصيات الإسلامية، فإن الاصطفاء الربّاني كثيراً ما يظهر بنسب متساوية من خلال التغلب على قوى الطبيعة بشكل عام، والقدرة على التحكم في الماء من خلال فعل الكلام بشكل خاص. فبعد مرور بضع سنوات على استعراض ندار غيج (ندار ـ البحر، كما تسمّى مدينة سان لوي بلغة الوولوف) الذي سبق أن ذكرناه، انتقلت الأنظار إلى داكار عاصمة أفريقيا الغربية ـ الفرنسية. إنه صياد آخر من سيثير الفضول. تلقى ليباس ثياو، وهو من إثنية الـ«ليبو» من منطقة يوف بداكار، الإشارة الربانية في 1883، عن عمر الأربعين، وصار يخطب بالناس إنطلاقا من الرأس البحري مبشراً بأنه الإمام المهدي الذي طالما انتظره المسلمون. واحدة من أولى أعمال «سيدنا الإمام» أنه استطاع، برباطة جأش أذهلت الجموع، أن يروّض البحر بعدما ارتفعت أمواجه لتغرق المساكن المجاورة للبحر في الليل. هذه المعجزة تعزز من خطاب «النبي الأسود»، الذي ما زالت طائفة لايان تحتفل سنويا بذكراه: «استجيبوا لدعوة الله، أيها الإنس والجن، فأنا مبعوث الله».

حشد من أتباع طائفة لايان يصلون على شاطىء اليوف بداكار، السنغال، أيّار/مايو 2016.
حشد من أتباع طائفة لايان يصلون على شاطىء اليوف بداكار، السنغال، أيّار/مايو 2016.

في العَشرية التالية، ارتفع صخب المحيط مجدداً. وعلت أمواج البحر مرة أخرى ليشهد المحيط الأطلسي معركة لا تنتسى. الشخصية الرئيسية في هذه الواقعة هو الشيخ أحمد بامبا، مؤسس الطريقة المريدية. المرشد الديني كان قد حُكم عليه للتو في العام 1895 بالنفي من قِبل الإدارة الاستعمارية، إثر اتهامه بالتحضير لـ«حرب مقدسة». المرابط خرج عن تحفظه بعد استفزازات من منتقديه، التي أرادوا من خلالها منعه من التفرغ بسلام لواحدة من الأركان الخمسة للإسلام (الصلاة)، في المركب الذي كان يقله إلى محنته. في الأبيات الإفتتاحية من السيرة الشعرية التي خلّد بها هذا الصُّنْع، يصور سرين موسى كا، وهو واحد من أشهر شعراء المديح المريدين، تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر:
«في هذا اليوم، كان المركب يبحر حتى تخوم تيسبار
ملائكة بدر وضعته على سجادة الصلاة
وأنزلت السجادة على سطح الموج دون أن تغمرها المياه
فأقام الشيخ بامبا وضوءه، وأتمّ صلاته».
هذا الصنع أنتج فناً مزدهراً (آلاف اللوحات المرسومة بتقنية الزجاج)، وغذّى مخزوناً موسيقياً هائلاً يصون إيمان أتباعه من جيل إلى آخر. الرحلة التي كانت مقدمة لمنفى دام سبع سنوات في الغابون، باتوا يحتفون بها سنويا بالحج إلى توبا (المدينة التي أسسها الولي الصالح)، وهي المناسبة التي صارت أكبر التجمعات في السنغال.
الحلقات المتعددة التي تعبر التاريخ و/أو تسكن المخيال جعلت الفكرة بأن إسم السنغال اشتق من " سونو غال" (قَارِبُنَا بلغة الوولوف) تتجذر بسهولة، على الرغم من تحفظات المجتمع العلمي[9]. هذه الإتيمولوجيا كانت مؤاتية في سياق البحث عن الهوية والوحدة الوطنية. وشكلت  هذه الصورة بالنسبة للشاعر والرئيس ليوبولد سيدار سنغور أفضل رسم توضيحي ممكن لـ«الرغبة المشتركة في حياة مشتركة»[10]. ريح القومية التي رفعت الأعلام في تلك الفترة صنعت شعبيةَ أغنية «سنغال سونوغال»، التي ألفها عبد اللاي مبوب في نهاية الستينيات. هذه الأغنية، وعبر انتشارها على موجات الإذاعات، شكلت نوعا ما نشيداً وطنياً ثانياً. «السنغال قاربنا / لنجذف نحو الوحدة»، يردد المغني كل يوم. هذا السطر الأخير ينعش الأرواح ويفرح القلوب وهو يقارن «قارب السنغال» بسفينة نوح.
أربعون سنة مرّت تقريباً على مرحلة «الحزب الواحد»، وما زالت الاستعارة تحتفظ بكل فعاليتها. في العام 2001، عشية السباق الانتخابي الملازم لـ«التعددية الحزبية الشاملة»، أطلق الثنائي بابه وشيخ قرصهما المدمج الأول، الذي يتضمن نداء للعودة إلى الرشد، موجهاً إلى الطبقة السياسية. ومن أجل إظهار أهمية المصلحة الوطنية، يستدعي الفنانان رمز القارب:
«أبذلوا قصارى جهدكم لإيصال القارب إلى بر الأمان
أليس هذا أفضل من تبادل الضربات بالمجاذيف؟
ابذلوا قصارى جهدكم لإيصال القارب إلى بر الأمان
فالبحر هائج
الأطفال على متن القارب
الراشدون على متن القارب
لا تأرجحوا القارب».
 الموسيقيان كانا أول المتفاجئين من تأثيرعملهما الفني. في مرحلة اصطياد الأصوات الانتخابية، حاول كل مرشح الاستحواذ على هذه الرسالة الوَحْدَوِيَّة من أجل الحصول على رضى الناخبين. على هذا النحو، صارت أغنية «ياتال غيو» نشيد الحملة الانتخابية، الذي تبثه مواكب الحملات الانتخابية كالإسطوانة المشروخة من قبل جميع المرشحين، وخدم كفاصل موسيقي خلال التجمعات.
غداة كل انتخابات، يجد قائد المركب السنغالي نفسه بين المطرقة والسندان في مواجهة الماء. فهو من ناحية، يلتمس معونة الزعماء الدينيين من جميع الطوائف لإقامة الصلاة والدعاء من أجل فصل شتاء ممطر وحصاد وفير، ومن ناحية أخرى يأمل بشدة ألاّ تحدث العواصف والفيضانات، المرهوبة جداً في المناطق المُدنية.
و يكمل التاريخ مجراه...

[1] ممارسة اجتماعية تسمح لأفراد مجموعة إثنية أو مجموعة تحمل الاسم نفسه بالسخرية من أفراد مجموعة أخرى من دون عواقب. علاقة العمومة بالسخرية يمكن أن تتأسس داخل الأسرة نفسها، بين الأقارب من أبناء العمومة.

[2]  الشيخ الصوفي (المترجم).

[3] حجر منقور يوضع على فوهة البئر (المترجم).

[4] الغريوت طبقة متنقلة من المنشدين والحكواتيين والشعراء والموسيقيين، تعنى بالحفاظ على تقاليد التاريخ الشفهي في أجزاء من غرب إفريقي ( المترجم).    

[5] إبراهيما وان وفاطيماتا لي فال، «الييلا: ألحان الذاكرة»، فيلم وثائقي، 52 دقيقة، 2008.

[6] كيتا فوديبا، «الفجر الإفريقي وقصائد إفريقية أخرى»، باريس، بيار سيغير، 1952.

[7] فرانسين نديايه، «مستعمرة السنغال في حقبة بريار دو ليل (1876 ـ 1881)»، النشرة الرسمية l’IFAN, T. XXX, sèr. B العدد 2، 1968، ص: 463-512.

[8] إبراهيما سو، «عالم السوبالب (وادي نهر السنغال)» Bulletin de l’IFAN, T. 44, sèr. B، رقم 3-4، 1982 ص 237-320

[9] ساليو كاندجي، «السنغال ليس سونو غال، أو  في إيتمولوجيا تسمية السنغال»، المطبوعات الجامعية لدكار، 2006.

[10] خطاب إلى الأمة يوم 3 أبريل/ نيسان 1961 غداة الاحتفال بالذكرى الأولى لاستقلال السنغال.

ترجمه عن الفرنسية محمّد الخضيري.

إبراهيما وان حاصل على دكتوراه في الآداب المعاصرة، ودكتوراه الدولة  في العلوم الإنسانية. يعمل أستاذاً محاضراً للأدب الإفريقي الشفاهي، وهو المسؤول عن سلك الدكتوراه الخاص بالدراسات الأفريقية في جامعة الشيخ أنتا ديوب بداكار. يحاضر أيضا في التاريخ الاجتماعي للموسيقى في المعهد العالي للفنون والثقافة (ISAC) بداكار، وفي تقنيات جمع التراث الثقافي غير المادي بجامعة غاستون برجي في سان لوي.
وان، هو أيضا نائب رئيس الشبكة الأورو ـ إفريقية للبحث في الملاحم والتقاليد السردية (REARE). أبحاثه الحالية تنصب في مجال الفنون الشعبية والوعي السياسي في إفريقيا. يهتم إبراهيما وان بالسينما وساهم في إخراج أفلام وثائقية عن التراث الثقافي في منطقة غرب أفريقيا من ضمنها فيلم «ييلا، أنغام الذاكرة» (2008).

محمد الخضيري كاتب ومترجم مغربي. صدر له كتاب "بعض الغبار وأنسى" عن وزارة الثقافة المغربية. ترجم عن الفرنسية رواية "المستشفى" (للروائي المغربي أحمد البوعناني) التي رشحت إلى القائمة القصيرة لجائزة "الأطلس الكبير"، ورواية "بلد للموت" للروائي المغربي عبدالله الطايع (2016). يكتب في الصحافة الثقافية العربية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot

الصفحات