يحضر الفنّان العراقي ضياء العزّاوي في باريس من خلال أعماله المعروضة في "معهد العالم العربي" وفي "متحف بيكاسو" حتّى نه...

*
"صبرا – تغنّي نصفها المفقود بين البحر والحرب الأخيرة / لمَ ترحلون/ وتتركون نساءكم في بطن ليل من حديد؟/ لمَ ترحلون/ وتعلّقون مساءكم/ فوق المخيّم والنّشيد". محمود درويش
*
في جداريّاته ورسومه، وفي أعمال الحفر والطباعة الحجريّة التي تصوِّر المجزرة، يعلن ضياء العزّاوي حنانه الإنساني، ويُطلق صرخة مدوّية ضدّ الجريمة. يطغى اللون الأسود وتدرُّجاته على هذه الأعمال كأنّها جريدة حائط تتألّف حروفها من الأعضاء المتلاشية المفكّكة التي سحلتها آلة القتل. الحمامة البيضاء هي الكائن الحيّ الوحيد في هذه الأرض الخراب، أمّا وجوه البشر المطعونة في الصميم فلا تحضر إلاّ لتأكيد موتها وغيابها.
يستلهم ضياء العزّاوي أعماله التي تعبّر عن المجزرة من لوحة « غيرنيكا » التي أنجزها بيكاسو عام ١٩٣٧ خلال الحرب الإسبانية ردًّا على قصف مدينة غيرنيكا الذي أودى بحياة المئات من المدنيين. لوحة تنطلق من التاريخ الآنيّ لتذهب أبعد منه، ومن مدينة صغيرة منكوبة لتعبِّر عن أهوال الوحشيّة وعن الوجع الإنساني بصورة عامّة. يروي متحف بيكاسو في معرضه تاريخ لوحة غيرنيكا والمسار الذي مرّت به من خلال الأعمال التحضيريّة التي يمثّل كلّ منها عملًا فنّيًّا قائمًا بذاته. عناصرها وشخوصها: الثور، والحصان، والجنديّ الميت، والطفل القتيل، والنساء الباكيات التي تتّخذ عيونهنّ شكل الدموع...
يخصّص المعرض كذلك حيّزاً للأعمال التي استوحت من لوحة بيكاسو، وهي لفنّانين من مختلف الجنسيّات، ومن بينهم العزّاوي (تدير أعماله في العاصمة الفرنسيّة غاليري كلود لومان) وجاكسون بولوك وروبير لانغو… يقول العزّاوي: "تشكّل غيرنيكا مُنعَطَفًا في فنّي وفي تاريخ الفنّ ككلّ. لقد نجح بيكاسو في ابتكار رموز بسيطة ومعبِّرة، تاريخيّة وكونيّة على السواء، صاغها بأسلوب يتلاءم والقيم الإنسانية والأخلاقية الرافضة لاستعمال العنف ضدّ المدنيين، والذي لا يمكن تَسويغه من ق طرف أيّ إيديولوجيا وأيّ نظام سياسي".
كثيرة هي المصادر التي استوحى منها بيكاسو لوحته، ومنها بالأخصّ محفورات فرانثيسكو دي غويا وعنوانها « كوارث الحرب » ولوحات لبيار بول روبنز ونيكولا بوسان. غويا حاضر بقوّة في أعمال بيكاسو، ولوحة « مجزرة في كوريا » التي أنجزها هذا الأخير عام ١٩٥١ هي صيغة أخرى للوحة غويا، « الثالث من مايو » (١٨١٤)، وتمثّل مسلّحين يطلقون الرصاص على المقاتلين الإسبان الذين ألقي القبض عليهم خلال المعارك.
لوحة غويا التي تمثّل أيضاً محطّة بارزة في تاريخ الفنّ الغربي بموضوعها وبأسلوبها - كانت مصدرًا لأعمال فنية كثيرة منذ القرن التاسع عشر، ومنها لوحة بعنوان « إعدام مكسيميليان » (١٨٦٩) لإدوار مانيه.
لوحة "الثالث من مايو" ولوحة « غيرنيكا » تنتصران للسّلام ضدّ البربريّة، وللعدالة والحقّ ضدّ الظلم والطغيان. ألم يقل بيكاسو نفسه: « لا، الفنّ ليس من أجل تزيين المنازل: إنّه إحدى وسائل الحرب الهجومية الدفاعية ضدّ العدوّ ».
في هذا السياق، رسم ضياء العزّاوي أعماله « الملتزمة »، من دون أن تسقط اللوحة في خطاب الالتزام وشعاراته. أمّا الالتزام في هذه الأعمال فهو التزام فنّي بقدر ما هو التزام إنساني وسياسي، وهو تعبير عن رفض الصراعات الدمويّة أينما تكن. وإذا كان العزّاوي استوحى من تصوُّر بيكاسو العامّ للوحة « غيرنيكا »، فإنّ عمله يأتي أيضًا في سياق تجربته الخاصّة، أسلوبًا ومفردات وبُنيَة فنّيّة، فضلًا عن علاقته بالشعر. فالوجوه التي رسمها، وهي أقرب ما تكون إلى أقنعة، تجد جذورها العميقة في الفنّ السومري، وفي تلك العيون الفاغرة، المفتوحة على العدم…
أعمال ضياء العزّاوي المعروضة الآن في باريس ليست فقط تصويرًا لمأساة صبرا وشاتيلا وتلّ الزعتر، بل هي أيضًا إدانة للمأساة الموجودة في العالم، ولا سيّما تلك التي يعيشها العالم العربي الغارق في الحروب، والذي يشهد مجازر يوميّة ودمارًا منظَّمًا يَطُول البشر والحجر. من هنا، فإنّ هذه الأعمال تنبش ذاكرة الحرب، الجرح الأعمق للإنسان، وهي حكاية العنف الذي يُلطّخ تاريخ البشر بالدِّماء، زمنًا بعد آخر، وجيلًا بعد جيل (...).
*
(تفصيل من لوحة "مجزرة صبرا وشاتيلا" لضياء العزّاوي.
المصدر: "موقع غاليري كلود لومان).
ليست هناك تعليقات