لا اذكر بالتحديد تاريخ هذه الصورة التي تجمعني بالصديق الشهيد رضا حداد من سوريا. ما اذكره انها التقطت في بيروت التي كان يحبها وله فيها اص...
لا اذكر بالتحديد تاريخ هذه الصورة التي تجمعني بالصديق الشهيد رضا حداد من سوريا. ما اذكره انها التقطت في بيروت التي كان يحبها وله فيها اصدقاء كثر، وانها تعود الى ما قبل 1975.
رضا حداد، صحافي سوري، اعتقله النظام السوري عام 1980 بتهمة مناهضة الدولة، وبقي مسجونا حتى العام 1995، وذاق خلال سنوات سجنه كل انواع التعذيب، ولم يفرج عنه الا بعد ان اصيب بمرض اللوكيميا-ابيضاض الدم، ومات بعد ثمانية اشهر من اطلاق سراحه.
اشكر الصديق المغربي يوسف طلالي الذي ارسل لي الصورة.
في ما يأتي نص كتبه الشهيد رضا عن التعذيب الذي تعرض له أثناء اعتقاله.
تجنبت طوال الحديث السابق الكلام عن مرحلة الإعتقال الأولى، وفترة التحقيق لأن ذكراها تؤلمني، تشوشني، تحيي في داخلي كل مشاعر الذل والمهانة والألم النفسي.. عندما تصبح لا شيء وهم يؤكدون لك بوسائلهم في كل لحظة انك مجرد رقم يمكن أن تمحى ليس من سجلاتهم بل من الوجود متى شاؤوا وببساطة.. رقمي أنا كان 61. هذا ما علمته بعد عودتي من المشفى إلى فرع التحقيق، قضيت في المستشفى سبعة أيام، إثنان منها في غرفة العناية المشددة وأنا بحالة غياب كامل عن الوعي. والسبب ببساطة إنهم طلبوا مني بعد اعتقالي بدقائق وأنا معصب العينين ومغلول اليدين والقدمين.. طلب مني هشام بختيار، وهو عميد حالياً، كما طلب فيما بعد علي دوبا رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية تزويده بمعلومات لا أملك منها شيئاً. قال: «قل ما نريد وستعود إلى عملك وبيتك، أنت صحفي ومثقف ونحن لا نريد إيذاءك". رغم شعوري بالخوف ابتسمت في سري: خمسة عناصر مسلحون بالرشاشات الكلاشنيكوف يسوقونني في منتصف الشارع ويخطفونني من الطريق، يعصبون عيني ويكبلون يدي بالأصفاد، ويقول "لا نريد إصابتك بأي أذى"؟. أكدت لهما مرات عدة أني لا أملك معلومات عن الموضوع الذي يحققون به.. نعم أنا صديق ومؤيد لخط الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، لكن هذا لا يعني إمتلاكي المعلومات التي تطلب، أجبت السيد علي دوبا.
وبدأت دورة العذاب الجهنمية التي تركت آثارها في أيامي وطيلة حياتي المتبقية. آثارها جسدية تمثلت بأعطال شبه دائمة وأخرى موقته، وآثار نفسية لن تمحوها السنوات.
علقت على سلم حديدي مرتفع، يدي مشدودة إلى عارضة حديدية وجسمي يلوح في الهواء مرتفعاً عن الأرض بقدر متر تقريباً، بعد أن جردت من كافة ملابسي.. كل هذا وعيناي معصوبتان بعصابة سوداء.. مع عدة لكمات في البطن وأسفل الظهر.. لم أستطع تحديد الوقت الذي بقيت فيه معلقاً أتأرجح في الهواء. كل ما أذكره الألم الفظيع في عضلات البطن.. ثم تشنج وصبيب من العرق.. وغياب عن الوعي.. صحوني لتبدأ مرحلة أخرى من العذاب.. الضرب بالكابلات على القدمين حتى تورمتا تورماً كاملاً.. وكلا الضابطين يعيدان نفس الأسئلة أثناء عملية الضرب.. وأنا أؤكد أني لا أملك أي معلومات تفيدهم في الموضوع المطلوب. إغماء مرة أخرى.. وجدت نفسي بعدها مربوطاً إلى كرسي وركبتاي تبرزان إلى الأمام وتسبب في ثني ساقي وربطهما بطريقة لا أعرف كيف تتم حتى هذه اللحظة، لأني كنت في حالة تشوش عالية.. ولا تزال العصابة على عيني وفخذاي في وضعية الفسخ.
تناول العميد هشام جسماً صلباً مفلطحاً وأخذ يضربني بشدة ولؤم على ركبتي ويكيل لي السباب والشتائم بلغة فاحشة مليئة بالبذاءة والرذيلة: "ياكلب، يا حيوان، أنت حشرة سأمعسك بقدمي.. يا إبن الشرموطة سأفعل وأترك بأخواتك وأمك" ويعيد الضرب.. وأنا أكرر الإجابة ذاتها. كان اللواء علي دوبا أمهر منه بكثير في السباب والشتائم، ولا غرابة في ذلك، فهو رئيسه. وبعد أن ثار غضبه، اخذ علي دوبا يكلمني ويركلني بقدميه.. وقال: «والله يا كلب، يا إبن...، إذا ما إعترفت، لأحضر زوجتك... وأعريها قدامك هون وأفعل فيها". أصبت بدوار شديد وشعرت برغبة شديدة في تقيؤ كل محتوياتي في وجه هذا الوحش. غبت عن الوعي مرة أخرى.. وصحوت لأجد نفسي ممدداً على الأرض.. وقد ربطوا بأصابع يدي ورجلي سلكين كهربائيين.. وبدأ التيار يسري في جسدي وأنا ممدد على أرض مبللة بالماء.. العميد بختيار يقف عند رأسي.. واللواء علي دوبا يجلس على كرسي. للحظات قليلة استطعت مشاهدته من خلال فرجة تحت عصبة العينين السوداء لأني كنت في وضعية استلقاء كاملة. كان يرتدي بنطالاً سكرياً حريرياً.. يضع رجلاً على رجل وفي فمه سيكار ضخم، ويحمل في يده كأساً من الويسكي. هذا ما شاهدته حقاً وأنا أرتعد من سريان التيار الكهربائي في جسدي والألم يمزق كل خلية في جسمي وبشكل خاص دماغي. كانوا يقفون للحظات يعيدون السؤال.. ثم يسكبون الماء على جسدي، ويعودون لتمرير التيار الكهربائي.. لم أستطع معرفة مقدار المدة الزمنية التي قضيتها تحت التعذيب. في المرحلة الأخيرة لم أعد أقدر على إحتمال الألم. رأسي كرة تلتهب، أشعر بأني أتمزق وأتلاشى، دماغي تكاد تنفجر من شدة الألم والتيار لا يتوقف عن السريان في عروقي. بيأس كامل أخذت ألطم رأسي بشدة بالأرض بكامل القوة التي بقيت في جسدي كنت أرفع رأسي لأخبطها وأضرب الأرض بشدة. أخذوا يشتمونني. أمسكوا برأسي.. وقف علي دوبا مغتاظاً من عدم حصوله على أي نتائج مرجوة لمعلومات لا أملك منها شيئاً، وأخذ يركل رأسي بحذائه بقسوة ويدوس على رقبتي ويدخل مقدمة حذائه في حلقي وهو يقول غاضباً: «بدي موتك يا عرص يا إبن الـ...، تريد أن تموت بطلاً؟ سألبي لك رغبتك. موت يا إبن العاهرة". وسمعت شتائم لم أسمعها طيلة حياتي من بشر. ثم تناول خيزرانة وإخذ يضربني بها على مختلف أنحاء جسدي.. وهشام يشاركه الضرب بكابل نحاسي.. لقد فقد صوابه. تكسرت عصاه. تناول الكابل من يد هشام وأخذ يتابع ضربي بشكل هستيري. لم أعد أشعر. غبت عن الوعي تماماً. بعد مضي ساعات وجدت نفسي في مشفى لا أعرفه، علمت فيما بعد أنه مشفى المزة، حيث قضيت سبعة أيام، أعدت بعدها إلى فرع تحقيق المنطقة حيث قضيت خمسة عشر يوماً ملقىً على أرضية غرفة تقع تحت الأرض، محشوراً مع خمسة وخمسين رجلاً في أربعة أمتار مربعة لا نعرف ليلاً من نهار، عيوننا معصوبة في الليل والنهار وأيدينا مكبلة بالأصفاد طيلة أربع وعشرين ساعة، والسجان مقيم معنا في الغرفة، كل عدة ساعات يغيرون السجان الذي يحمل في يده كابلاً نحاسياً لمعاقبة كل من يحاول الكلام مع جاره. العقوبة ضربات وركلات وشتائم لكل من يهفو بحرف إلى جاره الذي يلتصق جسده بجسده، أو حاول التخفيف من أثر العصبة التي على عينيه بأن يحك عينه من فوق العصبة الجلدية الضاغطة على العينين.
أنا شخصياً كنت في شبه حالة انفصال عما يحدث، لأني أعاني من آلام حادة في كافة أنحاء جسدي. لم أكن أستطع الوقوف أو المشي من دون مساعدة أحد للسير أمتار عدة خارج الغرفة لقضاء حاجتي في التبول. أما التغوط فلم يحدث، فقد أصبت بإمساك حاد، طيلة أسبوعين لم أستطع التغوط، ما أدى إلى إصابتي بتشققات شرجية توسعت مع سني السجن الطويلة الخمسة عشر، وعانيت بسببها آلاماً مبرحة. اكتشفت بعد استعادتي لوعيي بالتدرج أني مصاب بشلل نسبي في يدي. فأنا لا أستطيع حمل السندويشة بأصابعي، بل بجماع كفي وكذلك كأس الماء. وبقيت حالة الشلل هذه مدة عشرة أشهر تقريباً، ثم أخذت تتلاشى بالتدريج.. كما أصبت بتمزق في غضروف ركبتي اليمنى. أجري لي عمل جراحي في بداية عام 1993، وتم استئصال الغضروف الممزق في مشفى حكومي. وها أنا أكتشف بعد أربعين يوماً من إطلاق سراحي أني مصاب باللوكيميا "ابيضاض الدم". رغم أني غادرت السجن إلا أنه لم يغادرني، فآثار آلامه تغلغلت في دمي، لكن روحي ما زالت تهفو إلى الحرية والكرامة والعدالة.
ليست هناك تعليقات