Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

أحمد العجمي... في جنوح الشعر

ما هو الوجود الذي يستغرقه الشعر؟ لحظة التفكير في إجابة عن هذا السؤال تظهر رؤية طاقة الشعر التي تتحرك من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إ...



ما هو الوجود الذي يستغرقه الشعر؟ لحظة التفكير في إجابة عن هذا السؤال تظهر رؤية طاقة الشعر التي تتحرك من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل كثورة مستمرة على كل نمذجة وتقنين، وعلى السجن الذي في المخيلة وفي العقل، كما تتراءى مغامراته عبر الاتجاهات والزمن لتوسّع وتعمّق منهما وتمنحهما نضارة روحية متجدّدة. الشعر يختصر تاريخ أية حركة لأنّه أقوى وأنشط منها، وهو يتحرك في أبعاد الزمن وفي لحظة زمانية واحدة؛ فمن بؤرة الحاضر يفتح الماضي من أجل المستقبل.
إذا قلنا إن الشعر هو عملية بحث في كل شيء، وفي كل نشاط حدث أو سيحدث؛ فإنّنا نتقصّد بذلك عدم تسطيح الشعر وتجريده من طبيعته أو الزّج به في بقعة ضيّقة ترغمه على الفشل، أو وضعه على محور واحد يجرّده من تعدّد رؤاه، وإنما نذهب إلى استثمار جنونه وتفلّته الدائم للتوغل فيه وبه في ذات اللحظة. فالشعر غير خجول وهو شجاع بل مغامر.
من قوة الشعر، أنّه يتعالق مع الوجود كله من خلال معانيه المتنوعة؛ فهو يتجلى في العناصر المتناهية الصغر ليضخّمها ويمنحها ظلالاً نشطة ومتمدّدة، كما بإمكانه تكثيف الكون ووضعه في حدقة عين الصقر. فهو يخوض تجاربه بلا تخوم أو محرّمات أو منطق، ولا يقيم اعتباراً أو وزناً للفواصل في الواقع أو في أذهاننا. الشعر يفرض تطفلاته على كل الأشياء.
فليس من الغرابة أن يتجرأ الشعر على الخوض في منازلات الفكر والعلم، ولكن بشروطه ومنهجه كي يحافظ على كينونته وجوهره الخاص به. فمثلما بذكائه يترصّد ارتعاشة ضوء نجمة في سطل ماء، ويرسم أثرها على الروح الإنسانية، فإنّه لا يتردّد في فتح نوافذه على المرعى الواسع والمبهم للفضاء ولأجرامه عبر أزمانها وأماكنها المنعكسة على مسار وجود الإنسان وتاريخه. يستطيع الشعر استرجاع العالم وتخزينه.
إنّ القلق الذي تحدثه طاقة الشعر ينمو دون أن يكتمل، ليقود عبر تساؤلاته وخيالاته إلى عالم آخر يفيض في كل اتجاه. ولعلّ هذه الطاقة هي ما سمحت لهذا العمل ليكون كما هو؛ عمل يتعارك فيه العقل مع المخيلة، ويتمازج العلم مع الخرافات لينتج عالمه الماورائي، الذي لربما يسحرنا ويدهشنا، لكنه بالتأكيد يتحدانا.
وفي داخل الجوزة يتوغل الشعر بطاقاته المتعددة ليكثف العالم والوجود في بؤر ثلاث، هي: نشوء الكون وخلقه، ثم تطور الحياة على الأرض، وأخبراً تاريخ الإنسان. ففي البؤرة الأولى ( بياض بلا عظام)، تتجلى تشظيات صور الكون في ذاتها، وفي انعكاسها على الوجود والتفكير الإنساني؛ حيث يُسرف الشعر في ضغط الزمن والفضاء أمام البصر، ويلمّح ويغمز إلى انصباب الكون في مرآتين، الأولى لامّة، تتمثل في المخيلة الإسطورية التي صاغت رؤية وتصورات سحرية مارست سطوتها طويلاً على العقل وطبيعة الوجود، وحشرته ونظّمته خضوعياً للسماء بغموضها، وبآلهتها، عبر الأساطير والأديان. وفي المرآة الثانية، المُفرّقة، المتمثلة في العلم الذي كشف الغطاء بمصطلح ومفهوم آخر وجديد، وهو الفضاء. والإنسان في علاقته بالكون عاش تاريخه القديم في علاقة عمودية مع السماء، وبنى تصوراته وتخيلاته سحرياً، لكنه بعد اللحظة العلمية أخذ يكسر هذه القشرة لرؤية ما بداخلها من فضاء. فإذا كانت السماء قبة، فإن الفضاء فراغ لا تخوم له.
وفي البؤرة الثانية ( قلب أخضر مع أزرق) ينشغل الشعر بصياغة كيميائيته عن انبثاق الحياة وتطورها على كوكبنا عبر اختزال تجتمع فيه عناصر النقص الضروري كي تخلّصه من جفاف العلم، لتُشاهد الحياة تتوسّع وتتنوّع وتنتصر على قوى العجز. والشعر هنا يقود بصرنا في المتاهات الزمنية ليؤمّن لنا جشعاّ لغوياً يتفوّق على عقلية الموضوع؛ إنّه يفكر ببروقه وإشاراته خارج الذهني ليرينا صورتنا النهائية غير المحايدة، صورتنا المهتزة وغير المرتاحة لوجودها في الطبيعة، وتأخذ روحه المهيمنة في الإنزلاق نحو قتل وإبادة كل ما ولّدته ورعته الطبيعة. فبالعقل المتفوّق الذي حصل عليه يعيد الإنسان، وبلذة، تخليص الأرض من جمالها وعبقريتها ومن روحها المبدعة، عبر تدمير مريع ومتواصل لكينونتها وجوهرها. الشعر هنا يُخرجنا من البراءة.
بلسان النار والرياح يتكلّم الشعر عن تاريخنا في بؤرته الثالثة ( مكر المصباح)، فيقشّر بإرادته الفنية الأمواج الوجودية، التي تبادلنا معها الصياغات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويظهر ما توارى خلف سحب النسيان من صراعات ضرورية في أحواض البهجة والآلام، ليبيّن الفشل الذي اعتبرناه انتصاراً، والمتمثل في الحروب. يحطّم الشعر بفيضه المكر الذي مارسناه ضد أنفسنا وصغنا به تاريخنا، تاريح الحضارات والأساطير، تاريخ البغضاء الثقيلة والحب القليل. الشعر هنا لا يلعب دور المخدر والمخلص من الآلام الفردية، بل الضاغط على الحزن والحقيقة، والمنبّه للنقاط المظلمة البعيدة التي تقف على الخط الذي نضع عليه خطواتنا. وبعد أن يُشبع الشعر رؤيته الإشعاعية التي تخترق الدائرة الزمنية لحقب تاريخية للإنسانية، يتجرأ ليقدّم رؤاه حول مصير غامض ومجهول ومخيف للإنسان الذي يستعيض عن الطبيعة بالمعادن، ويخلق ذكاء اصطناعياً لا يقدر السيطرة عليه، فهل تتمثل النبوءة في هيمنة الكائن المعدني على الفقاعة المائية. الشعر دائماً يكشف النقص والخلل.

أحمد 

هناك تعليق واحد