محمد حجيري الثلاثاء 07/05/2013
يعجز المرء اليوم عن إيجاد أغنية حدثية تطربه. بين فنانات فائقات التبرج، و"ممتلئات" بعمليات التجميل التي تطال كل شيء إلا أصواتهن، وبين شاشات وقنوات "يوتيوب" تبث طوال الليل والنهار أغاني وفيديوكليبات مبتذلة، مكرورة وإستهلاكية، لا يصادف المستمع أغنية أصيلة، إن أمكن القول. إنما قد يكون هذا الرأي خاضعاً لتعميم ما، سببه التشويه الحاصل لزمن الأغنية العربية. وفي المقابل، نجد تعميمات أخرى، طبقت على أزمنة سابقة. إذ لطالما يتم ربط "الكبار" و"عمالقة الفن" بـ"الزمن الجميل" والأصالة والرصانة، فيما يوصف "زمن الفيديوكليب" بالهابط والرديء. لكن في الوقائع، ثمة كمّ من الطقاطيق لكبار الفنانين تتضمن الكثير من الإسفاف البديع.
قلّما يتم التطرق إلى طقاطيق الكبار في الدراسات النقدية، وقد باتت الآن أشبه بـ"المحرمة" كما وصفها موقع "معازف" الموسيقي، الذي نشر "يوتيوب" لعشر أغنيات ممنوعة لأسباب سياسية ودينية، وبعضها الآخر بسبب الإبتذال. وتبدو هذه الأغاني نقطة في بحر الطقاطيق القديمة ذات التعابير المباشرة والمحطّمة لجدران "التابوهات" وما يسمى "الذوق العام".
لا ترتبط الطقاطيق الهابطة بفنان بذاته. كتبها بعض من أبرز وجوه النظم الشعري "الزجلي" من المعمَّمين (أي من الشيوخ وحفظة القرآن)، ولحّنها معظم الموسيقيين (من زكريا أحمد إلى القصبجي)، وغناها جميع المطربين والمطربات و"العوالم"، من أمثال "السلطانة" منيرة المهدية ونادرة أمين وفاطمة سري ونعيمة المصرية وسعاد محاسن ورتيبه أحمد ونجيبة مراد وسميحة البغدادية وعزيزة حلمي وزينب المنصورية وسكينة أحمد وبهية المحلاوية ومحمود مرسي وصالح عبد الحي، من دون أن ننسى "الست" أم كلثوم.
وكان للشيخ (المعمَّم) محمد يونس القاضي، النصيب الأكبر من كتابة الطقاطيق، من بينها طقطوقة لمنيرة المهدية بعنوان "إرخي الستارة اللي في ريحنا" تلحين زكريا أحمد، و"بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة، انس اللي فات وتعال بات ليلة التلات" تلحين محمد القصبجى، و"فيك عشرة كوتشينة" من تلحين محمد عبد الوهاب وغنائه.
اللافت أن صاحب هذه الأغاني "الخليعة" هو نفسه صاحب الكثير من الأغاني الطربية الشعبية العالقة في ذاكرة العرب ووجدانهم، مثل النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي بلادي/ لك حبي وفؤادي"، وأغاني سيد درويش مثل "أنا هويت وانتهيت"، و"زوروني كل سنة مرة"، "خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب"، "أنا عشقت وشفت غيري كتير عشق"... واللافت أيضاً أن يونس القاضي عندما تولى منصب رقيب المصنفات الفنية في وزارة الداخلية المصرية، من بداية الأربعينيات وحتى 1953، كان قبوله لهذا العمل بداية النهاية بالنسبة إليه، إذ أصدر أمراً بمنع أغانيه "الماجنة" ووصفها بأنها "تمس العفاف".
تعتبر طقاطيق القاضي مهذّبة إذا ما قيست بطقاطيق لحنها زكي مراد (والد الفنانة ليلى مراد) لنعيمة المصرية مثل "أنا نايمة، كترت الأحلام"، و"أنا بنت خفة وأختشي" لعزيزة حلمي. كذلك لحن زكريا أحمد "النبي توبة" لنعيمة المصرية، وتقول: "والنبي توبة ماني شاربه معاك دي كانت نوبة وعرفت هواك/ والنبي توبة". فيما قدّم جميل عويس لسميحة البغدادية "على سرير النوم دلعني" ولفريدة مخيش "فين حزامي يا نينه"، فضلاً عن طقطوطة "تعال يا شاطر نروح القناطر" نظم بديع خيري وألحان زكريا أحمد. وتزخر المواقع الإلكترونية بكلمات الطقاطيق التي تدل على أريحية ذاك الزمن.
ولم يقتصر أداء الطقاطيق على السكارى في الصالات والملاهي، بل تجاوزه إلى شركات الأسطوانات التجارية التي شجعت الفنانين على المزيد. وسجلت تلك الأغاني على أسطوانات كانت تدخل كل بيت، وكانت الاسطوانات من الاختراعات الفنية المرغوبة آنذاك، وتشبه في أيامنا هذه التلفزيون والإنترنت. واليوم، يستغرب البعضهم أن تكون لسيّد مكّاوي (الشيخ المعمَّم أيضاً)، صاحب "الأرض بتتكلّم عربيّ" و"حيران على باب الغفران" الدينية، أغنية "مقهاوية" تتضمن ألفاظاً صريحة، وقد قالها في جلسة خاصة وهي صادمة لمباشرتها وفجاجتها، وصادرة عن فنان وُسم بالطهرانية.
ولعل أبرز طقطوطة يركز عليها النقد الموسيقى، تلك التي قدمتها أم كلثوم بعنوان "الخلاعة والدلاعة مذهبي"، التي أثارت ضجة كبيرة جعلت المعنيين بفن أم كلثوم يُلّحون على إقناعها بضرورة سحب الأسطوانة. اعترضت شركة التسجيل على ذلك وكان الحل أن أعيد تسجيل الأغنية لتصبح "أنا اللطافة والخفة مذهبي". ارتضت أم كلثوم في بدايتها غناء الطقطوقة هكذا، لكنها ما إن أصبحت نجمة حتى صارت تفرض الكلمة التي تريدها، تغيّر في القصائد بما يتناسب وذوقها، وكانت تحذف الأبيات المتعلقة بالخمر لدواع دينية، لكنها شذّت عن ذلك مرة واحدة عندما غنت "هذه ليلتي" للشاعر اللبناني جورج جرداق.
يمكن القول إن غالبية الفنانين تتصرف مع انتقاء الأغاني كمهنة قبل أي شيء. والأغاني تتبع زمنها التجاري والميديائي، سواء كانت وطنية أو عروبية أو طربية أو هابطة. وما تقوله مغنية الكليبات بجسدها راهناً، كانت تقوله أيام زمان مطربة الأصالة بكلماتها وبحّتها المثيرة، كما الحال في صوت منيرة المهدية والتونسية حبيبة مسكية... وللطقاطيق قوّتها في زمن ما قبل الصورة وما قبل الإعلام الإجتماعي والإنترنت، كانت مفتاح التخيلات والإستيهامات، كأن المطربة كانت تغنيها مع الصوت الطربي فيصبح للطقطوقة المقهاوية وقع آخر ربما يكون أشد فتكاً من سحر الصورة، هو وقع يمكن وصفه بالإسفاف الجميل.
يبقى فقط أن نفكر في الإتهامات والإدانات التي كانت ستُكال لهيفاء وهبي لو أنها غنت "على سرير النوم دلعني"؟