الأكلات الطقوسية ... مقاربة في التاريخ الثقافي للمطبخ

alrumi.com
By -
0

صادق الطائي  


لطلما ارتبطت الاطعمة بالطقوس في تاريخ الانسان وعبر حضاراته، ومثلت الاضاحي الحيوانية وما يقدم من الاطعمة في المناسبات والاعياد الدينية والاجتماعية جزءا اساسيا من الطقس الذي لايتم دون تقديم وجبة طقوسية،وهذه الطقوس بحسب علماء الانثروبولوجيا هي الروابط التي تشد المجتمعات وتقوي اواصرها، كما انها تمنحها الهوية التي تمايزها عن المجتمعات الاخرى، وتجدر الاشارة الى ان للوجبة الطقوسية ما يميزها اما من حيث المواد المستخدمة او طريقة الطهي او طريقة التقديم ، كما انها عادة ما تقدم مجانا ولعدد من المشاركين في الطقس الديني او الاجتماعي مما يجعلها حامل ثقافي يجب دراسته عبر عمليات الحفر في التاريخ الثقافي للمجتمع، وقد بقي موضوع الطبخ والطعام من المواضيع الهامشية في العلوم الاجتماعية حتى ثمانينات القرن العشرين حيث تمت دراسته كنسق اجتماعي مهم لفهم ثقافة المجتمعات . 


 يرى البروفيسور سامي زبيدة عالم الاجتماع العراقي في الكتاب الذي حرره مع الباحث الأنثروبولوجي ريتشارد تابر وصدرت ترجمته العربية بعنوان (مذاق الزعتر: ثقافة الطهي في الشرق الأوسط)، أن الطعام يعد علامة ثقافية بارزة حيال الحدود الاجتماعية، فقبل ظهور القوميات السياسية بمعناها الحديث، كانت هذه الحدود هي التي تميز بين الجماعات العرقية أو الدينية أو الجهوية كما يرى عالم الأنثروبولوجيا البريطاني بندكت أندرسن أن الجماعات المتخيلة تتخلق عبر اختلاط الخرافة بالحقيقة وربما كان اوضح تجلي لاختلاط الاساطير بحقائق التاريخ بالمعطيات المادية تتجلى في الوجبات الطقوسية .

ربما كانت اقدم الوجبات الطقوسية لتي عرفها الانسان والتي ماتزال حية لحد الان هي الوجبة التي تقدم في عيد شم النسيم في مصر، وهو عيد الربيع المصري الذي يحتفل به في فترة الاعتدال الربيعي حيث يقع بين 4 أبريل/نيسان و 8 مايو/ايار، ففي هذا العيد اعتاد المصريون منذ الاف السنين على تناول السمك المملح المحفوظ  لمدة طويلة المعروف بـ (الفسيخ) مع البصل الاخضر والبيض المسلوق والليمون، ولعيد شم النسيم طقوس احتفالية تتجمع فيها العوائل في المتنزهات والحدائق حيث يتشاركون وجبات طعام العيد مع بعضهم البعض، وقد انتقل هذا الطقس الى الديانة اليهودية في عيد الربيع اليهودي المعروف بعيد (الفصح ) وهي كلمة عبرية تعني العبور او الخروج ،وتشير الادبيات الدينية اليهودية الى ان خروج بني اسرائيل من مصر قد تم في عيد شم النسيم ليتسنى لهم الهروب دون ان يثيروا الريبة ، وقد انتقل لهم طقس عيد شم النسيم حيث يتم الاحتفال بالنجاة حتى يومنا الحاضرفي نفس التوقيت، وكانت تقدم فيه وجبات طقسية تقارب الاكل المصري مضاقا لها انواعا من لحم الاضاحي الواجب تقديمها على كل يهودي في هذا العيد ، وهذا الطقس انتقل الى الديانة المسيحية في عيد القيامة ، حيث تشير الدراسات التاريخية المسيحية الى اشهر وجبة طقسية في تاريخ الديانة وهي ( العشاء الاخير ) الذي جمع السيد المسيح فيه حوارييه الاثني عشر في وجبة عشاء (سماوية) هي وجبة عيد الفصح ، ثم تلى ذلك في اليوم التالي صلبه ثم قيامته ، لذلك تزامن عيد الفصح اليهودي مع عيد القيامة المسيحي مع عيد شم النسيم المصري ، وماتزال الكنيسة القبطية المصرية وهي من اقدم الكنائس تاريخيا تحتفل بالجمعة الحزينة ثم سبت الالام فاحد النور يتبعه يوم الاثنين عيد شم النسيم في مصر ، ومن بيض شم النسيم المصري الذي انتقل الى اليهودية لرمزية البيضة وماتمثله من اسرار الخلق حيث تخرج الحياة من الموت انتقل الطقس الى المسيحية في بيض عيد القيامة او ( بيض ايستر ) الذي لونه المسيحيون بعد انفصال طقوسهم عن عيد الفصح اليهودي وبيضه الابيض للتميز ، وتقول الاسطورة المسيحية أن القديسة مريم المجدلية كمواطنة رومانية ذهبت إلى قيصر روما لرفع احتجاجها على صلب المسيح، وقامت بشرح قصة محاكمة المسيح وصلبه وقيامتة، عندها أوقفها القيصر وقال لها لو أن لون البيض يتغيرامام عيني الى اللون الأحمرعلى ان أصدق ان المسيح قد قام من الموت لما صدقت ، فما كان منها الا ان أخذت بيضة وقالت: (المسيح قام) فحصلت المعجزة وتحول لون البيض إلى أحمر، ومنذ ذلك التاريخ اتبعت الكنيسة هذا التقليد بصبغ البيض تأكيداً على قيامة المسيح. وكذلك لرمزية البيض فكما أن فرخ الدجاج يشق البيضة ويخرج إلى الحياة هكذا شق المسيح القبر وقام من الأموات، وهو تقليد مسيحي أرثوذكسي مستمر ومعتمد بالكنيسة الى يومنا هذا.

اما عند المسلمين الشيعة فان الوجبات الطقسية كثيرة ، وربما كان اشهرها ما يقدم في الايام العشرة  الاولى من شهر محرم المعروفة بعاشوراء، تزامنا مع الطقوس الحزينة التي يقيمونها لأستذكارمقتل الامام الحسين بن علي(رض)، ومن اشهر الوجبات الطقسية هي (الهريسة) وهي نوع من الحساء الكثيف المكون من حبوب الحنطة المخلوط بقطع اللحم الذي يهرس مع بعض على نار هادئة لساعات طويلة، ويتم اعدادها في ليلة التاسع من محرم لتقدم صباح العاشر للمشاركين في مراسيم العزاء الحسيني، وتنتشر هذه الوجبة في البلدان التي تتواجد فيها الطائفة الشيعية لكن المفارقة انها معروفة في مصر ايضا ، حيث تعرف باسم ( العاشورة وللاسم دلالته الواضحة) وتقدم في العاشر من محرم ، وجذر الوجبة الطقسية متحدر من مصر الفاطمية عندما كانت مصر دولة شيعية ، ولكن مع قضاء صلاح الدين الايوبي على التشيع في مصر ، بقيت الوجبة الطقسية راسخة مع زوال الطقس الحزين نفسه ، لذلك يقدمها المصريون اليوم وهم يقولون لك ( كل سنة وانت طيب ) ، وهذا مثال لرسوخ جذر الوجبة الطقسية عميقا في الوعي الجمعي حتى مع زوال مظاهره الطقسية .
 كما ان الاكلة الاشهر في وجبات طقوس عاشوراء لدى شيعة العراق هي ( القيمة ) التي تقدم مع الرز الابيض ، وهي نوع من الحساء او المرق قوامه الاساس من الحمص مع اللحم المهروس وصلصة الطماطم وله انواع معروفة حسب طريقة الطبخ اشهرها القيمة الكربلائية والقيمة النجفية ؛ فالقيمة الكربلائية تمتاز عن النجفية بكونها اكثر سيولة  واللحم المضاف إليها مقطع بينما النجفية تكون كثيفة جدا واللحم يهرس مع الحمص ، ويعتقد الكثير من البسطاء ان هذه الوجبات الطقوسية التي تقدم في عاشوراء والمرتبطة بالمكانة المقدسة للامام الحسين (رض) لها قدرات شفائية من بعض الامراض.
ومن الوجبات الطقسية الاخرى لدى المسلمين في العراق ( الزردة) وهي رز مطبوخ مع السكر ومصبوغ بنوع من اصباغ الطعام الصفراء (زردة كلمة فارسية تعني اللون الاصفر) وتقدم بعد ان يوضع على الطبق علامة (+) من مادة القرفة المطحونة ( الدارسين ) وهذه الوجبة خاصة بالاحتفال بالمولد النبوي ، اما رمزية علامة الصليب المرسوم بالقرفة على طبق الزردة فيحتاج الى عملية حفر معرفي للبحث عن جذر ربما يربط هذه الاكلة بطقس مسيحي تحدر من سكان العراق الاصليين الذين كانوا يعرفون الرز ويزرعونه ويطبخونه وكان اغلبهم يدين بالمسيحية .
ان الوجبات الطقوسية موجودة في كل الاديان ، كما انها تتحرك وتنتقل من ديانة الى اخرى ومن ثقافة الى اخرى نتيجة الاحتكاك والتبادل الثقافي ، ويمكننا ان نراها حتى في الاديان القائمة كمنظومة اخلاقية اكثر منها دينية كما هو الحال في البوذية او الكونفوشيوسية ، حيث يقدم المتدينون من هاتين الديانتين وجبات طقسية توضع في المعابد كنوع من النذور ، فاذا اكلت كان معنى ذلك ان صاحب القربان او الوجبة الطقوسية قد تحقق نذره ، ومن الطريف ان نذكر ان الفيلسوف الصيني «كنفوشيوس» قد سئل مرة عن مكائد الحروب وأساليبها فكان جوابه (لقد سمعت ، أمورا تتعلق باللحوم، وأحجام الأطباق التي توضع عليها، لكنني لم أتعلم الأمور الحربية)؛ كما أن «كنفوشيوس» نأى بنفسه عن استخدام السكين في الأكل، معللاً ذلك بأنه ليس من الأخلاق أن يستخدم الإنسان أداة قتل أخيه الإنسان في أمر نبيل مثل الأكل، ومنذ ذلك التاريخ أصبح استخدام عيدان الأكل في تناول الطعام لدى الصينيين بديلاً عن السكين، واستمر استخدام هذه الأداة حتى اليوم 
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)