
إن توقفي لأسابيع عن نشر الأوراق المطويّة الخاصة بالفنّان صليبا الدويهي لا ينبغي أن يحمل أحداً على الظنّ أن الموضوع قد إستُنزف. على العكس، فإنّ ثمّة حبراً كثيراً يمكن أن يُراق عليه. لكنني أوليت بعض الجوانب التاريخيّة، واللغويّة، والوجدانيّة، إنتباهاً، على صفحتي كي أرضي أوسع مروحةٍ ممكنة من متابعيها، بتنويعي لما تحتويه من مواد. وسيظلّ هذا دأبي في المرحلة المقبلة. أكمل بصليبا، دون أن أعزف عن تنويع مضامينها. فارضي الخوري، ولا أزعل الخوريّة. إنّما إلتمس رضاهما معاً.
المقال المكشوف عنه النقاب أدناه يحمل توقيع صديقه المؤرّخ، والصحافي يوسف إبراهيم يزبك. وقد نشرته جريدة "صدى الشمال" في عددها الممتاز الذي صدر في 11 تموّز 1937. وهنا ما جاء فيه:
صليبا الدويهي
إني سعيد جدّاً بهذه الفرصة التي تتاح لي اليوم لأكتب كلمة عن صديقي الفنّان الموهوب الأستاذ صليبا الدويهي الذي شجّعته حكومة بلاده ناشئاً وتلميذاً وساعدته على إكمال دروسه الفنّية في أوروبا، فلمّا رجع إليها ناضجاً مثّقفاً، وأستاذا منتجاً، أهملت وجهلت أمره.
وأخاف أن يكون حظّه من بلاده ومواطنيه حظّه من حكومتهم....

نحن في العالم العربي بحاجة الى الفنّانين حاجتنا الى الوعي السياسي، والى الحرّية الصحيحة، والى التربية الديموقراطية، والى كل ما ينقصنا في حياتنا الوطنيّة. والفنّانون الموهوبون كالدويهي ليسوا كُثُراً لسوء الحظ، بل أنهم قلائل، بل أنهم أقلّ من أصابع الكفّ الواحدة عدّاً... ولا نُغرّنّ بتطبيل، وإدّعاء، وغرور يرافق بعض الأسماء في عالم الفنّ لكسب العيش. فالحقيقة الحقيقة هي أننا ما نزال في تهجئة الألف باء من هذا المعجم .

سأذهب في الصراحة الى أبعد مّما قلت: أريد أن أعلن أن الشمال لم يعرف قبل صليبا الدويهي في عالم التصوير فنّاناً بالمعنى الكامل، الصحيح، لكلمة فنّان. وأريد أن أقول أن المكانة التي تمتّع بها فقيدنا العزيز جبران خليل جبران برسومه – ونحن فخورون بها جدّاً- ليست لتُقاس بالمكانة التي (يجب) أن يتبوّأها الدويهي لأن الحياة والفنّ والجمال في رسوم الثاني لأسمى من أن تصل إليها ريشة الأوّل... ومع هذا فقد كان الحبيب جبران كبيراً وعظيماً بأدبه وفنّه، فكم يكون صليبا أكبر وأعظم إذا أتيح له ما أتيح لجاره؟
إن الشعوب العربيّة بحاجة الى فهم الجمال وتذوّقه، لأن هذا الفهم وهذا التذّوق يساعدان على إذكاء نار التحّرر فيها. ثم أن الجمال عنصر جوهريّ من عناصر الحياة، والمصّورون الموهوبون هم من الذين يكملون برسومهم الرائعة بناء صرح هذه الحياة. فكم هي ثمينة ريشة صليبا الدويهي وزملائه الناضجين بثقافتهم الفنّية؟ وكم هي قيّمة خدماتهم الغالية لهذه البلاد؟

آه كم نرى فنّانين وأدباء يبنون شهرتهم بالتدجيل والتطبيل هم في نفوسهم مجموعة الحسد واللؤم والدسّ والكذب والصغارة وهم في أعمالهم يستغلون أديانهم للعيش والإستعلاء. الاّ بئس فنّ هولاء المحترفين، وبئس أدبهم.
وآه كم نحن بحاجة الى الفنّان النبيل الخلق والكريم النفس، والوديع الشمائل، كالبنفسجة العاطرة يعبق الجوّ بأرجها وهي متوارية بين أوراقها. آه كم نحن بحاجة الى أمثال صليبا الدويهي.

يوسف إبراهيم يزبك
وقد صحّ من المؤرّخ، والصحافي الراحل يوسف إبراهيم يزبك التوقّع. فهجر الدويهي لبنانه الى بلاد الناس حيث كانت تنتظره شهرة مدويّة سيحرزها على مرّ السنين بالكدّ، والإجتهاد، والمثابرة، والتفوّق على النفس. وسينتزع تقدير وإعجاب الغرب، سواء في الولايات المتحدة الأميركية حيث ستكون إقامته الأطول، أو في لندن، فباريس، بإنتهاجه سبيلاً فنّياً أشاع الدفء، والحرارة، في صقيع المساحات التجريديّة المعتادة،وحمّل القماشة وهجاً من شمس لبنان ، وطراوة من جباله، وعشب وديانه. وسيعرف كيف يكرّس خصوصيته الإبداعيّة، وفرادته في عالم الفنّ، في ما عبره من مراحل نحو الشهرة والخلود.