Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

عبدالرحيم أبو حسين... نقد الأسطورة التي بُنيت عن فخر الدين الثاني

 عن الحياة تواصل هذه الصفحة، كلّ يوم جمعة، نشر حلقات الدراسة المهمّة التي تتناول مرحلة مفصليّة من تاريخ التشكّل اللبناني.  نشر كمال ا...

 عن الحياة

تواصل هذه الصفحة، كلّ يوم جمعة، نشر حلقات الدراسة المهمّة التي تتناول مرحلة مفصليّة من تاريخ التشكّل اللبناني.

 نشر كمال الصّليبي في 1973 بحثاً بعنوان «سرّ البيت المعنيّ»، أثبت فيه في شكلّ منطقيّ مقنع اعتماداً على النّقوش، إضافة إلى المصادر المكتوبة، أنّ فخر الدّين الأوّل المفترض كان قد مات قبل عشر سنوات كاملة من فتح العثمانيّين بلاد الشّام، وأنّ البطريرك المارونيّ، المؤرّخ اسطفان الدّويهي (ت عام 1704) طمس ذكر الأمراء المعنيين الآخرين لمصلحة فرع معنيّ قدّم الرّعاية وخدمات كثيرة للكنيسة وللطائفة المارونيّة، وكان آخر أمراء هذا الفرع صديقاً وراعياً شخصيّاً للبطريرك الدّويهي.
من الواضح أنّ هذه الرّواية التي لا تعود إلى ما قبل القرن التّاسع عشر ما هي إلاّ محاولة من قبل مؤرّخين يعملون لدى السّلالة الشّهابيّة الحاكمة التي خلفت المعنيين، لتعزيز شرعيّة الإمارة الشّهابيّة التي كانت تواجه معارضة درزيّة متزايدة في عقودها الأخيرة. وهكذا حدث شرخ في هذه الرّواية القوميّة.
الأمير المعنيّ الآخر الذي تقدمه هذه الرّواية كضحيّة للطغيان العثمانيّ هو قرقماز معن، الذي يعتقد أنّه والد الأمير المعنيّ المعروف بفخر الدّين الثّاني، والذي يفترض أنّه ابن فخر الدّين الأوّل. مات قرقماز هذا عام 1585 بينما كان هارباً تلاحقه القوات العثمانيّة التي تتوغّل في اتجاه معقله الحصين في جبال الشّوف. أما السّبب المزعوم الذي يقف خلف هذا العمل التأديبيّ العثمانيّ فهو الافتراءات الكاذبة التي قدّمت ضدّ قرقماز هذا في الشّوف من قبل خصومه السّياسيين، وتنسب إليه المسؤوليّة عن سرقة مزعومة للخزينة المصريّة بينما كانت تمرّ على الطّريق السّاحليّ في جون عكار بشمالي لبنان، الواقعة على مسافة بعيدة من الشّوف حيث مقر قرقماز معن.
هذا ما تقوله الأبحاث التّاريخيّة الحديثة استناداً إلى رواية تعود إلى القرن السّابع عشر، أوردها البطريرك والمؤرّخ المارونيّ، وأعيد إنتاجها في كتابات تاريخيّة تعود إلى القرن التّاسع عشر.
إلّا أنّ البحث التّاريخيّ اللاحق، المستند إلى المواد الأرشيفيّة العثمانيّة والمصادر التّاريخيّة المعاصرة لتلك الفترة، أثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ ما يلي:
أوّلاً، لم تحدث أيّ سرقة للخزينة المصريّة تلك السّنة، وقد سلّمت كاملة غير منقوصة إلى اسطنبول. ثانياً، كان لدى العثمانيّين كثير من الأسباب الأساسيّة الطويلة الأمد، التي تدعوهم لمعاقبة قرقماز ودروز آخرين، أهم من مجرّد حادثة سرقة. وأبرز الأسباب الدّور القيادي الذي لعبه قرقماز والدّروز إجمالاً في التمرّد المسلّح في القرن السّادس عشر. وجرت الإشارة مراراً إلى قرقماز معن خصوصاً بأنّه كبير المتمرّدين الدّروز، وأنّ فساده وأعماله الشّريرة تفوق كلّ شرور الآخرين مجتمعة.
من الواضح أن قرقماز لم يكن متفرّجاً بريئاً، أو ضحية التّآمر عليه، بل متمرّداً خطيراً. يضاف أنّه لا بدّ أنّ الدّور الخارجيّ، بل الأوروبيّ تحديداً، المتعاظم في التحريض على التمرّد في المناطق الدرزيّة، ومدّه للعناصر المحليّة بالأسلحة النّاريّة، أثار قلق العثمانيّين.
بوفاة قرقماز أصبح المسرح مهيئاً لتقديم البطل الوطنيّ اللبنانيّ بلا منازع: فخر الدين الثانيّ. كان اللبنان المفترض هو لبنان فخر الدين الذي عاد إليه دعاة الوطنية اللبنانية، واتخّذوه سابقة للوطن الذي يأملون بتأسيسه في القرن العشرين. وقد رسمت حدود لبنان المنوي تأسيسه على أساس أنّ تلك الأراضي كانت أراضي لبنان في عهده.
فخر الدّين هذا، كما تصوره الرّواية القومية اللبنانية والكتب المدرسية، «بطل لبنان الأوّل والمثل الأعلى للقائد الوطني الملهم المسئول الذي يجسد روح الأمة اللبنانية، وأمانيها السّامية»، والرواية تؤكد أيضاً على ما تقدمه كحقيقة تاريخية: «أنّه أوّل من سعى إلى تحقيق الكيان اللبناني والوحدة اللبنانية، وأوّل من ناضل في سبيل استقلال لبنان عن الدّولة العثمانيّة، وأوّل من عمل على تطوير البلاد وإدخال التجديد عليها في شتّى النّواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة». واستعان الكتّاب الوطنيون اللبنانيّون في رسمهم للصورة المثاليّة لفخر الدّين ببعض كتابات الرّحالة الأوروبيين والكتّاب والمستشرقين.
هكذا يكتب الأب أوجين روجيه: «كانت نفسه طامحة للمجد، وكانت شجاعته المتحفّزة تأبى عليه الاكتفاء بما كسبه أسلافه»، والأب هنري لامنس يرى أنّ الرجل كان «بمفاهيمه الجريئة والمغامرة أحياناً، متقدّما حقّاً على عصره». ويصفه مؤرّخ لبنانيّ محدث بما يلي: ما كان يتحلى به من قيم ومفاهيم أخلاقيّة هي أقرب إلى أخلاق الملوك منها إلى أخلاق العامة»، وكان «إداريّاً فذّاً وسياسيّاً قديراً، ذكيّاً نشيطاً حاد البصر والبصيرة». وكما أشير سابقاً، وكما يليق ببطل قوميّ، بُنيت شجرة نسب مُحكمة ومفصّلة للعائلة المعنيّة أصبح لفخر الدين بموجبها نسب عربيّ نبيل وعريق. كذلك، في ضوء تعدّديّة المجتمع اللبناني، وربما بسبب الدّور المارونيّ الراجح في لبنان الحديث، وما اشتهر عن العلاقات الوديّة بينه وبين الموارنة، والكنيسة الكاثوليكيّة عامّة، زعم البعض لفخر الدّين، بعد وفاته، تنشئة مارونيّة.
كان كمال الصليبي قد أخضع هذه الصّورة المثاليّة للرّجل للتمحيص قبل أن يبدأ استخدام الأرشيف العثمانيّ في دراسة التّاريخ اللبنانيّ بوقت طويل، وذلك بوضعه أمانته المهنية كمؤرّخ قبل مشاعره الوطنيّة التي لا شكّ فيها واستعمل، إضافة إلى المصادر «اللبنانية»، مصادر أخرى تتمتّع بمصداقيّة أكبر، خاصّة المصادر المعاصرة، بما فيها التي كتبت في دمشق. جاء ذلك في سياق سلسلة محاضرات نظّمتها جامعة الكسليك (التي تديرها الرهبانيّة المارونيّة) في موضوع «أبعاد القوميّة اللبنانيّة». والجامعة نفسها طبعت المحاضرات على شكل كتاب لاحقاً، وتضمّنت محاضرات مثل «أثر الإمام الأوزاعي في تكوين القوميّة اللبنانيّة». وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الإمام الأوزاعي كان فقيهاً سنياً من القرن الثّامن، عاش في بعلبك وانتقل إلى بيروت وتوفّي في ظاهرها، حيث مدفنه إلى اليوم.
فككّ الصّليبي قصّة فخر الدّين وأعادها إلى عناصرها الأساسيّة المكوّنة، وتوصّل إلى الاستنتاجات التّالية بعد مناقشة مستفيضة للرّوايات القوميّة ومصادرها: في قضية من هم المعنيون؟ رفض الرّواية التّقليديّة لأنّه «ليس هناك في التّواريخ ما يثبت صحّة هذه القصّة. بل هناك في القصّة ذاتها أخطاء تاريخيّة واضحة». تابع بعد ذلك مسألة وصول المعنيين إلى الشّوف، وأوضح أنّ بداية أمرهم هناك تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر، وليس بدايات القرن الثاني عشر كما تؤكّد الرّواية التّقليدية. يعالج الصّليبي بعد ذلك قضيّة نشأة فخر الدّين في كنف عائلة من المشايخ المورانة، ويخلص إلى رفضها معتبراً إيّاها محاولة لاحقة لشرح العلاقة بينه وبين آل الخازن من مشايخ الموارنة. وفي هذا الجزء هناك العديد من القصص الجانبيّة التي رفضها أيضاً. وفي الختام يعالج مسألة الخطّة المفترضة لفخر الدين «لخلق كيان لبنانيّ موحّد، وهل نجح عن قصد أو غير قصد، في خلق مثل هذا الكيان؟»، وفي ذلك يتوصّل الصليبي إلى الخلاصات التّالية:
«فخر الدّين، إذن، لم يمدّ سيطرته فقط على المناطق اللبنانيّة، بل أيضاً على الجليل وفلسطين وشرق الأردن والداخل الشاميّ حتّى تدمر... والواضح أنّ الأمير، في توسّعه هذا، لم يطمح إطلاقاً إلى تحقيق مخطّط معيّن لجمع المناطق اللبنانيّة في دولة موحّدة...». كذلك، «كانت لفخر الدّين... مكانة خاصّة في المناطق اللبنانية مختلفة أساسيّاً عن المكانة التي كانت له في المناطق الأخرى. وذلك على رغم أنّه لم يع الفرق، على ما يبدو، ولم يفكّر يوماً بدمج المناطق الدّرزيّة والمارونيّة المختلفة، دون غيرها، في إمارة لبنانيّة موحدة».
يخلص الصّليبي في نهاية بحثه إلى أنّه: «ما أن ظهر هذا الكيان اللبنانيّ بوضوح في عهد الأمير بشير الشّهابيّ الثّانيّ حتّى أخذ اللبنانيون يبحثون عن تفسير تاريخيّ لهذا الكيان، فبرزت أسطورة فخر الدّين، الأمير الدّرزي الذي تربّى في بلاد الموارنة وقضى حياته في السعي البطوليّ الواعي إلى خلق وحدة لبنانيّة. وقد ابتدأت هذه الأسطورة صغيرة في أوّل الأمر، ثمّ نمت مع نمو لبنان حتى أصبح فخر الدّين في نظر اللبنانيين اليوم، رائد الاستقلال اللبنانيّ ورمز الوحدة».
بعد ذلك بوقت طويل، أثبتت الأبحاث المستندة إلى الأرشيف العثمانيّ استنتاجات الصليبي مع تعديلات طفيفة. فالوثائق العثمانيّة كما التّواريخ العثمانيّة والمصادر المحليّة المعاصرة، ترسم صورة لفخر الدّين هذا يبدو فيها كحاكم مقاطعة في بلاد الشام تأرجحت علاقته بالعثمانيّين بين صعود وهبوط، شأنّه شأن أقرانه المعاصرين له في المنطقة. ولم يحدث أن مُنح في أيّ وقت من الأوقات لقباً أو رتبة أعلى من رتبة أمير لواء لسنجقي صيدا- بيروت وصفد. كما لم يُشَر إليه مطلقاً خارج المصادر اللبنانيّة المذكورة آنفاً، كسلطان البرّ، لكنّه تمتّع بدعم خارجيّ كبير، حصل عليه من توسكانيا والبابويّة أساساً، وأحرز أيضاً دعماً داخلياً من الدروز وغيرهم، وهم الموارنة أساساً ممن طالبهم البابا صاحب السلطة الأخلاقيّة والروحيّة الأرفع أن يمنحوا هذا الأمير الدّرزي دعماً مطلقاً غير مشروط.
عاد الصّليبي إلى النّظر في هذه المسألة لاحقاً في سياق كتاب تفسيريّ لتاريخ لبنان، وكان قد أتيح له الاستفادة ممّا نشر حديثاً من دراسات استندت إلى المواد التي وفّرتها المصادر العثمانيّة، ليدقّق استنتاجاته حول فخر الدّين هذا، ويخلص إلى ما يلي:
في ظروف النّصف الأوّل للقرن السّابع عشر لم يكن هناك شيء غير عادي في سيرة فخر الدّين في جنوب لبنان. لقد كان زعيماً درزياً، أو شخصية بارزة، عيّنه العثمانيّون ليحكم سنجق بيروت وصيدا نيابةً عنهم، ثمّ بعدئذ سنجق صفد وأجزاء أخرى من بلاد الشّام. ولأنّه كان حادّ الذكاء ونشيطاً ومغامراً، فتح الموانئ البحريّة التي يسيطر عليها أمام التجارة الأوروبيّة، وطوّر إنتاج الحرير في مناطق الدّروز وجوارها كمحصول يدفع ثمنه نقداً للتّصدير إلى أوروبا. تقّرب التّوسكانيون منه وسايروا طموحاته (...)، وهكذا بدأت مشكلاته مع الحكّام العثمانيّين. ولأنّه كان أكثر حذراً واحتراساً من جانبولاد، تمكن من إصلاح علاقاته مع العثمانيّين كلّما تعرضت للخلل. وفي النّهاية، على أيّ حال، قادته طموحاته بعيداً جداً، وأدرك العثمانيّون أخيراً أن لا خيار لديهم للتعامل معه سوى الحرب.
رابط الحلقة السابقة:
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/25289268/التمرد-وولادة-الكيان-اللبناني-والأسطورة-التأسيسية


* أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية ببيروت

ليست هناك تعليقات