28-01-2009 | 00:00 من شوارع كوبا إلى الجدران بالقرب من أسرّة الطلاب، ما زالت الصورة الكلا...
من شوارع كوبا إلى الجدران بالقرب من أسرّة الطلاب، ما زالت الصورة الكلاسيكية للقائد الثوري تشي غيفارا الأكثر مبيعاً بعد مضي وقت طويل على وفاته. كيف أطلقت صورة واحدة صناعة بكاملها؟
في ظل غياب الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عن الأنظار، تُرِكَت لشقيق القائد المريض راوول مهمة مواجهة الاحتفالات التي أقيمت أخيراً بمناسبة الذكرى الخمسين للثورة الكوبية. لكن في ساحة الثورة الشاسعة في هافانا (كوبا)، طغى بطل آخر لعام 1959 على الشقيقين كاسترو. فملامحه التي جمّدها الزمن أكثر من 40 عاماً والمحفورة على شكل تمثال ضخم أمام مبنى وزارة الداخلية في كوبا، هي الأكثر تميزاً في التاريخ الحديث.
ما كان إرنستو تشي غيفارا ليصبح مشهوراً لولا هذه الصورة. وما كان ربما توافر موضوع فيلم ملحمي من جزءين يمتد على أربع ساعات للمخرج ستيفن سودربيرغ: صدر الجزء الأول Che: Part One يوم رأس السنة، ليتصادف مع ذكرى الثورة، أي النزاع الشيوعي المسلح الذي كان فيه غيفارا الأرجنتيني يد فيدل كاسترو اليمنى.
مما لا شك فيه أن هذا الفيلم سيزيد الطلب على الأغراض التي تحمل صورة غيفارا. وقد رأينا ذلك من خلال ملايين القمصان والملصقات التي طُبعت عليها صورة هذا الزعيم؛ كذلك من خلال ثوب السباحة الذي ارتدته العارضة جيزيل بوندشين منذ بضع سنوات، وحقيبة اليد التي حملتها الممثلة ليز هورلي من تصميم Louis Vuitton؛ والقميص الذي ارتدته ليندسي لوهان في فيلم Confessions of a Teenage Drama Queen.
رمز الأناقة
كيف يمكن لمناضل ماركسي ثوري توفي عن 42 عاماً أن يصبح مادة للاستهلاك التفاخري ورمزاً رائجاً للأناقة الراديكالية؟ وماذا تعرف لوهان وهورلي وبوندشين والأجيال المتلاحقة من التلامذة عن هذا الرجل بقبّعته السوداء المزيّنة بنجمة ذهبية وفتحتي أنفه الواسعتين وعينيه المشعّتين عاطفة؟
يقول ديفيد كرولي، المؤرخ في الكلية الملكية للفنون والمشرف على معرض Cold War Modern: Design 1945-1970 الذي يُقام راهناً في متحف «فيكتوريا وألبرت» في لندن: «بحلول ستينات القرن الماضي بهتت صورة الثورة في العالم الشيوعي، لكن الثورة الشيوعية أحيتها مجدداً. وقد ارتبطت صورة غيفارا بشدة بهذه الانتعاشة التي كانت جذابة جداً بالنسبة إلى الراديكاليين في الغرب».
لم يكن أحد يريد صورة الزعيم السوفياتي ليونيد برجنيف على قميصه، لكن كم من الأشخاص الذين يعرضون صورة تشي على صدورهم يستطيعون الادعاء بأنهم «راديكاليون»؟ في مرحلة ما خلال السنوات الخمسين الماضية، أصبح غيفارا رمزاً للأناقة. يوضح كرولي في هذه المسألة: «أعتقد أن ذلك مرتبط بهوسنا بحقبة الستينات، هوس يسري في ثقافتنا».
تحاكي صورة غيفارا الشعبية الواسعة للمبادئ الشيوعية. قمصان عليها نجمة صفراء في هانوي (فيتنام)، ملصقات لترويج السوفياتية في موسكو (روسيا)، ساعات عليها صورة ماو في بكين (الصين)؛ كلها مقتنيات يرتديها الناس في شوارع لندن ونيويورك وطوكيو. تعود هذه النزعة إلى نشأة النظرية البنائية Constructivism في روسيا في عشرينات القرن الماضي، حركة في مجال الفن والتصميم والهندسة. يعلق كرولي: «هذه الصور شاهدة على وقت ظنّ فيه الناس أن المستقبل سيكون أفضل. من الصعب ادعاء ذلك الآن وهذا ما يجعلها تبدو أكثر مثالية وجاذبية».
صورة مبتذلة
أصبح وجه غيفارا رائجاً جداً إلى درجة أن كرولي سعى إلى إيجاد بديل عمّا يسميه «الصورة الشهيرة المبتذلة» ليستعملها في معرض «فيكتوريا وألبرت». لكن عدم استعمال هذه الصورة قد يخيّب أمل صاحب اليد الطولى في انتشارها، الفنان الإيرلندي جيم فيتزباتريك. التقى هذا الرسام (65 عاماً) غيفارا عندما كان يعمل كنادل في مطلع ستينات القرن الماضي، كان توقّف لبعض الوقت في إيرلندا أثناء جولة له في موسكو للتحقق من أصوله السلتية (الأقوام الهندية الأوروبية القديمة). يتذكر فيتزباتريك «كان جذاباً جداً».
بعدئذٍ، وقع فيتزباتريك الذي كان في ذلك الوقت جمهورياً ملتزماً وإنساناً ثورياً، على صورة لبطله في المجلة الألمانية Stern. كانت الصورة التي التقطها مصور كاسترو ألبرتو كوردا لغيفارا خلال دفن عام 1960 معلّقة بشكل مخفي على جدار كوردا إلى أن وزعها ناشر إيطالي راديكالي لجذب الانتباه إلى مصير غيفارا، الذي كان عندئذٍ يقود تمرداً مصيرياً في بوليفيا، الدولة التي أُعدم فيها عام 1967.
رأى فيتزباتريك أن الصورة ستترك أثراً أكبر على ملصق كبير، فابتكر أول نسخة عنها بالأحمر والأبيض والأسود: «كان هذا انتقامي لقتل غيفارا بشكل وحشي. شعرت بأنه قد يصبح طي النسيان، ولأنه بطل وماركسي لم أرد أبداً أن يحدث ذلك».
جعل فيتزباتريك ذكرى غيفارا تستمر لوقت أطول، لكنه لم يستفد يوماً من الإيرادات التي حققتها الصورة. وهذا ينطبق أيضاً على كوردا الذي تنازل عن حقه الحصري بملكية الصورة التي التقطها حتى عام 2000 عندما استعملتها شركة Smirnoff في إعلان للفودكا، فقدّم كوردا شكوى ضد الشركة. واليوم يحاول كلا الرجلين تمرير الحق الحصري بملكية صورتيهما والإيرادات الضخمة التي قد تتأتى عن ذلك، إلى مستشفى أطفال في هافانا.
آلة قتل
أصرّ منتقدو هذا الثائر الذي ترأس فرق الإعدام الشهيرة التي شكلها كاسترو ومعسكرات الأشغال الشاقة في كوبا على أنه كان «آلة قتل لا ترحم» (جملة استعملها غيفارا لوصف المستلزمات المطلوبة لتحقيق الثورة). يوضح كرولي: «عندما يضع الناس ملصقاً كبيراً لغيفارا على جدارهم لا يفكرون في عدد شهادات الإعدام التي وقّعها. إنه الصورة التي تساعد على النسيان».
يمكن لمن يستغلون صورة غيفارا لأغراض تجارية أن يتوقعوا أرباحاً متزايدة مع صدور فيلم سودربيرغ الذي انقسمت حوله الآراء، تماماً كما حصل مع القمصان التي طُبعت عليها صورته. وتأتي اللحظة المصيرية في هذه الملحمة عندما يشارف الجزء الأول على الانتهاء، لدى سؤال الصحافية الأميركية ليزا هاورد غيفارا الذي زار نيويورك عام 1964 لمخاطبة الأمم المتحدة: «كيف تشعر بكونك رمزاً؟» فيأتي رده على لسان مترجم بسؤال آخر: «رمز لأي أمر؟» ما زلنا ننتظر الإجابة.
ليست هناك تعليقات