لم يقترن إسم من الأسماء التي إعتلت المقام البطريركي الماروني، أو حتى تلك التي لم تتجاوز المرتبة الاسقفيّة، بمثل ما إرتبط به إسم البطرير...
لم يقترن إسم من الأسماء التي إعتلت المقام البطريركي الماروني، أو حتى تلك التي لم تتجاوز المرتبة الاسقفيّة، بمثل ما إرتبط به إسم البطريرك أنطون عريضة (1862-1955) بالإقتصاد والتعمير، وبالبذل من جيبه الخاص، وجيب شقيقه المغترب المثري رشيد عريضة.
ولد عريضة في بشرّي، في 2 آب 1862، وإستأثرت به رحمة الله في 19 أيّار 1955 عن 92 عاماً قضى منها 47 عاماً مطراناً، و23 بطريركاً. ولم تغالِ جريدة "الرقيب" حين وصفته، أيّام مطرانّيته، على كرسيّ طرابلس، ب"بطل الحركة الإقتصادية في الشمال".
ولمن يريد المزيد عنه بإمكانه تقليب الكتاب الذي وضعه الخوراسقف بطرس حبيقه تحت عنوان " مآثر عريضه". وهو كتاب صدرت منه أجزاء عديدة ليس في متناولي منها سوى بعض متناثر .عنيت آخرها صدوراً،اي الجزء السادس عشر، عام 1947.فملقي النظرة عليها، سيعرف مدى ما حقّقه من إنجازات عمرانيّة في المجالين الوطني والكنسي.
وما يعنيني هنا، على وجه التحديد، هو لفت إنتباه الجيل الطالع الى البعد الإنساني العميق الذي طفا خلال الحرب العالميّة الأولى على ما عداه من مآثره. فكان للمنكوبين عوناً، وللفقراء والبائسين ملاذاً. وقد دفعته إنسانيته الى تأسيس ميتم ضمّ عدداً كبيراً من الأيتام تعّهده بالعناية. وكان يتولّى أحياناً خدمتهم بنفسه.
وكل من عايش تلك المرحلة المثقلة بالأحداث الجسام، أو قرأ عنها، يعلم أنه كان ممّن خُلُقوا لمجابهة ايّامها السوداء. وقد فتح باب كرسيّه للجيّاع موزّعاً عليهم ما إستطاع من الطعام والثياب. وكان في بداية أمره يُنفق عن سِعَة. لكن مرور الوقت، وتزايد الضغط عليه، بفعل التدهور الكارثي للأوضاع المعيشيّة والصحّية، إضطر الى بيع بعض أملاكه الشخصيّة . ومع تمادي المجاعة ، ضاقت به السبل، وأعيته الحيل، فرهن صليب صدره وخاتمه لقاء خمسمئة ليرة ذهبيّة إقترضها من أحد كرام التجّار الطرابلسيّين المسلمين كي يشتري قوتاً للمحتاجين، على ما كتبه لحد خاطر في جريدة "العمل" ، في 22/5/1955.
وعندما شاء إسترجاع المرهون، بعد الحرب، أظهر المرتهن المسلم أريحيّة نادرة، بإعادة الصليب والخاتم لصاحبهما دون أن يأخذ مالاً قائلاً له: " أنت أيّها السيّد الجليل إقترضت مالي لإطعام الفقير من كل ملّة، بعد أن أجهزت على مالك، وبعت من أملاكك فلا أرى كثيراً عليّ، وأنا موسر من فضل الله، أن أقدّم لك هذه القيمة الطفيفة زكاهً عن مالي وعيالي".
وهذه الرواية التاريخيّة مُثبتة في غير مصدرٍ أتى على سيرته، منها على سبيل المثال لا الحصر : " بكركي في محطّاتها التاريخيّة " ( 1700-1900) للأب بولس صفير، منشورات معهد التاريخ في جامعة الروح القدس الكسليك (2)، عام 1990، ص 181. وهي تعطيه كامل حقّه، لكنها مشوبة بالنقص، لتغاضيها عن ذكر إسم التاجر الطرابلسي ذي الشهامة، والأريحيّة، الذي تمنّع عن إسترداد المبلغ المقترض. اللهم إلاّ إذا كان هو شاء، آنذاك، إبقاءه مخفّياً. وهنا يكون فضله عند ربّه، وعند بني قومه، أعظم.
صفحة رأيت من المفيد التذكير بها بمناسبة مئويّة الحرب الأولى، وفي سياق إهتمامي بنبش ما أعتبره مجهولاً، أو متجاهلاً، من وقائعها، ومظالمها، كي لا يضيع لأمثال عريضة، والتاجر الطرابلسي، فضل، رغم إنطواء قرن، بمرّه والحلو.
محسن أ. يميّن
ليست هناك تعليقات