هل يستقيم الحديث عن الترجمة بدون ربطهـــا باللغة، ليس فقط اللغة التي نترجم من خلالها الأدب، وإنما أيضاً اللغة التي تنقل العلوم والفلسفة ...
هل يستقيم الحديث عن الترجمة بدون ربطهـــا باللغة، ليس فقط اللغة التي نترجم من خلالها الأدب، وإنما أيضاً اللغة التي تنقل العلوم والفلسفة والفكر، وكذلك الابتكارات العلمية والتقنية الحديثة؟ إنّ مشكلتنا مع اللغة اليوم هي جزء من مشكلة أعمّ وأشمل. وكما أنّ هناك دولاً على طريق النمو، هناك أيضاً لغات على طريق النمو، وهناك لغات انقرضت أو هي على طريق الانقراض. السؤال إذاً هو في كيفية تطويع اللغة، والإفادة من اشتقاقاتها وإمكاناتها، وجعلها انعكاساً فعلياً لوجودنا وثقافتنا وفكرنا ومخيّلتنا وحركة أجسادنا، والعمل على رفعها إلى مستوى العصر.
في العالم العربي، لم يتغيّر تعاطينا مع اللغة منذ قرون وكأنّ العالم من حولنا ثابت لا يتغير. منذ أكثر من مئة عام وعى بعض الإصلاحيين العرب هذه المسألة وناقشوها ومنهم قاسم أمين الذي تحدث عن «وجوب إصلاح اللغة العربية» وتماشيها مع العصر وقدّم بعض الآراء حول تطوير الإعراب «من دون أن يترتّب عليه إخلال باللغة»، على حدّ تعبيره. وتطرّق قاسم أمين إلى مسألة الترجمة وقدّم مقترحات جريئة حول ترجمة بعض المصطلحات الغربية الحديثة، ولاحظ أنه لا يمكن أن توجد "لغة مستقلة عن غيرها مكتفية بذاتها». وفي الثلاثينيات من القرن الماضي، ألم يتناول الموضوع نفسه جبران خليل جبران من خلال مشاركته في الاستفتاء الذي طرحته مجلة «الهلال» المصرية حول واقع اللغة العربية ومستقبلها؟
ما الذي تغيّر منذ ذلك الوقت حتى اليوم؟ سؤال اللغة نفسه فقدَ وهجه، ولا تزال اللغة العربية قريبة من توجّهات النص الديني ومناخاته، حتى عندما يستعملها العلمانيون. يكفي، هنا، أن نعيد النظر في كيفيّات تعاطينا مع الفكر الغربي، وفي مراجعة الكثير من ترجمات ذلك الفكر إلى اللغة العربية، لتتبدّى لنا فداحة ما يجري في المعاهد والجامعات والأوساط الثقافية على العموم، ولنكتشف أنّ اطلاعنا على تلك المعارف كان سطحياً وناقصاً ولم يكن وافياً على الإطلاق. لذلك يصعب علينا أن نفهم عملياً بعض المقولات الأساسية التي نهض عليها الغرب الحديث كمقولات الفرد والحرية وحقوق الإنسان. ولا نقصد بذلك أنّ الغرب هو الذي أنتجها، لكنّه هيّأ لها الأسس الفلسفية والفكرية ممّا مهّد لدخولها في القوانين والممارسات اليومية...
بالإضافة إلى المشكلات التي يواجهها المترجم في دول العالم أجمع، هناك أسئلة جوهرية لا تزال مطروحة عندنا ولم يتمّ تجاوزها بعد، وهي أسئلة تولّدها ثقافة لا تزال تحدّدها، في القسم الأكبر منها، معايير الحلال والحرام. يعني ما يمكن أن يُترجَم وما لا يمكن أن يُترجَم.
أنتم تعرفون كيف وبأيّ طريقة نُقلت إلى العربية بعض الكتب والمراجع الأساسية في الثقافة الحديثة، وكيف حُذفت مقاطع منها بحجّة هذه الحساسية أو ذاك الاعتبار... أي أننا نمارس على الكتب التي ننقلها إلى لغتنا ما يُمارَس في الأصل على نتاجات صدرت في هذه اللغة نفسها. ولنا أمثلة كثيرة نذكر منها، على سبيل المثال، بعض كتابات صادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد، «الفتوحات المكيّة» لابن عربي، «النبي» لجبران، «حكايات ألف ليلة وليلة»، «حديقة الحواسّ» لعبده وازن، نصوص لأحمد الشهاوي ووديع سعادة وأشرف فيّاض وغيرهم... كيف باستطاعتنا، والحال هذه، وحتى لو تمكّنّا من ضبط عملية الترجمة، قواعدَ ومصطلحات وأدوات، أن نترجم نتاجات أسهمت في إدخال الغرب في العصور الحديثة؟ كيف لنا أن نترجم ماركس وفرويد وفولتير وديدرو وروسّو وكانط ونيتشه وفوكو وديريدا، وكلّ الفكر النقدي العلمي والعقلاني، إذا لم يكن ثمة مؤسّسات ثقافية تشجّع على هذا المشروع، وإذا لم يكن ثمة قانون مدني يحمي الكتّاب والمترجمين على السواء، وثمّة سلطة سياسيّة تحمي المجتمع بفئاته المختلفة وتُخرجه من ثقافة الخوف، الخوف من تحديث اللغة، والخوف من الفكر النقدي، والخوف من حرّية التعبير، وهو في الأصل مرادف لخوف أكبر هو الخوف من الثقافة المتنوّرة ومن المعرفة ككلّ؟
عن الفايسبوك
ليست هناك تعليقات