أمضى جيمس كوغيل حياته العلمية بأكملها في دراسة الكتاب المقدس، ولكن بعض الأسئلة الجوهرية حول هذا الموضوع لا تزال يسيطر عليه: ما ال...
أمضى جيمس كوغيل حياته العلمية بأكملها في دراسة الكتاب المقدس، ولكن بعض الأسئلة الجوهرية حول هذا الموضوع لا تزال يسيطر عليه: ما الذي كان يميّز عقول الأنبياء القدماء، على النحو الذي كان يسمح لهم بسماع الله ورؤيته مباشرة – أو على الأقل الاعتقاد بذلك؟ هل سمع أنبياء الكتاب المقدّس أصواتاً، ورأوا رؤىً فعلاص؟ وهل نقلوا كلمات الله الخاصة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أصبحت هذه اللقاءات المباشرة مع الله أكثر ندرة مع مرور الوقت؟
في كتابه الجديد “التحوّل الكبير”، يغوص كوغيل في تلك الاسئلة، بعدسة علم الأعصاب، ووفق منهجية تذكرنا بأعمال مشابهة، مثل كتاب “مقاربة عصبية للتجارب المقدسة”، والذي شارك في كتابته طبيب في علم الأعصاب وعالم دين.
بداية، لجأ كوغيل إلى الأبحاث الخاصة بالكتاب المقدّس، لكي يظهر ان الناس القدامى كانوا يملكون “شعوراً بالذات” مختلفاً جوهرياً عن ذاك الذي يملكه البشر اليوم، وهو ما مكّنهم من اختبار النبوّة، وتفسيرها بشكل مختلف عمّا نقوم به اليوم… بعد ذلك، لجأ كوغيل إلى البحث العلمي للقول إنه لا ينبغي علينا التسليم بفرضية أنّ وجهة نظر القدامى كانت خاطئة تماماً، فهو يرى أن الفارق الكبير بين الانسان المعاصر والانسان القديم يتمحور حول مفهوم “الذات الفردية”، والتي لا يزال البعض محافظاً عليها في عالمنا.
يستشهد كوغيل بدراسات كثيرة، خلصت إلى أن عدداً كبيراً من الأشخاص الأصحاء في عالمنا المعاصر يسمعون أصواتاً غريبة او غامضة – بما يقارب 15 في المئة من إجمالي السكان في العالم. من بين تلك الدراسات، واحدة أجرى خلالها باحثون سلسلة مقابلات مع “سامعي الأصوات” في الولايات المتحدة وغانا والهند، مسجلين بذلك اختلافات مذهلة في الطريقة التي تتفاعل فيها المجموعات المختلفة من الناس مع الأصوات التي يسمعونها، ففي غانا والهند، أصرّ المشاركون على أن تجربتهم، أو حتى الوحيدة، كانت إيجابية، بخلاف آراء الأميركيين.
انطلاقاً من ذلك، يقول كوغيل إن هذه النتائج تشير إلى أن المجتمع له علاقة وثيقة بكيفية تفسير السمع الصوتي، انطلاقاً من تأثيرات التكييف الثقافي، وهو ما يجعل بعض المجتمعات تحتفي بظاهرة مثل النبوّة، بينما تنبذها المجتمعات الأخرى!
في مقابلة مطوّلة إجراها معه الصحافي في مجلة “ذا اتلانتيك” سيغال صاموئيل، يشرح كوغيل خلاصة دراساته التي تحاول الإجابة على الكثير من التساؤلات التي تشغله في ما يتعلق بدماغ الأنباء القدامى.
– الإدعاء المركزي في كتابكم، بالنسبة إليّ على الأقل، هو أنّ الناس في زمن الكتاب المقدّس كان لديهم “احساس بالذات” مختلف عمّا يمتلكه الانسان المعاصر في الغرب. هل يمكنك أن توضح لنا ما الذي تعنيه بذلك؟
* لقد ركز علماء الأنثروبولوجيا، الذين درسوا ثقافات مختلفة جداً عن ثقافاتنا، سواء في جنوب الصحراء الإفريقية، أو في أميركا الجنوبية وأماكن أخرى، بشكل متزايد على هذه المسألة. “الشعور بالذات” بالنسبة إلى الشعب هو تلك الفكرة التي يحملها الناس في رؤوسهم حول الـ”أنا الذاتية”، وكيف يمكنها أن تتناسب مع العالم الأوسع. من هنا يتكوّن التباين الشاسع في الأفكار بين مجتمع وآخر، وبين زمن وآخر.
في الغالب، ترانا نميل إلى الافتراض بأنّ الشخصيات التوراتية لديها نفس الشعور الذي في داخلنا اليوم. ولذلك عندما يقول الكتاب المقدس أن الله قد ظهر لإبراهيم خارج خيمته، أو دعا إلى موسى من العليقة المشتعلة، ترانا نرفض مثل هذه القصص، ونعتبرها شكلاً من أشكال اللغة التصويرية، أو على الأقل نقول إنها حدثت في السابق، ولكنها لن تحدث بعد ذلك.
ولكن إذا عدنا إلى حد بعيد بما فيه الكفاية إلى تاريخ الكتاب المقدس، يتضح لنا أن اليهود القدامى تصوّروا أنفسهم ضمن مصطلحات مختلفة جداً عن منطقتنا. إن الدخول إلى عقولهم، ورؤية الأشياء بالطريقة التي كانوا يرونها، يمثلان المفتاح لفهم ما يحاول الكتاب المقدس الوصول إليه.
– كتبتم أننا نتصوّر عقولنا ككيانات مغلقة ذاتياً، ولا يمكن بالتالي أن تخترقها قوى خارجية، وأنّ اليهود القدامى، في المقابل، كانوا يعملون وفق نموذج “العقل المنفرد”. ما الدليل الكتابي (نسبة إلى الكتاب المقدّس) على ذلك؟لقد استخدمت هذا المصطلح في محاولة للوصول إلى حقيقة التي اختبرها اليهود القدامي، أو على الأقل اعتبارها معقولة تماماً. العقل البشري يمكن اختراقه من قبل قوى خارجية. لا يقتصر الامر على الله فحسب – والذي يُصوّر في الكثير من الأحيان على انه يدخل الى قلب الناس ليعلم ما الذي يفكرون فيه حقاً – بل يشمل انواعاً اخرى من “الأرواح”، بعضها خيّراً، وبعضها الآخر شريراً، يرسله “الشيطان” للقيام بأمر ما، تماماً مثل البكتيريا، التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ولكنها ما إن تدخل جسمك حتى تفعل فعلها، ما يجعلك تفكر بأشياء متعارضة مع إرادتك. لهذا السبب، تجد أن الكتاب المقدس، وغيره من النصوص، يحتوي على صلوات مخصصة لدرء تلك الارواح الشرية، وهذا جزء ممّا قصدته بالحديث عن “شبه النفاذ”. لا يمكنك ان تمنع الله من دخول عقلك، ولكن في بعض الأحيان قد تستقطب ملاكاً شريراً.
– ما الذي يجب أن يعلمه علم الأعصاب حول العقل المنفرد؟هذا هو الجزء الذي أدهشني أكثر. نحن نميل إلى الاعتقاد بأن ثمة جزءاً مركزياً في أدمغتنا يعمل كغرفة مقاصة أو مركز لتبادل المعلومات، حيث يتم تجهيز كل البيانات الحسية الخارجية التي تأتي إلى رؤوسنا، عبر عيوننا وآذاننا، وهكذا دواليك، ثم اتخاذ قرار بشأن التفكير والرد. المشكلة مع هذا التصوّر تكمن في أن العلماء لا يمكنهم العثور على أي شيء مادي في الدماغ، على النحو الذي يثبت عمله كغرفة مقاصة. من الناحية الفسيولوجية، لا وجود لـ”الأنا الذاتية”. يبدو أن هذا الكيان هو بناء عقلي، يتطور فيه البشر على مدى ملايين السنين، ولكن ليس له، في حقيقة الأمر، واقع مادي مستقل. هذه الـ”أنا الذاتية” ليست ، متطابقة مع أجسادنا أو أدمغتنا – لدينا الجسم والدماغ، ولكن الحائز على هذه الأشياء يمتلك تصوراً منفصلاً عنهما، بطريقة أو بأخرى. حين يتعلق الامر بعلم الاعصاب، فإن الحديث يدور عن مجرد بناء العقلي، كما أن العلم لا يحتاج للنظر إلى الـ”أنا الذاتية” لشرح ما يجري في أدمغتنا، ولكننا نسعى إلى القيام بذلك.
– انتم تعوّلون كذلك على نتائج الدراسات الأنثروبولوجية لدعم فكرة أن الذات التي يسهل اختراقها كانت في الواقع البناء المهيمن في معظم الحقبات التاريخية، وأنها لا تزال مهيمنة في أجزاء من العالم. هل يمكنكم إعطاء مثال على ذلك؟لقد تأثرت بشكل خاص بوصف أحد علماء الانثروبولوجيا لشعوب الدينكا في جنوب السودان. لا شيء يتوافق لدى هؤلاء مع فكرتنا لوظيفة العقل الوسيطة أو التذكرية لتجاربنا. بعبارة أخرى، لا شيء هنا يقف بين ما حدث في السابق، وما أنا فيه حالياً. هذا الشيء الخارجي يبقى موجوداً في مكان ما، وليست هناك “أنا ذاتية” يمكن وضعها في المنظور، أو نقلها إلى الذاكرة.أحد أفراد الدينكا ذكر روى أنه بعد سجنه في الخرطوم، أطلق اسم الخرطوم نفسه على أحد أطفاله، وذلك لكي يحمي نفسه جزئياً من أية مصيبة مستقبلية قد تأتي من هذا المكان. كانت الخرطوم هي الفاعل النشط، وكان الرجل مجرّد موضوع يحتمل أن يحلّ العمل عليه مرّة أخرى. كيف يمكن لنموذج العقل المنفرد أن يساعدنا على فهم ما فهمه الأنبياء في الكتاب المقدس؟ وهل كانوا يسمعون أصواتاً بالمعنى الحرفي للكلمة؟لغاية اليوم، يسمع الناس أصواتاً. بعضهم مجنون، ولكن البعض الآخر يعيش حياة طبيعية تماماً. هم يسمعون أصواتاً لأناس غير موجودين بينهم. هؤلاء لديهم جمعية خاصة، تعقد مؤتمراً سنوياً، يشارك فيه المئات من “سامعي الأصوات”. أنا مهتم بذلك لأنني أريد أن أعرف ما الذي يقصده الأنبياء في الكتاب المقدس حين يقولون غالباً: “قال لي الله أن أقول لكم هذا”. من الصعب أن نعرف، ولكن يبدو من الممكن أن بعضهم على الأقل يعني ما يقوله على وجه التحديد. وبطبيعة الحال، وكما قال باحثون آخرون، فإن ظاهرة النبوّة التوراتية برمتها كانت لها علاقة وثيقة بالمجتمع المحيط، وانفتاحه على وجود نبي في وسطه.
– أرى أن هذه النقطة حول التكييف الثقافي مفيدة حقاً. لقد تطرقتم في كتابكم إلى النبي إرميا، وكتبتم أن ربما يكون ما قاله هو نتاج لفرضيات قائمة في مجتمعه – بشأن حقيقة النبوة نفسها، والمعنى الحقيقي للذات، الذي تقاسمه إرميا ومواطنوه – وهو ما مكّنه من سماع الصوت، في حين أنه لو حدث ذلك في ظروف أخرى، لكانت أذناه صمّاء تماماً. ويفترض أيضاً أن ذلك لا ينطبق على سماع الأصوات فحسب، وإنما على رؤية الرؤى. وفي الوقت الحاضر، كثيرون ينظرون إلى تجربة الأنبياء بوصفها “هلوسة”…– أحب تعريف الهلوسة، كما شرحها مؤخراً طبيب في علم النفس العصبي، وهي أنها ليست أمراً كاذباً، وإنما تجربة حسية تحدث في غياب التحفيز الخارجي المتصل بالجهاز الحسي ذي الصلة. هذا، بحسب ما اعتقد، هو ما تحدّث عنه بعض النصوص الكتابية، ولا سيما في حالة الشخص الذي يعتقد أنه يرى أو يسمع شيئاً ما، ليبدو ذلك مشابهاً للحلم قليلاً. في الحلم، يعالج الانسان كل ما يحلم به، كما لو أنه آتٍ من الخارج، وعندما يستيقظ يقول، على سبيل المثال، “لقد رأيت امرأة ترتدي ثوباً أحمر، فبدت قادمة من مكان ما، ثم سمعت صراخاً”. بالطبع، لم تكن عينا هذا الشخص مفتحتين، وأذناه لم تسمع شيئاً. انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم الهلوسة الكتابية، ولكن لا نعرف، حتى الآن، لماذا كان يحدث ذلك، مع الانبياء، ولماذا توقفوا عن هذا الأمر، خلال مراحل عدّة، في الكتاب المقدّس.
– لماذا توقفوا عن ذلك؟ ولماذا فقد الكثير منا الشعور بأننا نستطيع أن نرى الله ونسمعه مباشرة؟لقد تغيّر العالم كثيراً. في الواقع، بدأت التغييرات الجوهرية حتى في الفترة التوراتية. لم يكن اليهود القدامى علماء، ولكنهم طوروا تدريجيا إحساساً بأن ثمة قواعد تحكم ما يحدث في العالم، وانتهاك تلك القواعد، وهو ما نسمّيه المعجزات، أصبح نادراً أكثر فأكثر. الناس لا يزالون يؤمنون بالله، ولكن كانت هناك في السابق حركة محددة من الخارج إلى الداخل. تدريجياً، شهدت الروح تحوّلات مغايرة لما كانت عليه في السابق، لقد أصبحت أشبه بالجزيرة الإلهية داخل جسم الإنسان. الأهم من ذلك كله، أن شعور الناس بالذات تطور، ولم يعودوا الناس منفتحين على مفاجأة خارقة على قاب قوسين أو أدنى.
ليست هناك تعليقات