Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

هنري ميلر: سر الحافز الجنسي والتمرد

صالح كاظم   حين انتهى هنري ميلر من كتابة روايته "سيكسوس" في سنة 1944 لم تكن الحرب العالمية الثانية قد أنتهت بعد، بل كانت كوا...


صالح كاظم 

 حين انتهى هنري ميلر من كتابة روايته "سيكسوس" في سنة 1944 لم تكن الحرب العالمية الثانية قد أنتهت بعد، بل كانت كوارثها ما تزال في أوج حضورها في أماكن متعددة من أوربا، وفي الحقيقة فأن الكاتب لم يكن يرغب، كما ذكر في رسالة وجهها الى زميله لورنس دوريل، في نشر الكتاب على حدة، بل كان يريد أن يكون جزءا من ثلاثية تحمل عنوان "الصَلب الجنسي" – ترجمت العنوان بتصرف بسبب كون العنوان الأصلي "الصلب الوردي" قد يبدو مبهما بالنسبة للقاريء العربي، في حين كونه واضحا للقاريء الأوربي والأمريكي، حيث يرمز اللون الوردي الى الجنس-، غير انه سرعان ما غير رأيه بتأثير من الناشر موريس غيرودياس، ونشر الجزء الأول من الثلاثية، والذي يمكن إعتباره عملا قائما بحد ذاته، تحت عنوان "سيكسوس"، صدر في العام 1949 ليلحقه فيما بعد بالجزء الثاني "بليكسوس" في العام 1953، أما الجزء الأخير من الثلاثية فقد تم نشر القسم الأول منه في العام 1960 تحت عنوان "نيكسوس". 
 ولا شك بأن الجزء الأول من العمل لا يزال يعتبر الأكثر جرأة واستفزازا، مقارنة بالجزئين الأخيرين رغم كونها تعتبر كذلك في إطار الكتابة  الأيروسية. لقد أثار صدور حينها ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية في أمريكا وأوربا، وأعتبرته صحيفة "نيويورك تايمز" أكثر كتب ميلر "دعارة".  ما حصل بعد ذلك من منع نشر الكتاب لما يزيد عن ربع قرن جاء حصيلة حاصل، وحتى في فرنسا التي غالبا ما تتبجح باللبريالية منع نشر الكتاب لمدة 12 سنة، أما في ألمانيا فقد نشر الكتاب للمرة الأولى في سبعينات القرن الماضي. وتتعرض الرواية لفترة زمنية محدودة في حياة الكاتب، كان يعمل خلالها موظفا في شركة "ويسترن يونيون للخدمات التلغرافية" في نيويورك منذ سنة 1923 الى 1927. يصف ميلر هذه المرحلة بأنها كانت الأغني في حياته، حيث تعرف من خلال عمله بـ "الألاف من الرعاع  وحثالات نيويورك ومنهم الرجال والنساء والأطفال.."،مما دفعه في النتيجة الى التخلي عن عمله لينصرف للكتابة. 
ويصف الكاتب هذه الفترة من حياته بأنها كانت أكثرها بؤسا، حيث كتب عددا كبيرا من القصص والمقالات التي لم تجد طريقها الى النشر.
أثناء ذاك، وفي إطار حياته البوهيمية تعرف الكاتب على زوجته الثانية جون سميث التي كانت تعمل راقصة في إحدى بارت برودواي، وحالما التقى بها وضع جنسي يشير الى اسم ميلر وجد نفسه أسيرا في علاقة إيروسية سحرية، إذ رأى فيها نموذج المرأة الساحرة عموما، حيث وجد نفسه في علاقة أعادته الى مشاعر الطفولة، كما أثارت لديه فضول الكاتب لما كانت تجسده من الإغراء الجسدي. وقد كتب عنها لاحقا مايلي: "إنها أمريكا تقف على ساقين، منتشية ومرتبطة بجنسها.. وهي إنما تجسد البشاعة والنبل في آن.."
وقد خلـّد ميلر هذه السيدة في كتاباته أحيانا تحت إسم مونا، وأحيانا أخرى تحت إسم مارا، كما أعترف لاحقا بأنه لم يكن ليصبح كاتبا بدونها. مع هذا فأن علاقة ميلر بهذه المرأةالتي  كانت تتراوح بين الكراهية والحب، سوف تشكل حافزا مهما لأعماله اللاحقة. غير أن هذه الأحداث الواقعية في حياة الكاتب تفقد طابعها السيروي في الرواية، حيث يقوم الكاتب بإعادة تشكيلها كما يشاء، فهو لا يريد أن يروي للقاريء سيرة حياته بكل واقعيتها، بل أن يضعه في مواجهة ما كانت تولده هذه الأحداث في داخله من إنطباعات ورؤى تشكل مادة أساسية لعمله الفني. في مقابلة مع "Paris Revieu" يتحدث ملر عن الجوانب السيروية في ثلاثيته "الصلب الجنسي"  مبينا  أن ما يتحدث عنه في هذه الثلاثية أنما هو مكونات حياته الشخصية وما أحاط بها من مصاعب حياتية والتباسات دائمة التكرار، ليس كما حدثت في الواقع بل في إطار إنعكاساتها الذهنية والعاطفية لديه. من هنا فأنه من غير الممكن إختزال هذا العمل بوصفه "سيرة ذاتية"، بل هو عملية إسترجاع متقطع وغير متماسك لأحداث ماضية، تتكرر دائما في صور جديدة على شكل منولوج داخلي لا يتوقف عند أي حدود. لذا فأن طريقة السرد التي يعتمدها الكاتب يبدو كما لو كان حلما يتكرر ضمن إشارات معينة ينظر إليها الكاتب من خلال منظوره الشخصي، كما لو كان يتحدث مع نفسه. أما الشخصيات الأخرى فأنها تبدو ظلالا عابرة تظهر وتختفي. 
  وكما أنه لا ينظر الى الماضي ككتلة مغلقة، يمكن أن تكون مادة للسرد التقليدي، كذلك فأن الخلفية الفكرية للعمل تمثل فلسفة حياتية يشوبها الغموض وتفتقد الى الدقة وذلك بسبب الحس الجنسي المستمر الذي يحيط بالأحداث. وهو في هذا المخاض يعتبر متمردا، يرفض الخنوع لطقوس "النجاح الإجتماعي" في المجتمع الأمريكي،إذ يعتبر هذه الطقوس "رموزا لتخريب عنفوان الحياة." 
من هنا فأن الكتابة بالنسبة لميلر هي عملية تحرير للذات: "الكتابة يجب أن تكون كما أعتقد حدثا خارجا عن نطاق الإرادة. فالكلمة ينبغي أن تصعد بقوة الى السطح كما لو كانت موجة تأتي من أعماق البحر. الطفل ليس بحاجة الى الكتابة، إذ انه بريء. أما الرجل فأنه يكتب ليتخلص من السموم التي تراكمت في داخله بسبب طريقة حياته الخائبة. الكاتب يحاول من خلال الكتابة أن يسترجع براءته."
ويعود مرة بعد أخرى خلال روايته للحديث عن الجانب "العلاجي" للكتابة، حيث أنها –أي الكتابة- تعيده الى الجنة المفقودة، حديقة الرغبة، حيث يهيمن الجنس. وهنا يكمن منهل العملية الإبداعية، حين يشكل الجنس المحور الأساسي للكتاب بلغة واضحة تتجاوز الممنوعات وتنصرف بعيدا عن العواطف الرومانتيكية لتصف جوانب الرغبة العارمة ببراءة كبيرة، تضع القاريء في مواجهة الحياة كما هي.  
في هذا الإطار الرغبة الشبقية هي الحاسمة في العلاقة بالطرف الآخر (المرأة)، إذ أنها خلال الفعل الجنسي تفقد ملامحها، وتصبح كيانا "لا وجه له". أثناء ذلك نرى الكاتب يبحث في تاريخ الأدب العالمي عما يؤكد موقفه الوجودي من الجنس، وهو موقف محاط بأعلى درجات الطقوسية: "الذروة الجنسية توصلنا الى فضاءات الحب الحرة." من خلال إشارات كهذه يقترب الكاتب من طقوسية الكاتب والفيلسوف الإيروسي الفرنسي جورج باتاي، غير أنه يبقى مرتبطا بالذهنية الأمريكية التي لا تخلو من الفكاهة في معالجة موضوعه. ويبقى الجنس بالنسبة له نوعا من التجربة الميتافيزيقية في مواجهة عبثية التاريخ. 
ربما يبدو النهج الإيروسي الذي أسس له ميلر الى جانب غيره من كتاب القرن العشرين قد تقادم في مواجهة التسويق الهائل للجنس كبضاعة منذ ثمانينات القرن الماضي، غير أنه يبقى متميزا، متمردا على مبدأ التسويق، يجسد روح التمرد والعنفوان التي ظل ميلر يحملها في أعماقه حتى اللحظات الأخيرة من حياته. لذا فأن إعادة طباعة هذا الكتاب المثير للدجل صارت أمرا لابد منه، حيث أن الترجمة الألمانية الأولى لهذه الرواية جاءت في بداية سبعينات القرن الماضي. 

ليست هناك تعليقات