Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

بين محمود درويش وسميح القاسم وسيرة فلسطين:

د. عبد الواحد لؤلؤة Aug 26, 2017 آب… من أقسى الشهور، لا بحرارته الفظيعة في كثير من بلاد العالم، وحسب، بل لأنه ليس مثل «نيسان من أقسى...



د. عبد الواحد لؤلؤة
Aug 26, 2017

آب… من أقسى الشهور، لا بحرارته الفظيعة في كثير من بلاد العالم، وحسب، بل لأنه ليس مثل «نيسان من أقسى الشهور/يولّد الليلك في الأرض الموات» كما يقول ت.س.اليوت، فهو شهر يولّد الأرض الموات في أرض ليلك الشعر الفلسطيني. ففي التاسع من آب/اغسطس 2008 رحل عن عالم الشعر العربي الحديث واحد من أبرز رواده: محمود درويش. وفي التاسع عشر منه من عام 2014 لحقه إلى دار الخلود «شطر البرتقالة الثاني» سميح القاسم. وبذلك غدت أرض الشعر العربي الفلسطيني أرض موات. وليس في الأفق اليوم ما يبشر بظهور نجم جديد في سماء الشعر العربي المعاصر.
التقيتُ محمود درويش أول مرة في أواخر عام 1970 ببغداد، في عشاء تكريمي أقامته وزارة الثقافة في متنزّه الزوراء. كان يجلس إلى جانب زوجته رنا قباني وحولنا عدد من الشعراء والأدباء، لا ينقطعون عن الصخب والضجيج وتوجيه الأسئلة إلى محمود، وهو يزوغ بالاجابة، لأن أغلبها كان ذا طابع فضولي، ويتشاغل بإشعال سيكارة من أخرى، وينفث دخاناً أحسبه كان نوعاً من التبرَم بأسئلة كان أغلبها غريراً، إن لم أقل غير ناضج. كنت أنا الوحيد الصامت بين الجمع، أنتظر أن أسمع محمود يجيب عن أي سؤال أو يقول أي شيء. فنحن قد جئنا لنحتفي بالشاعر ونسمع منه، لا أن نمطره بوابل أسئلة. ولا أحسب أن محمود قد خرج مسروراً من تلك الجلسة. فأنا لم أسأله، لأنه بدا محرجاً قليلاً. وكانت آخر مرة التقيت محمود في عمان بالأردن، في حدود سنة 2003. كنا وحدنا في مقهى فندق جميل. كان هو يسألني أسئلة مختصرة عن شعراء العراق وعن أعمالي في الترجمة، وبخاصة «الأرض اليباب». وكانت السيكارة لا تفارق إصبعيه الاّ إلى شفتيه، وأنا أكرر نصائحي غير الحكيمة عن مضار التدخين، وبخاصة على شاعر في مثل عمره، لا نريد للسيكارة أن تحرق شيئاً من أنفاسه، فالشعر أحق أن تنفثه أنفاسه، لا الدخان. ولكنه كان يبتسم استخفافاً بنصائحي الحكيمة!
أنا أعرف، كما يعرف محبّو محمود أنه قضى إثر عملية في القلب. ولكن شكوكي غير الطبية أن التدخين كان له آثاره على قلب ما توقف يوماً عن الخفقان بحب فلسطين. والتدخين كان حتماً وراء إصابة أخيه الشاعر الفلسطيني، آخر العنقود، سميح القاسم، بالسرطان، كما أخبرني شخصياً، وأكد ذلك له طبيبه في فلسطين. وقد ذكر ذلك في كتابه النثري الأخير «إنها مجرد منفضة» (2006 نشر في حيفا 2011). وللكتاب عنوان فرعي لا يخلو من طرافة ساخرة: «سيرة: الجزء قبل الأخير».
أحسبُ أن لهذه «السيرة» أهمية خاصة لدارسي شعر سميح، وهي أهمية لم يغفل عنها الباحثون من غير العرب في دراسة شعرهم. فما يذكره الشاعر عن حياته الخاصة وعن خبراته في الحياة تنير الكثير من إنتاجه الشعري. إضافة إلى ذلك، أعتقد أن لهذه السيرة أهمية ثانية إلى جانب أهميتها في إضاءة جوانب من شعر سميح. هذا شاعر شب تحت الاحتلال لبلاده، وعانى الكثير مما يجهله أغلبنا، ومن الضرورة الا نجهله. من فصول هذه السيرة، التي لا تقع في فصول، إنما هي قصة حياة الشاعر منذ طفولته وهو في حدود السنتين من العمر، في انتقاله مع والديه من مسقط رأسه في الزرقاء بالأردن إلى أقامته في أرض العائلة في الرامة في الجليل الأعلى، الرامة التي لم يغادرها أبداً إلا إلى مستشفى صفد يوم 18 من شهر آب/أغسطس، ثم فارق الحياة في اليوم التالي. فصول هذه السيرة حلقات متسلسلة، تحفل بالكثير من الشعر، وبالأسماء الكبرى من شعراء وأدباء، عرب وغير عرب، تضيء المزيد من معرفتنا بمواقف أولئك الناس من القضية الفلسطينية، وتضيف أبعاداً أخرى على مفهوم القضية، مما يشكل نوعاً من «ضد اليأس» من موقف العالم، في مقابل الدعاوة الخبيثة للعدو.
مواقف بعض المفكرين والسياسيين في صفوف قوات الاحتلال، وتفهّمهم الإنساني لقضية الشعب العربي في فلسطين تدهشنا حقاً، وتُعطينا بصيصاً من الأمل أن العالم لا يخلو ممن يرى الحق والعدل. هذا قد لا يؤدي إلى «حل» للمشكلة ولكنه يحافظ على جذوة الأمل لئلا تخيم عليها غيوم اليأس، ليبقى الكفاح متوقداً، وهو ما يجب أن يؤتي أكُله ويبقيه حياً في نفوس الأجيال الجديدة.
رأيت أن صُوَرَ الحياة هذه في فلسطين المحتلة يجب ان تنقل للقارئ الأجنبي بلغة عالمية هي اللغة الإنكليزية. وكنتُ في حياة الشاعر وخلال لقاءاتنا العديدة واتصالاتنا بالهاتف والإيميل خلال السنوات اللاحقة أثناء إقامتي في كمبرج نتداول حول ترجمة شعره إلى الإنكليزية، وقد صدرت لي مجموعة منتقاة من قصائده نشرتها جامعة «سيراكيوز» في نيويورك عام 2014. وبعد وفاة الشاعر وجدتُ أن «السيرة» يجب ان تنقل إلى الإنكليزية ليرى العالم المكمّم بالدعاوة المعادية أن الإنسان الفلسطيني، والمثقف والشاعر بخاصة، يقف على قدم المساواة بين الأفضل من البشر. وفي السيرة الكثير مما يصور ذلك.
وقد أنجزتُ ترجمة «إنها مجرد منفضة» وتقوم بنشرها دار نشر كبرى في لندن وستصدر خلال الأسابيع القادمة. ولم يكن الحصول على ناشر في بريطانيا مسألة سهلة، لأن الناشرين في العالم الغربي يحسبون ألف حساب لمادة الكتاب، ليس أقلّها عدم إثارة غضب «أولاد العمومة» الذين لا يخلو من تأثيرهم أي مجال من مجالات الحياة في الغرب، والمجالات الثقافية بخاصة.
وحكاية «المنفضة» هي حكاية شاعر مفرط في التدخين حتى قضى عليه. فهو يكرر في نهايات «الفصول» عبارات مؤلمة مثل «ما نار الشعر إلا منفضة لنار الحياة» (ص170). «ما الجسد إلا منفضة لرماد الشعر» (ص 170) هذا ما اختتم به مقطعاً كتبه في 22/10/2004. في فجر ليلة طويلة من الكتابة. وهو يكتب الشعر ويدخن حتى الرابعة وثلاث دقائق من فجر الأحد 2/10/2005 (ص 286). وفي الصفحة الأخيرة من هذه السيرة (ص358) يكرر «منفضة… إنها مجرد منفضة» بتاريخ الرامة 2/5/2006. ثم طبع الكتاب في حيفا عام 2011.
ونار الحياة التي يتحدث عنها الفلسطيني الشاعر السجين في وطن هي نار السعي في سبيل لقمة العيش. بعض الشباب كان يعمل في التعليم أو في إحدى المصالح الحكومية التي لا تنجو من ملاحقة سلطات الاحتلال، فسرعان ما يفقد الفلسطيني وظيفته. ويكتب الشاعر قصيدة بعنوان «خطاب من سوق البطالة»: «حملتُ الجوعَ زوّاده/ ورحتُ مبكراً للشغل كالعادة/ فلم أعثر على عملي/ ولا وردي ولا خبزي ولا أملي/…وتتكرر قصص البحث عن عمل لا يلبث أن تتدخل سلطات الاحتلال الصهيوني لإلغائه وإرغام الفلسطيني على العودة إلى «سوق البطالة». والعمل في الصحافة مع محمود درويش كان يتهدده احتمال الفقدان بتدخل سلطات الاحتلال. وحكايات «الجوع المشترك» مع محمود والآخرين فيها كثير من السخرية المؤلمة. والأجواء المحزنة في هذه السيرة/الرواية يُخفِّف منها بين الحين والآخر لقاءات غير متوقعة في هذا المهرجان الشعري أو ذاك، في هذا البلد الأوروبي أو ذاك مع شخصيات مثل أحمد بن بلاّ، ويوسف زعيّن، ونزار قبّاني، وعبد الوهاب البياتي، ومحمد الفيتوري، والجواهري، وعدد من شعراء روسيا وبعض بلاد أوروبا الشرقية. في كل لقاء من هذه اللقاءات تتشكل صور خبرات متجددة، ومعلومات مفيدة وطريفة للقارئ … ومن المصادفات العجيبة التي تستعصي على التصديق أن زوجة موشي دايان تتصل بالشاعر الفلسطيني سميح القاسم وتدعوه لحضور جلسات جمعية شكّلتها لتحسين العلاقات بين العرب واليهود. فلما شرح سميح لها صعوبة حضوره إلى تل أبيب لأن زوجها دايان الوزير قد حكم عليه بالإقامة الجبرية في داره ما كان من زوجة دايان الا أن ساقت سيارتها الخاصة بنفسها من تل أبيب إلى الرامة واصطحبت سميح إلى جمعيتها ثم عادت به سالماً إلى الرامة. ماذا كانت زوجة دايان تريد؟ وكيف كان شعور سميح وهو لا يكف عن التحدي؟ وحادثة أخرى يوم جاء يهودي مهاجراً من أمريكا الجنوبية، وسرعان ما استُدعيَ للخدمة في الجيش، فتعرف على سميح الذي كان يبحث عن سكن. فطلب منه ذلك المهاجر الصهيوني أن يقيم في داره لحراسة زوجته وطفله… بالمجان، ريثما يعود من الخدمة.
هذه، وأحداث غيرها تجعل هذه السيرة قراءة ضرورية ممتعة.

ليست هناك تعليقات