كارلوس سكيلار ترجمة ـ أحمد عبد اللطيف «كل شيء يرهقني، حتي ما لا يرهقني. سعادتي مؤلمة جدًا مثل ألمي» اللغة البرتغالية ...

ترجمة ـ أحمد عبد اللطيف
«كل شيء يرهقني، حتي ما لا يرهقني. سعادتي مؤلمة جدًا مثل ألمي»
اللغة البرتغالية لغة العيون المفتوحة والشفاه الناعمة التي نادرًا ما تتمدد. لغة الحروف المتحركة في الأنف.
و"كتاب اللاطمأنينة": كتاب الأرق والضياع، سم الأوكسيجين المقزز، استحالة الإمساك بإحساس ما يدفع إلي الحياة.
السؤال يمكن أن يكون: لماذا نكتب، بعيدًا عن طموحنا للكتابة أفضل؟ البعض يقول: لنكون حتى في الحد الأدنى مما نعتقد أننا نكونه، حتى ولو كنا أكثر سخافة أو أقل حجمًا أو لا شيء على الإطلاق؛ حتى لا نكف عن الكتابة، ولو كنا نحتقر أنفسنا في الكتابة؛ حتى نواصل تجرع السم، وانتزاع الفراغ الضروري وغير المناسب؛ حتي نتوه، بلا سعادة، بلا مصب، بلا عودة صوب المحيط؛ حتى نمتلك رؤية عن النقصان والفشل.
بيسوا: لماذا يكتب؟ لماذا يدعو للتوقف عن الكتابة دون ممارسة دعوته كاملًة؟ لا أحد يمكنه أن يطبق العقاب على ذاته: كتابة الكتابة المتوترة تشبه من يملأ رئتيه بالهواء ويتنفس أفضل قليلاً، دون أن يعالج ذلك مرض التنفس. أي مرض؟ أي شفاء؟
ضياع العذوبة، غياب الحماس، عدم الاهتمام بالحقيقة، التفكير كثيرًا، أن تكون الهامش الخاص للخضوع، الرغبة في النوم ومعرفة أنه هو الفيكشن في السرير، الحائط، الحبر، الظل.
الكتابة، أحيانًا، نتاج لعدم العثور علي شيء ليقال، والعثور علي مشاعر في كل هذا الذي لا يحتوي مشاعر: الكتابة في ضجر الانعزال، الكتابة كعزلة منعزلة.
الشرود بعيدًا عن الحياة. نحت صورة وتشابه مع العزلة نفسها.
فقط أحاديث الأحلام مع الأصدقاء المتخيلين تكتسب روحًا ودورًا. البقية محض رغبة في النوم والعجز عن قول أي شيء، والتبخر أمام مرآة الفراغ.
إذ لا شيء يصل إلي أي مكان، والتوقف عن الكتابة نبل: كل ما كُتب لا يتعدي كونه ظلاً مضحكًا للكلمة المحلوم بها.
الكتابة لأن المعرفة استحالة.
إن سأل بيسوا نفسه، سيضجر من نفسه، لن يتعرف عليها، يُرهق من الحياة ويتطلع للعبث: ليس لهجر الوجود، بل لعدم الوجود من الأصل. وبين هجر الوجود وعدم الوجود من الأصل: خراب يمكن أن يعالج بالكتابة دون فائدة، بإرادة من يرسم طريقًا من مكان لا ينطلق منه أحد إلي مكان لا يصل إليه أحد.
قراءة "كتاب اللاطمأنينة" وطرح سؤال: لماذا كتب بيسوا هذا الكتاب؟ ربما يتضمن هنا إجابة ممكنة: كتبه من أجل النقصان، من أجل الدفاع عن العدم، من أجل رفض غرور الحقيقة وخيانة أي نظرية محتملة.
كان يجب أن يكتبه، إذن، لأن في العمق لا شيء يكمن إلا الحزن، حزن مثل الغسق، مصنوع من إرهاق، من دعاوٍ مزيفة؛ حزن مثل الضجر يحتوي بداخله شعورًا ما، أي شيء، كل شيء؛ أصفر شاحب، صوت من يصرخ داخل غرفة مظلمة، مثل شق لحزن قديم، أو مثل حزن عند رؤية طفل يبكي، رعب مفاجئ لقلب منهك.
حزن يمكن تعريفه، وفي نفس الوقت لا يمكن تعريفه. في النهاية: حزن بلا سبب.
مع ذلك، بيسوا لم يوجد أبدًا، بحسب ألبارو دي كامبوس، إحدى الشخصيات التي ابتدعها بيسوا نفسه ليخفف عن نفسه تعب الحياة، ليرفع عن كاهله هذا المجهود الضخم الذي يعني الحفاظ علي الوجود.
إن قسّمنا أنفسنا في عدة فقرات، إن قسمنا أنفسنا في عدة عزلات، ربما لا تكون شقاوة الحياة شديدة الفظاعة أو القسوة أو الإلحاح أو العبثية؛ إن كنا آخرين كثيرين، دون أن يفكر واحد لنا جميعًا، ولا يجمعنا، ولا يلفت انتباهنا، ربما نستطيع أن نشعر، أن نتحدث أو نكتب عن العزلة بطريقة أخرى: بصوت من اللاطمأنينة.
اللاطمأنينة قد تكون أحد أطنان الحقيقة الأكثر تطرفًا: الجسد يعتم، الروح تبدو متمددة في الجوانب والصوت خليط سائل بين أجزاء الخريف، أجزاء الجاذبية، أجزاء النسيان وأجزاء الهجر. ما تبحث عنه اللاطمأنينة هو الاعتراف بين أن تقول كل شيء وألا تقول شيئًا، وسط بصمة وتجويف، في منتصف الطريق بين التجلي المطلق والتثبيط الكامل.
لا، ليس صوتًا، إنه أصوات كثيرة: ما يبغض، ما يستاء، الكراهية، الفعل اللاإرادي الذي يمتزج بالحلم الإرادي، حمل الولادة والشعور بأنه لم يولد أبدًا لا من أجل الفعل ولا من أجل الحلم. كأن الجسد في مكان آخر والكلمات تتعارك إما من أجل تحررها أو من أجل ذعرها.
اللاطمأنينة مثل الحزن، نعم، إنها مثل الأمل بلا علامات، بلا أفق. صوت منفرد يسأل نفسه عن العزلة التي هي في الوقت نفسه متعددة وقليلة.
بيسوا، الذي لم يوجد، يوجد في حجرة هادئة، في حجرة وحيدة، في حجرة بلا أعداد، بلا نور، بارتياب في الصمت أو في نطق اللغط الذي يلتهب في عزلاته المتعددة. التفكير بحساسية أم الإحساس بتفكير؟ هذه هي المسألة. التفكير في فتور الشمس حتي تحرق، التفكير في إيقاع القلب حتى تتحور دوخته أو سكينته، التفكير كالحياة، متجنبًا عبء الاضطرار للحياة تحت فرمان التفكير المتعسف.
عزلة بيسوا، هذه العزلة الخاصة برجل لا وجود له، هذه العزلة التي تُصب في اثنين وسبعين رجلاً حقيقيًا، تقبل كل شيء، تتلقي كل شيء، حتي ما يعلوها: السماء المفتوحة، المصير الصامت، الإنسانية المضطربة، الأديان العمياء، والآلهة الموتي...
(*) كارلوس سكيلار "بوينوس آيرس- 1960" باحث بالمجلس الوطني للأبحاث العلمية والتكنولوجية في الأرجنتين، وفي فرع التربية بكلية أميركا اللاتينية للعلوم الاجتماعية. منذ 2005، بالتعاون مع دييغو سكليار، يذيع في يوينوس آيرس برنامجًا بعنوان "أفضل ألا أفعله". وهو مؤلف للعديد من الدواوين منها "خيوط فيما بعد" "صوت بالكاد"، وصدر له حديثًا "الكلمات ليست مستعجلة" و"الحديث مع الغرباء". كذلك مؤلف للعديد من الكتب التربوية والفلسفية.
ليست هناك تعليقات