لم أكن أفهم أمي حين كانت تتمتّع بتمضية وقتها ممدّدة في غرفة الجلوس ، في نفس المكان ، أمام التلفزيون وهي تلفّ نفسها ب "حرام " القطن الزهري اللون ، حتى بدَأت تُصيبني نفس الأعراض مع فارق بسيط هو أنني أمام التلفزيون والكومبيوتر في الوقت نفسه. فالشعور الذي ينتابني هو بكل بساطة شعور الإستسلام ومحاولة خلع ثياب العمل الذي صار يُرهقني من كثرة تعلّقي به.
و كان عمّي المرحوم الصحافي ميشال ابوجودة يقول أنّه لا يكتب مقاله اليومي في "النهار" كل أربع وعشرين ساعة بل طوال الأربع والعشرين ساعة وهذا ما كان يُرهقه وهذا ما قصّر من عمره فمات شاباً : وحين كنّا ندعوه لأخذ فرصة من العمل ومرافقتنا في عطلة جبليّة كي يريح رأسه ، كان يجيبنا : وما النفع طالما أننا سنأخذ رأسنا معنا !
وكان محمد عبد الوهاب يقول عن عاصي الرحباني إنّه يلحّن طوال الوقت : أثناء العمل وأثناء الراحة وأثناء الأكل وفي كل حين .
ولقد اكتشفت مع الوقت أن الناس صنفان : صنفٌ دماغه مؤلف من عدة "غُرف " معزولة عن بعضها ، وصنفٌ دماغه مؤلف من غرفة واحدة كبيرة . فالصنف الأول - وهو السعيد - يستطيع عزل همومه ومشاغله عن بعضها فيعود الى منزله وينسى هموم العمل ، أو يذهب إلى العمل ويترك همّ منزله في منزله ، أما الصنف الثاني - وأنا منهم مع الأسف - فإن همومه مخلوطة ببعضها البعض ولا يستطيع عزل كل حدث - صغيراً كان أو كبيراً - عن باقي مشاغله اليومية فينعكس ذلك سلباً أو إيجاباً على أدائه وعلى سعادته وعلى راحته .
واقتناعاً منّي بهذه الفكرة بدأت بمحاولة تحويل نفسي من الصنف الثاني إلى الصنف الأول ، فجلست أمام التلفزيون وأنا أتقمّص شخصية أمي محاولاً نسيان تفاصيل العمل الصغيرة ، وإشغال رأسي بأمور عادية ، خاصة أنّ الدماغ هو من أعضاء الإنسان التي لا تتوقف عن العمل ، فتذكّرت أمي وكيف أنّني لا أزال أسكن في نفس المنزل الذي وُلدت فيه ، وتذكرت كيف أنني توتّرت أمس من دون سبب أمام الرجل الذي زارني فخجلت من نفسي ، وتذكّرت أنني لم أتّصل بمريض كنت قد وعدته أن أتّصل به عند المساء بعد انتهاء العمل فامتقع لوني ، وتذكّرت وتذكّرت وتذكّرت ، فتطلّعت بصورة أبي الموضوعة أمامي في "كادر" فضّي فوق التلفزيون في أعلى الخزانة ، ونظرت ليده المشلولة من الفالج وقلت في نفسي : فالج لا تعالج : رأسي غرفة واحدة !
( فلاح)
و كان عمّي المرحوم الصحافي ميشال ابوجودة يقول أنّه لا يكتب مقاله اليومي في "النهار" كل أربع وعشرين ساعة بل طوال الأربع والعشرين ساعة وهذا ما كان يُرهقه وهذا ما قصّر من عمره فمات شاباً : وحين كنّا ندعوه لأخذ فرصة من العمل ومرافقتنا في عطلة جبليّة كي يريح رأسه ، كان يجيبنا : وما النفع طالما أننا سنأخذ رأسنا معنا !
وكان محمد عبد الوهاب يقول عن عاصي الرحباني إنّه يلحّن طوال الوقت : أثناء العمل وأثناء الراحة وأثناء الأكل وفي كل حين .
ولقد اكتشفت مع الوقت أن الناس صنفان : صنفٌ دماغه مؤلف من عدة "غُرف " معزولة عن بعضها ، وصنفٌ دماغه مؤلف من غرفة واحدة كبيرة . فالصنف الأول - وهو السعيد - يستطيع عزل همومه ومشاغله عن بعضها فيعود الى منزله وينسى هموم العمل ، أو يذهب إلى العمل ويترك همّ منزله في منزله ، أما الصنف الثاني - وأنا منهم مع الأسف - فإن همومه مخلوطة ببعضها البعض ولا يستطيع عزل كل حدث - صغيراً كان أو كبيراً - عن باقي مشاغله اليومية فينعكس ذلك سلباً أو إيجاباً على أدائه وعلى سعادته وعلى راحته .
واقتناعاً منّي بهذه الفكرة بدأت بمحاولة تحويل نفسي من الصنف الثاني إلى الصنف الأول ، فجلست أمام التلفزيون وأنا أتقمّص شخصية أمي محاولاً نسيان تفاصيل العمل الصغيرة ، وإشغال رأسي بأمور عادية ، خاصة أنّ الدماغ هو من أعضاء الإنسان التي لا تتوقف عن العمل ، فتذكّرت أمي وكيف أنّني لا أزال أسكن في نفس المنزل الذي وُلدت فيه ، وتذكرت كيف أنني توتّرت أمس من دون سبب أمام الرجل الذي زارني فخجلت من نفسي ، وتذكّرت أنني لم أتّصل بمريض كنت قد وعدته أن أتّصل به عند المساء بعد انتهاء العمل فامتقع لوني ، وتذكّرت وتذكّرت وتذكّرت ، فتطلّعت بصورة أبي الموضوعة أمامي في "كادر" فضّي فوق التلفزيون في أعلى الخزانة ، ونظرت ليده المشلولة من الفالج وقلت في نفسي : فالج لا تعالج : رأسي غرفة واحدة !
( فلاح)