أحدث المنشورات

علي نصار... ظاهرة جورج وسوف


كمعظم الظواهر الفنية،  شكّل جورج وسوف حالة إشكالية ولكن ما يميز تجربته عن الآخرين انها تخطت المألوف وأصبحت استثنائية، كونها لم تستكن مع مرور الوقت، فقد صمدت شهرته وما زالت أغانيه منتشرة بين معظم الطبقات والأعمار والفئات الإجتماعية في البلدان العربية، فهو من النجوم النجوم، اللذين لديهم أتباع ومريدين ومهووسيين بحياتهم وأعمالهم... وفي الوقت عينه هو محط نفور لا بل استهزاء من قِبل كثيرين! وهذا لم يتغير طيلة ثلاثة عقود ونصف تعاقب فيها عشرات النجوم "سريعو الإنطفاء" ومئات المشاهير الذين سوّقهم الإعلام، بشكل مفتعل، ولما أطفأ عنهم الضوء ناموا. ثلاثة عقود  تَبَدَّل فيها صوت الوسوف، أكثر من مرة، وكذلك ضروب الغناء السائدة وذائقة المستمعين وطبيعة التعاطي مع الموسيقى، تلقيا وآداء... ورغم ذلك حافظ "أبو وديع" على مركزه وظلّ سلطان معجبيه دون أي لهاث خلف الأضواء، كما يفعل غالبية "النجوم" اللذين يستجْدون الظهور استجداءً، إنما، المستغرب، ان جورج وسوف ما زال خارج إطار النقد الفعلي من قبل المتخصصين أو، على الأقل، ما زال خارج لائحة الدوريات الجادة أو الصفحات الثقافية! ولأسباب قد يكون لها علاقة بحياته الشخصية أو طبيعة الجمهور "الأول" الذي رفعه الى مستوى النجومية، أو ربما بسبب الأماكن "الشعبية" التي انطلق منها و التي تعتبر "أدنى" من الأمكنة التي تشهد صولات وجولات المحظيين عند المؤسسات النخبوية وإعلامها". وقد يكون هذا مفهوما ومبررا في حقبة سابقة.. إنما ليس اليوم!  


      أولا، جمهور اليوم، لم يعد يكتفي بالتصفيق خلال العرض الغنائي، كما في السابق! وطبيعة المكان الذي يقام فيه الحفل لم تعد معيارا لقيمة المغني، فلقد اختلط النخبوي بالعام، مصطنعا كان أم فعليا. صار جمهور الحفلات الموسيقية يهدف الإستمتاع بالمشاركة والتواصل أكثر من الإسترخاء والإستماع. صار يغلِّب الذاتي على الكلّي او، على الأقل، يسعى الى ان يكون جزءا من النشاط الفني، ولو بالحدود الدنيا. فإنسان اليوم، الذي تخطب ودّه مئات محطّات التلفزة، ويحمل الهاتف الذكي كامتداد لعقله وقلبه يشعر، ولو متوهّماً، بامتلاكه مفاتيح المعرفة والتأثير المباشر في المسارات العامة. هذا الإنسان الفرد غير مستعدّ، ولو لساعات، أن ينكر ذاته ويتخلّى عن عالمه الخاصّ، من دون الإحساس بفاعليّة وجوده. لذا من الطبيعي ان يختلف، شكلا ومضمونا، عن  جمهور القرن الماضي. فالتلقّي من موقع السالب لم يعد يغري انسان الألفية الثالثة، صار الفرد أكثر تطلبا ودخوله مطلق نشاط إجتماعي أو فني صار مشروطا، نفسيا، بإمكانية المساهمة والتاثير. تماما كالآليات التي تحكم التواصل الفايسبووكي. لذا، نرى  الناس اليوم يقصدون أماكن أقلّ تقييداً، حيث يشعرون بالقدرة، ولو الإفتراضية، على التأثير في ما يجري. (الفرق بين روّاد المسارح وروّاد الحانات التي تقدّم عروضاً فنّية، أشبه ما يكون بالفرق بين جماهير الأحزاب العقائديّة في النصف الأوّل من القرن العشرين وجماهير الأحزاب الديمقراطيّة في الدول الرأسماليّة اليوم). لم يعد جمهور اليوم، بمعظمه، يتّحد كجسد واحد رأسه الفنّان أو الفرقة الموسيقيّة على المسرح. لقد تفوقت متعة الإمتلاء الفردي على الذوبان في جسد الجماعة.  فإشباع الأنا المتضخمة للإنسان المعاصر صار المتعة المركزيّة. وهذا واقع ما زال يتجاهله كثيرون.

      هناك نقاد وكاتبون في الشأن الموسيقي، وبعض المسؤولين عن المؤسسات والدوريات الثقافية، ما زالوا قابعين في بوتقة العصر الذهبي لنجوم الغناء! حيث كان الجمهور يجلس على كرسيِّه مستلباً بجمالية الصوت والنغم وسحر النجم المعشوق... وحيث كان تدخله في المشهد لا يعدو عن المشاركة في التصفيق استحساناً! حتى ان البعض ما زال يعتمد على مستوى الجمهور الطبقي كمعيار أساسي لتصنيف الفنان! وهذا ما يجعل "القيد النخبوي" سيفا مسلطا وعائقا يلغي القدرة على الخيارات والقراءة النقدية... وكذلك تفعل المكابرة في رفض حقيقة ان المستمع صار "صاحب سلطة" في الحفلات الحية! وهذا هو السبب الأساسي الذي جعل الحانة والملهى يحتلان المشهد على حساب المسرح والمهرجان، خاصة بعد استفحال مواقع التواصل الإجتماعي التي جعلت "كل مواطن على صفحته صيّاح".    


      قد نجد مبررات وتفسيرات لكل من تجاهل جورج وسوف في بداياته. حيث كان الغناء في المطاعم والحانات يعتبر "نقيصة"! أما اليوم، وبعدما أصبحت المسارح والدور النخبوية كمتاحف القرى، وبعدما "نزل" معظم المغنين الكبار، في كل العالم، الى الحانات.. الى وسط المستمعين للتفاعل معهم... كيف نفسر التجاهل لا بل الإجحاف بحق شخصية فنية أثبتت حضورها، لأكثر من ثلاثين سنة، بتصاعد مستمر وعند معظم فئات المجتمع! أي أنها تجاوزت مرحلة فقاعات الصابون التي تبرز في كل زمان ومكان.



      مهما كابرنا وتجاهلنا... لن يُغفل التاريخ ان جورج وسوف هو أول من أعاد "الأغنية الطربية" الى الساحة.. وكان رائد إحيائها! بقصد منه او بغير قصد. إنها حقيقة دامغة، موثقة ومسجلة في الإذاعات والتلفزيونات والتسجيلات المباشرة، فمن عاصر بداياته يذكر كيف جلب مقاطع من أغنيات "الأطلال" و"لسة فاكر" و"أنا بانتظارك"... وجعلها تنافس على ال"توب تن" وتحتل المراتب الأولى وذلك في زمن كان الغناء الطربي نائماً في ذاكرة الأجيال السابقة بعد فترة الهبوط التي تلت رحيل عمالقة هذا النمط من الغناء. جورج وسوف، وفي ذروة مرحلة الإنحطاط السائدة "عبر الأثير"، هو أول من جعل "العامة" من جيل الثمانينات والتسعينات يتذوّقون ويردِّدون الأغنية الطربية! وكلنا يذكر كيف ان أصواتا فائقة الجمال والقوة حاولت فعل ما فعله الوسوف وفشلت.. بمن فيهم أهم صوت عربي.. أي وديع الصافي.


       كثيرون ينفرون من صوت جورج وسوف، خاصة في المرحلة الأخيرة، وقد أكون واحد منهم.. وقد لا تعني لي خامة صوته شيئا على المستوى الشخصي! إنما هذا لا يمنع أن جورج وسوف هو المطرب العربي الأكثر "اقترابا" من الإبداع  خلال العقود الثلاث الماضية - إذا ما ذهبنا الى المعنى الفعلي لكلمة إبداع - أي الإتيان بالجديد الخاص المتميز. فالمغني ليس فقط صوتا جميلا. المغني، المبدع، هو من يعيد تأليف الأغنية بعد الشاعر والملحن والموزِّع، والدليل على ذلك مئات الأصوات الجميلة التي فشلت في تقديم أغنيات خاصة بها.

     لقد مر الكثير الكثير من الأصوات الشجية التي غنت أغان طربية.. من سعاد محمد و نجاح سلام وعزيزة جلال ومحرم فؤاد وصباح فخري وشادي جميل... وصولا الى عبد الكريم الشعار وعلي الحجار وأحمد دوغان ومنى مرعشلي وريما خشيش وسميّة بعلبكي... واللائحة أكبر من ان تعد. إنما، بين هذا العدد الكبير من الأسماء، كم من المطربين أبتدع طريقة خاصة بالغناء؟ كم منهم أوجد لونا له؟ نستطيع عدّهم على الأصابع، كعبد الحليم حافظ مثلا! الطريقة التي أدى فيها عبد الحليم أغانيه لم تكن موجودة قبله، لقد كانت إبداعا صافيا وماركة مسجلة بإسمه. ماركة جعلته قبلة لهواة، ومحترفي، الغناء الذين "اعتنقوا" طريقته ومن بينهم كثيرين يتفوّقون عليه بجمالية الصوت وقدرته... ولكنهم، في المحصلة، لم ينجحوا بتأليف لونهم. فكم من الأصوات أذهلتنا بغنائها أغاني عبد الحليم ثم، بمجرّد تجرؤهم على طرق باب الإبداع بأغنية خاصة، لفظتهم آلهة النغم. وكما عبد الحليم كذلك نصري شمس الدين فيروز وصباح وأسمهان ومحمد عبد المطلب... جورج وسوف ينتمي الى هذه الفئة من المبدعين.. بغض النظر عن الفوارق بين أصواتهم - من الناحية الجمالية والقدرة البيولوجية - لا بل ان جورج وسوف يتمايز عن هذه الفئة من المبدعين كونه الوحيد، خلال العقود الثلاث الماضية، الذي ابتدع طريقة خاصة في الغناء على المستوى الطربي والشعبي. وحتى في الأشكال الأخرى من الغناء العربي، لم نر نجما واحدا من نجوم العقود الثلاثة الماضية له مقلدين و"أتباع" (يوجد اليوم على الساحة الفنية أكثر من عشر مطربين محترفين يقلدون جورج وسوف تقليدا تاما! لم نتكلم هنا عن المئات من الهواة).


      المطرب المبدع هو من يلون الأغنية بلونه، وقد تكون المهمة أصعب حين تكون الأغنية معروفة بصوت مغن آخر! المحكّ ان تغني أغنيتك.. ان تجعل الأغنية أغنيتك. كما فعلت فيروز أو ناظم الغزالي مع أغاني التراث. وهذا ما يتفوّق فيه الوسوف على الجميع. إن اي أغنية مهما كان عصرها ونغمها وإيقاعها... حين تمر عبر حنجرته تصبح وسّوفيّة اللون والطابع، وبرأيي ان موهبة "أبو وديع" ليست في صوته، فخلال مسيرته الفنية تبدّلت طبقته وطبيعته اكثر من مرة! حتى انها اختلفت لدرجة تعتقد معها ان "أصواته" المتعددة تعود لأكثر من شخص، فلا شيء يجمع بينها سوى نَفَس الوسوف المميز ولمسته السحرية. من هنا نستطيع القول ان ميزته تكمن في القدرة على إعادة تأليف اللحن.. مطلق لحن. فكل أغنية تدخل الى مخبزه الخاص.. يكتب لها حياة أخرى. إنه ميزة امتلاكه لأذن موسيقية فائقة الحساسية وهذا ما يجعل لقب "سلطان الطرب" فيه بعضاً من الواقعية والمنطق، إذ انه يبالغ في تعشيق النغمة.. في الإنغماس بها حتى السلطنة.. في نثرها على كامل ذبذبات الحنجرة (حتى حين تكون هذه الحنجرة مريضة).. وبناءً عليه أتجرأ وأقول ان جورج وسوف واحد من قلة قليلة "معصومة" عن النشاز! ولا أعتقد انه قد يسقط في خطيئة النشاز يوما، لأن الصوت الذي يغني به حاليا لا يصلح لبائع سمك.. وبالرغم من ذلك.. ما زال يبدع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads