باشلار قارئاً لوتريامون... المخيِّلة في سُعارها الشِّعري وحياتها الحُلميةش

alrumi.com
By -
0


د. رسول محمَّد رسول
تحفل الثقافة الفرنسية بنماذج مُبدعة يتصدى فيها فيلسوف ما لقراءة شاعر أوروبي، ومن ذلك قراءة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 - 1962) لديوان مواطنه الفرنسي الأصل أيزيدور دوكاس (1846 - 1870) الشاعر الذي انتحل لقب "لوتريامون"، والمعنون بـ (أناشيد مالدورور) التي ظهرت بمقاطعها الستين في متن الديوان الذي تعرّف إليه القارئ العربي منذ عام 1982 عندما ترجمه سمير الحاج شاهين، وعادت دار الجمل لتطبعه ثانية في عام 2010، وهو الشاعر الذي لم يجد القارئ العربية مزيد دراسات عنه حتى الآن سو النزر القليل، لكنه المترجم العراقي المقيم في باريس (حسين عجة) أتحفنا بترجمة دراسة طال انتظارها كان الفيلسوف الفرنسي باشلار قد وظبها في كتاب مصغر ونشره تحت عنوان (Lautréamont) صدر في باريس عام 1939، إلا أنها ظلت حبيس الأدراج حتى تنبه له عجّة ونقلها إلى العربية بترجمة أنيقة صدرت عن الروسم للصحافة والنشر والتوزيع في بغداد عام 2015.
قبل أن أقرأ كتاب باشلار إياه كنتُ أتساءل: لماذا يكتب هذا الفيلسوف عن شاعر؟ هل هو تقليد درج عليه فلاسفة أوروبا في القرن العشرين وهم يقرؤون شعراؤهم كما فعل مارتن هيدغر، على سبيل المثال، في قرائته لقصائد يوهان هولدرلن وقصائد جورج تراكل والكتابة عنهما؟
في واقع الأمر، تذكّرت عناوين مؤلَّفات باشلار ذات الاهتمام بعوالم ما هو حسي مثل (التحليل النفسي للنار)، و(الماء والأحلام)، و(الهوى والرؤى)، و(التراب وأحلام الإرادة)، و(التراب وأحلام الراحة)، و(شاعرية أحلام اليقظة). 
علم وظاهراتية
في الواقع تنصرف هذه الكتابات على نحو أو آخر إلى ما هو شعري في لغة التعبير، وهي المرحلة الثانية من حياة هذا الفيلسوف الذي أخذ يهتم بالتخييل الشعري بعد أن انصرف إلى دزينة من المؤلَّفات الفلسفية ذات الاهتمام بالعقل العلمي، مثل: (العقل العلمي الجديد)، و(تكوين العقل العلمي)، و(العقلانية المادية)، و(العقلانية التطبيقية).
إن انصراف باشلار إلى معاينة الواقع الموضوعي عبر تحليل القول الشعري ينم عن منهجية ظاهراتية غير منقطعة عن عوالم الحس ولا لا ذهنية محضة ولا معرفية ذاتية مطلقة، فهو يبحث عن النار والتراب والهواء، وراح يتوغَّل أكثر عندما انصرف إلى تخييل عوالم الحيوان كما تمثلها لوتريامون في أناشيده، ومع أن صنيعه هذا يذكرنا بالمعري في (رسالة الهناء)، إلا أن تجربة لوتريامون في تسريد عالم الحيوانات تبقى ذات أهمية جمالية فائقة الحضور ولها ميزتها الخاصة بها تلك التي استأثرت باهتمام القراءة الباشلارية التي ستفتح بدورها، وكما يقول المترجم، "الباب واسعاً للتمتع برؤية وتدفق لغة باشلار الشعرية إلى جانب تحاليله الثاقبة والمرهفة؛ إن كان على صعيد السيكولوجيا والبيولوجيا والسيسيولوجيا أو التحليل النفسي وغيرها أو في ما يتعلق بالنقد الأدبي" (ص 13).
يرى باشلار في تجربة لوتريامون "وكأنها فينومينولوجيا حقيقية للعدوانية المحضة حتى في أسلوبه، الذي قيل عنه إنه شعر محض". ويذهب، مقارناً، إلى أن "لافونتين كتب سيكولوجيا إنسانية عبر الأسطورة الحيوانية، فيما كتب لوتريامون أسطورة لا إنسانية بمعايشته من جديد للدوافع الفظة، التي ما زالت في القوة داخل قلب البشر". ولذلك يستنتج باشلار بأن "شعر لوتريامون إنما هو شعر إثارة وتحريك للدافع العضلي"؛ فالعنف المباشر المتحقق ضمن أمان الحركة المحيونة، هو ما يحتفظ، من منظور باشلار، بسر الشعر الحيوي"، ومن منظور فلسفي يرى باشلار بإزاء لوتريامون بوجود "ميل فينا لحيونة آلامنا، وحالات تعبنا، وكذلك اخفاقاتنا". وبالمقارنة، يرى باشلار أنه بينما "تفتقر الأشكال عند كافكا بسبب من استهلاك إرادة العيش، تتضاعف عند لوتريامون بحكم توتر إرادة العيش".
القسوة المجانية
ورغم العمر القصير الذي عاشه لوتريامون (مات وحيداً في فندق كان نزيله في 24 نوفمبر 1870)، لكنه ذاق مرارة القسوة في حياته، عاشها بملء الفم كما يقال، ولذلك يتنبه باشلار إلى ذلك قائلاً: "لا يبحث لوتريامون عن معنى الحياة عبر سعادة التملُّك وهضم الأكل، لكن ينبغي الوصول إليهما عن طريق القسوة المجانية".
إن تمثيل عوالم الحيوان في نصوص مفعمة بالخيال الشعري قاد باشلار إلى معاينة طريقة لوتريامون في ذلك بالانطلاق من اعتبار "أن كل أشكال حياتنا متجسدة في مملكة الحيوان، يشكِّل عالم الحيوان عند لوتريامون جحيم النفسانية".
في ملاقاته لأناشيد لوتريامون، يقدِّم لنا باشلار نصاً قرائي لاذعاً في ملاحقة تفصيلات التجربة، فهو يحتدم في عمق الحالة النفسية لهذا الشاعر الغريب، بل لعمق واقعه النفسي المتوتر الذي عاشه في داخله، بل للسعار الدوكاسي، (بحسب تعبير باشلار، واستناداً إلى اسم لوتريامون الأصل أيزيدور دوكاس)، الذي تساءل مرة: "هل أنتَ متعبٌ من العيش؛ أنتَ الذي بالكاد قد ولد؟". 
ليس سهلاً أن يعيش المرء جحيم الحياة، وعندما يصف باشلار تجربة لوتريامون بأنها تجربة سُعار فهو يستند إلى معطيات كثيرة وردت في الأناشيد الستة التي قرأها بروح شفافة بحثاً عن قولها التخييلي نافر الوجود؛ فلوتريامون، والقول لباشلار "يرسم مركباً واضحاً تماماً، خطراً ومرعباً، وغاية في إثارته للأعصاب".
لقد وجد باشلار في ذلك تعددية نادرة لجأ إليها لوتريامون في أناشيده، فوفقاً لمنظور هذه القراءة، "ليس هناك أرواح شعرية بلا أصداء تعددية وممتدة، بلا أصداء مضاعفة، ومن دون إنسانية تعددية جوهرية، وبلا ذبذبة مسموعة عبر الوديان والغابات، عبر اللامتناهي والمتقلص، من خلال الضوء والظل، في الرقة والغضب".
وهذا يعني أن لوتريامون كان مصغياً مثالياً لما يجري في العالم الحسي، بل هو ارتماء تاريخاني في لحظة العيش الزمانية على نحو هادئ عاشه الشاعر رغم الصخب الهائج أو السُعار الملتهب الذي كان يثوي في داخله على النقيض من روح التمرد التي عُرف بها آرثر رامبو على سبيل المقارنة. 
يعود باشلار، غير مرة، إلى سُعار لوتريان في أكثر تجلياته ظهوراً عبر شكليه الحيواني والاجتماعي، فهو يعتقد بأنه "لا ينبغي تحليل الشعر الدوكاسي عبر مفردات الصور البصرية، إنما عبر مفردات الصور الحركية، كما يجب الحكم عليه باعتباره منظومة غنية بالأفعال الانعكاسية وليس كمنظومة انطباعات". وهذا يعني أن لوتريامون ليس شاعراً للصورة بقدر ما هو شاعر الحركة، ولا أعرف لماذا فات الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الكتابة عن لوتريامون؟ 
لذلك نجد أناشيده لوتريامون الستة تحقل بتصوير ما هو حركي في مفردات العالم الموضوعي، الحيواني خاصة، وهو ما سينعكس على دواخل الشاعر نفسه، بل وعلى طبيعة كتابته الشعرية في كل حالاته الذاتية، ومنها حالات الجنون والهلوسة التي مُني بها؛ إذ تظهر "الهلوسة الذاتية دائماً عند لوتريامون كذريعة لإنتاج طاقة واثقة من نفسها، تُضيء الهلوسة الذاتية الشعور العضلي الأكثر ديناميكية".
لقد أصاب باشلار في تحليلاته كبد الرسالة الشعرية لدى لوتريامون، الذي يريدنا الفيلسوف الفرنسي أن نتناغم معها كونها تستثمر كل الطاقات، الداخلية والخارجية، من أجل خلق اللحظة الشعرية المتدفقة حيوية.
الحياة للشعر
يعود بنا باشلار إلى بول أيلوار الذي قال يوماً: إن "الشاعر يفكِّر دائماً بشيء آخر"، وهو "الآخر" الذي فكَّر فيه لوتريامون وطالت مظانه القراءة الباشلارية التي تنطلق من اعتباره ذي أهمية قصوى؛ فبعض "الأرواح يتفوَّق لديها التعبير على الحياة"، وتلك ملاحظة ذكية، فشاعرنا لوتريامون لم يعش طويلاً لكنه ضخ تعبيراً شعرياً مكثفاً في معطياته تلك كشفت عن عبقرية فذة سواء في "الأناشيد" أو في بقية قصائده الشعرية الأخرى. بل وامتشق من الحياة التقليدية رونقها ليكتبه شعراً مرسلاً غاية في الروعة، يقول باشلار: "يمكننا التعامل بالدقة مع أناشيد مالدورور كذريعة لفهم ماهية العمل الذي ينتزع نفسه تقريباً من الحياة التقليدية". وكم كان لوتريامون موفقاً في ذلك عندما انتزع من الحياة جمالها الشعري.
ما هو مؤسف أنه لا توجد في اللغة العربية دراسات معمقة عن لوتريامون، وإن وجدت حتى في اللغات الأخرى، فهي لن تحاذي قراءة باشلار للمخيلة الشعرية اللوتريامونية. وإذا كان مارتن هيدغر وهو يقرأ هولدرلن وكذلك جورج تراكل، قد راح يبحث عن معطيات ما هو جمالي – أنطولوجي، فإن القراءة الباشلارية تقصدّت إجلاء البًعد النفسي بما يفوق حتى التفسيرات النفسية المعتادة، يقول باشلار عن طبيعة قرائته:
"هناك بعض الشعراء المباشرون الذين يرسمون في دواخلنا نوعاً من الاستقرار، وإيقاعاً عصبياً مختلفا كليةً عن الإيقاع الألسني. لذا ينبغي قراءتهم كدرس للحياة العصبية، لإرادة العيش الأصلية، وعلى هذا المنوال، حاولنا معايشة أناشيد مالدورور باعتبارها استقراءً من بدايتها إلى نهايتها. لقد كرّسنا لدراسة هذا الشعر أشهراً طويلة لتجربة طيعة ولطيفة وذلك بغية إعادة الهيجان الخاص لحياة مختلفة تماماً عن حياتنا".
في الخاتمة، يتحدَّث باشلار عن "خط قوة المخيلة" الذي ينطلق من "قطب حياتي فعلي"، كما ينطلق من منطقة "أشكال مجربة كأحلام تجريبية". إلى جانب ذلك، يعتقد باشلار أن "الحياة الصماء هي ما يحترق، والحياة الدقيقة هي ما يهاجم، إنها الحياة الحلمية التي تلعب وتفكر".
وبهذا، تعد القراءة الباشلارية، في حد ذاتها، أيقونة تحليلية كان لوتريامون ينتظرها كأمنية حدْسية ربما اجتاحته في لحظة ما، ولكن هذا هو الإبداع الجاد والحقيقي والتاريخاني ينتظر دائماً من يقرأه ولو بعد نصف قرن من الزمان على ظهوره.


http://www.alittihad.ae/details.php…
http://www.alsabaah.iq/uploads/new/3816/4.pdf

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)