صلاح عبدالصبور.. وقائع اغتيال الفارس القديم

alrumi.com
By -
0

 

صلاح عبد الصبور صلاح عبد الصبور
أشرف عبد الشافى

كلمة طائشة فى سهرة عابرة قتلت صلاح عبد الصبور، وألف كاذب جاء اليوم ليرقص على جثته، عن معرض القاهرة للكتاب أحدثكم، عن الندوات العريضة والعناوين البراقة والثرثرة التى تنتهى كما بدأت كل عام، عن الملايين التى تم إنفاقها للاحتفال بشاعر مات كمداً تاركاً ابنتيه الصغيرتين للأقدار وللبشر الجارحين كالصقور، عن «مى» ابنته الصغرى التى تثير شفقة مثقفى وسط القاهرة كلما مرت لتؤنب الضمائر وهى تمضغ الحزن، عن المصائر والأقدار وليالى التشرد والضياع والبحث عن مأوى لفتاة فى الثلاثين من عمرها يحتفل معرض القاهرة الدولى للكتاب بوالدها الشاعر الكبير، عن «أدونيس» الذى نهش لحم عبد الصبور حياً وميتاً وجاء مدعواً لدورة تحتفى بصاحب «شنق زهران».. أحدثكم.

يا صاحبى إنى حزين، كلما جاء اسم صلاح عبد الصبور فى أى عبارة أو جملة حتى لو كانت عابرة، فالشاعر الذى جدد وصنع مجداً للقصيدة أتهموه بالخيانة وموالاة السُلطة فى حياته، وسلطوا عليه الصغار للسخرية منه وتركوا ابنتيه للضياع بعد وفاته.

كان السادات قد أحكم قبضته على المثقفين فهاجر بعضهم بحثاً عن الحرية، بينما هاجر البعض الآخر بحثاً عن الأموال والأنتخة والنضال المجانى ضد مصر وساداتها، وتفرقوا بين عواصم عربية وأجنبية، لكنهم أجمعوا على تخوين من بقى فى مصر بتهمة العمل مع «النظام»، ولم ينج من الاتهام شاعر فى قامة «صلاح عبد الصبور» الذى اعتبره بعضهم عدواً «لليسار» ومناهضاً للحرية!!.

تبدأ الدراما من عام 1975 عندما تولى «صلاح عبد الصبور» رئاسة تحرير مجلة «الكاتب» بعد الإطاحة بأحمد عباس صالح من رئاستها، انطلقت حرب شعواء ضده فقد قيل إن الشاعر الكبير وافق على تصفية نظام السادات للناصريين والمعارضين!، لكن ما لم يقله شاعرنا أو خجل من التصريح به إن وزير الثقافة «يوسف السباعى» طبع اسمه على المجلة وأصدر العدد الجديد بالفعل دونما استشارته أو مراجعته أو إبلاغه!، ووضعه بهذا التصرف فى موقف عبثى وسخيف، فإما يعلن رفضه لما حدث على الملأ، فيكلفه ذلك الاستقالة من منصبه فى وزارة الثقافة والتعرض للبطالة التى ظل يعانى منها طويلاً!، وإما يقبل الأمر الواقع ويسكت على هذه «الخدمة» التى اغتصبها منه الوزير «السباعى» اغتصابًا.

تصاعدت الدراما لتضع شاعرنا فى عواصف شديدة حين تولى رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد التى سمحت لإسرائيل بالمشاركة فى المؤتمرات والمهرجانات الدولية وسط غضب ورفض المثقفين والنقابات وجموع غفيرة من الشعب، ووجد عبد الصبور نفسه مجبرًا على تنفيذ قرارات النظام الذى ينتمى إليه بحكم العمل.

الكاتب الراحل سليمان فياض سجل شهادته على ما جرى آنذاك: «أصبح عبد الصبور رئيسًا لمجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب كان يسعى إليه المثقفون فيلقاهم باسمًا ويحدثهم برفق الشاعر وبراءته ولا يرد صاحب عمل جيد خائبا وكانت تقع عليه بحكم منصبه مسؤولية معرض القاهرة للكتاب وكانت اتفاقية كامب ديفيد قد وقعت، وضغوط إسرائيل تتواصل على أجهزة الدولة باسم التطبيع ليكون لها جناح بالمعرض. 

ولم ينجح الإسرائيليون فى اجتذاب أحد من الجمهور لجناحهم الهزيل واستطاع بعض من شباب الجامعة اختراق الحصار الأمنى وإنزال العلم الإسرائيلى وإحراقه فألقى القبض عليهم وحبسوا فى قاعة بالمعرض لكن صلاح تدخل لإطلاقهم وأخذهم معه إلى مكتبه ولم يقل لهم شيئا، فقط استدار ناحية النافذة وبدا لهم أنه يرتعد، ورأوه يرفع يدًا إلى وجهه وكأنه يمسح دموعه ثم نظر لهم نظرة امتنان وجعلهم ينصرفون بسلام.

هيكل يصوب الرصاصة الأولى إلى صدر الشاعر
الدراما لم تصل إلى تلك الذروة من فراغ، لكنها بدأت من عند الأستاذ هيكل!، فقبل كل هذه الأحداث وفى نهاية الخمسينيات كان شاعرنا يعمل بالتدريس، وكتب عن تجربته تلك فقال إنها كانت فاشلة بامتياز، وإنه كان يتعرض للتوبيخ من مفتشى اللغة العربية لعدم اهتمامه بالعمل وبمهنته كمدرس!، وحاول صديقه محمد فريد أبو حديد إصلاح العلاقة بينه وبين الغاضبين عليه فى وزارة التعليم، لكنه قرر الاستقالة منها عام 1957، والتحق بمجلة روزا اليوسف ونشر قصيدته «شنق زهران» لتصبح حديث مثقفى مصر والعالم العربى، وراح لويس عوض وكامل الشناوى يبحثان عن هذا الولد العبقرى الذى نفخ من روحه فى الشعر العربى، وأصبح صلاح عبد الصبور رئيسا للقسم الأدبى بالمجلة وكاتب افتتاحياتها السياسية فى بعض الأحيان.


كانت مؤسسة الأهرام فى ذلك الوقت أكبر مؤسسة صحفية فى الشرق الأوسط، وقد اتصل رئيس تحريرها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل يطلب صلاح عبد الصبور للعمل بها، فترك الشاعر الشاب كل مجد روزا اليوسف وصدق هيكل.


تقول عايدة الشريف فى كتابها «شاهدة ربع قرن» إن عبد الصبور ظل فى الأهرام شهوراً يعمل بالمكافأة دون راتب ثابت، وإن الأستاذ هيكل ظل يماطل فى التعاقد معه، فشعر «عبد الصبور» بالألم والإهانة، وفى هذه الأثناء اتصل به ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك ليكون مشرفا على إدارة التأليف والنشر، فوافق، وكانت نتيجة قراره أن أصدر هيكل أمرًا بمقاطعة «عبد الصبور» ومنع نشر قصائده أو مقالاته ولم يسمح بنشر أخبار عنه، فكيف يقبل منصبًا فى وزارة الثقافة ويترك «هيكل»؟!.


خمسون عامًا عاشها عبد الصبور، خمسون عامًا يحاول الابتعاد عن البشر الجارحين كالصقور، فكلما غرق فى بحر الشعر عازفاً عن الدنيا وعبثها، وجد نفسه مشدوداً إلى واقع بائس ونفوس مريضة نهشت روحه وأسقطت عليه أمراضها وهلاوسها!.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)