![]() |
جوزيف وفواز وجار الله عمر |
لست أستغرب عندما يتحدث زهير رحال عني او معي ويسمّيني «جوزيف». ولا انا أستنكر عندما تعبّر لي جنى نصرالله عن عميق صدمتها والحزن على وفاة «فواز». فقد اعتدت، كما اعتاد جوزيف، مثل هذا الخلط بيننا. فبيني وبين جوزيف سماحة شَبَه توأمة لا فكاك منها، تحمل من خصائص التوأمة الشيء الكثير: تعلّق التوأم الشديد بالآخر، مقداراً من المنافسة والغيرة بينهما ومقادير من تطلّب الواحد ان يكون الآخر مثله. ولعلني كنت الاكثر تطلبا والاقل تسامحا. وجوزيف الاكثر باطنية.
تعرفت الى جوزيف سماحة عام ١٩٧٢ من ضمن مجموعة شباب دخلت في حوار مع منظمة العمل الشيوعي قصد الانضمام وكنت مكلفا بالمتابعة معهم. ضمت المجموعة حازم صاغية ووليد نويهض وغانم ابو غانم وآخرين. جوزيف وحازم قادمان من علاقة بحزب العمال الثوري العربي الذي اسسه ياسين الحافظ وقد إختلفا مع ياسين على الموقف من المقاومة الفلسطينية. اما وليد وغانم فمن شباب الحزب السوري القومي الاجتماعي الذين كانوا يثيرون قضايا الديمقراطية الداخلية في الحزب ويطالبون بموقف عملي مشارك تجاه المقاومة الفلسطينية وبالانحياز يسارا في العقيدة الاقتصادية والاجتماعية.
إذ قررت المجموعة الانضمام الى المنظمة التحق جوزيف ووليد باسرة تحرير مجلة «الحرية» الاسبوعية. كان جوزيف آنذاك طالبا في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية. قليلون يعرفون ان الطالب المتفوّق في الفلسفة نال منحة لاكمال دراسته الجامعية في باريس الا انه تنازل عنها وقرر البقاء في لبنان ملبّيا نداء واجب نضالي كان يلحّ عليه الحاحا.
مطلع الصداقة السريعة والحميمة التي نشأت بيننا اختياري لجوزيف شاهدا على زواجي وقرارنا السكن في طبقتين متجاوزتين في بناية واحدة مع نشوب الاقتتال الاهلي وعجز كلينا على البقاء في مسكنه هو في عمق الاشرفية وانا على خطوط التماس في زقاق البلاط.
وفي «الحرية» ايضا مارس جوزيف اول تجربة له في رئاسة تحرير مطبوعة صحفية. في خريف العام ١٩٧٦، عندما طلبتْ مني قيادة المنظمة ان أغادر الى باريس، لدواعٍ قيل لي وقتها انها أمنية، تسلّم جوزيف مسؤولية الاشراف على لجنة الاعلام التي استدرجت مشاركة كوكبة من الشباب المندفع والموهوب، شكل الفوج الثاني من مثقفي المنظمة واعلامييها، ومن اسف انهم ما لبثوا ان تفرّقوا ايدي سبأ. اني اتحدث عن: زهير هواري، سعد محيو، جورج ناصيف، نصير الاسعد، نهلة الشهال، سليمان تقي الدين، عبدالله اسكندر، نجاة طاهر، شربل داغر، رودولف القارح، وليد نويهض، احمد قعبور، زينب شرف الدين، سعدى العبدالله، حسن ضاهر، وفي الاخراج السينمائي، مارون بغدادي ورندة الشهال، وفي التصوير الصحفي، رمزي حيدر وبلال قبلان، غيرهم.
خلال الفترة القصيرة التي تولى فيها جوزيف تلك المسؤولية، وقد كان يعمل منذ مدة في «السفير»، اسهم في «تهوية» المجلة وتغليب الطابع المهني الصحفي عليها وفتح ابوابها على مساهمات من خارج دائرة المنظمة، قبل ان ينتقل لرئاسة تحرير جريدة «الوطن» الناطقة بلسان الحركة الوطنية اللبنانية.
في «الوطن»، اندفع جوزيف في مشروع الحركة الوطنية حتى النهاية، وبالحدة السجالية المستوحاة آنذاك من المناخ الحربي الذي كنا نعيش فيه. فاستثار عداء جهاز المخابرات الذي يرأسه جوني عبده. فتلقى جوزيف تهديدات عديدة اضطرتنا الى اتخاذ اجراءات حماية مشددة، فأسكنّاه في مكاتب المجلة في حيّ الفاكهاني. وللتسلية والترويح على النفس كان علينا ان نزوّد جوزيف بطاولة كرة الطاولة، رياضته الداخلية الاثيرة بعد البليار. وكان من دواعي سروري ان ازوره لالاعبه واخسر دوما امامه في كرة الطاولة كما كنت اخسر في البليار.
غادر جوزيف منظمة العمل الشيوعي في ظروف لا تشرّف المنظمة ولا قيادتها. عند انهيار مشروع الحركة الوطنية، وتخلي يسارها عن برنامجع الديمقراطي الجذري والعلماني، كان لسان حال جوزيف: اذا لا تغيير، فالمصالحة بين الفرقاء النزاع اجدى والعمل في سبيل استعادة وحدة لبنان. كتب جوزيف سلسلة مقالات انتقد فيها تخلي الحركة الوطنية عن العلمانية، وتماهيها مع الاسلام السياسي، فصدر قرار تنظيمي بفصله. ولكن من أسف ان جوزيف عبّر عن مراجعته تلك باتخاذه موقفا ملتبسا من حكم امين الجميّل والمفاوضات الاسرائيلية-اللبنانية التي افضت الى إتفاق ١٧ ايار.
اتذكر ذلك الانقلاب عند جوزيف وانا اتفكّر في الاسابيع الاخيرة من حياته. في «الاخبار» ايضا ذهب جوزيف الى النهاية فيما اعتقده مشروع تغيير في لبنان يحسم الصراع بين خط «اميركي» وخط «وطني قومي مقاوِم ». فوضع كل ما اوتي من موهبة وقدرة جدلية دعما لمشروع المعارضة حسم المعركة باسقاط الحكومة في الشارع. ولكن جوزيف كان قد تعلّم من الدرس الاليم لحروب ١٩٧٥-١٩٩٠. فتوقف عند «الخط الاحمر »: الاقتتال الاهلي، وقد لاحت بوادره في كانون الاول الماضي. فقال: كفى.
هذه «الكفى» هي في اعتقادي وصية جوزيف، بل صيحته، في وجه المعسكرين المفلِسين في لبنان.
غادر جوزيف منظمة العمل الشيوعي وفي نفسه توق لم يفتر للعمل الحزبي الجماهيري رافقه حتى ايامه الاخيرة. ولكن الخيط الناظم لفكره ظل موسوما باشكاليات النشأة الفكرية التي طرحتها المنظمة اول عهدها. فكانت محاولاته المتكررة للجمع بين نزعة قومية عربية وبين استلهام ماركسية غير تقليدية وعقلانية. تتنازعه دوما رغبتان: رغبة عارمة في التغيير الجذري لما كان يسميه، بعد ياسين الحافظ، «عمارة المجتمع العربي » من جهة ومن جهة اخرى حماسة لا تقل عنها زخما للدفع في النضال على جبهة المسألتين الوطنية والقومية. الا ان جوزيف ما لبث ان جنح في السنوات الاخيرة الى تغليب الثانية على الاولى، وايلاء الاولوية لما اعتبره معارك فاصلة في ساحة صراع بين معسكرين - معسكر «الهجمة امبريالية » في مواجهة معسكر المقاومات الاسلامية تسندها وتقودها «انظمة الممانعة ». ذهبتْ في جريرة تلك الاولوية امور عدة في المسألتين الوطنية والقومية ذاتها: الاستيعاب الجاد لأبعاد مسيرة الحلول الثنائية، والقياس الفعلي لمدى التعارض بين «انظمة الممانعة » وبين الولايات المتحدة الاميركية، وحدود المقاومتين الاسلاميتين في لبنان وفلسطين، إن من حيث التصدي لامبريالية عصر العولمة او من حيث مشروعهما المجتمعي ناهيك عن محدودية دورهما العسكري في اطار الحلول الثنائية للنزاع العربي الاسرائيلي. وقد تمت تلك الاولويات ايضا على حساب نقد الانظمة العربية (ناهيك عن النظام الايراني ) وعلى حساب اعطاء التحويل الديمقراطي الداخلي ما يستحقه من الاهمية بما هو مسار داخلي يلبّي حاجات شعبية عربية حقيقية، ناهيك عن استخفاف جوزيف الشديد بمسألة الاقليات في العالم العربي.
ولكن فيما يتجاوز هذا كله، لم يكف جوزيف مرة عن الحلم بتجديد وتفعيل اليسار في لبنان والعالم العربي، ولم يتخلف مرة عن اية محاولة من المحاولات التي بذلت من اجل ذلك، حضورا او كتابة او مشاركة. وكم سوف يسرّ جوزيف لو علم ان رفاقه لفّوا نعشه بالعلم الاحمر الى جانب علم لبنان.
جوزيف الصحفي.
لن اطيل عن دور جوزيف في اسر التحرير. سواي اقدر على الكلام في الموضوع مني. يكفيني التشديد على تقديسه العمل الجماعي، وإن يكن يأخذ دوما على نفسه من العمل ما هو قاتل، ودأبه على مساعدة زملائه او المبتدئين على حد سواء، وقسوته على الذات في المراجعة والنقد الذاتي، وقدرته المذهلة على تخيّل المواضيع واقتراح زوايا جديدة للنظر الى كل عنوان من عناوين الصحيفة وكل قسم من اقسامها، وهو الذي يملك حدسا مدهشا لالتقاط الظواهر الجديدة من الشرق اوسطية الى العولمة مرورا بظاهرة الحركات الاسلامية والظاهرة الحريرية.
تقلّب جوزيف في مطبوعات عدة تتراوح بين اقصى اليسار واليمين النفطي المحافظ. مرورا بـ «اليوم السابع »، المؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية و «السفير» حيث امضى جوزيف اطول تجربة صحفية له. في كل هذه، كان جوزيف مدركا كليا لأن العمل الصحفي مهنة لتحصيل لقمة العيش. والمعاش عنده لسداد الديون بالدرجة الاولى. وهنا ايضا يذهب في التجربة الى نهاياتها، يلاعب اصحاب المطبوعة حول الحدود والالتزامات، يمطّ ما استطاع اليه سبيلا من الممكن وغير الممكن ومن النقد والمواقف، ثم يكتم، ويبطن، الى ان يكتشف ان التجربة استنفدت اغراضها، او يبلغ عنده السيل زباه، فينفجر ويغادر. هكذا كان جوزيف يمارس اقدس قيمة نذر نفسه لها: حرية الرأي. بل قُلْ الحرية فقط.
اما صحيفته المثالية ففي مكان آخر. حلمنا معا في المنفى الباريسي بصحافة من نوع جديد. فكانت تجربة «زوايا». تعطي اهمية خاصة للجمالية في الاخراج (تولاها اميل منعم الدي رافق جوزيف في «الاخبار»)؛ وتفتح زاوية خاصة لنقد «الاستغراب»، اي كيف ينظر شرقيون الى الغرب، بديلا من استمرار النقيق في نقد الاستشراق. وتطرح موضوع الديمقراطية بما هي ثورة وعملية تحويل جذرية داخلية وبقوى داخلية. وتفرد زاويا خاصة للمرأة ولفن التصوير وثقافة العين، والثقافة الشعبية. سعت «زوايا» ان تكون مستقلة التمويل على امل ان يمدها بعض متمولي اليسار باكلاف طباعة وتوزيع لا اكثر. فلفظت انفسها وهي على اهبة ولادة عددها الرابع المخصص لقضايا المرأة العربية. حمل جوزيف الحلم ذاته الحلم الى «الاخبار». ولكن جوزيف غادر و «الاخبار » تحبو وإن تكن بصماته الصحافية فيها تبعث على الامل.
على امتداد لا اقل من عقد من الزمن، ارتبط اسم جوزيف سماحة بافتتاحيات انيقة، ليست تخلو الواحدة منها من «لمعة» من اللمعات المميزة لاسلوبه، تتقطّر منها كثافة ثقافية وفكرية تهتدي بمتابعة جلودة، وبحساسية مفرطة للخبر وتحليله وتقليبه على غير وجه. هي افتتاحيات يستحيل ان تترك القاريء في اللامبالاة، تصدم او تثير النقاش او تدفع الى المعارضة او تستفز الى الفعل. وليس سرّا ان جوزيف تخيّل كتابته الصحفية رسالة ذات مؤدى عملي. يحدوه ايمانٌ عميق بدور الكلمة ودور المثقفين في إرشاد وعقلنة وتوجيه الفعل السياسي. من هنا انه رأى الى كتابته الصحفية بما هي فعل سياسي بامتياز، والسياسة هَوَسه الاكبر. ولم يكن يتردد في شخصنة ذلك الدور إذ يتصوّر نفسه يلعب دور المثقف الذي يرشد «الامير»، وقد لعب ذلك الدور فعلا، الى هذا الحد او ذاك، وبهدا القدر او ذاك من النجاح، تجاه الحركة الوطنية اللبنانية، في اواخر ايامها، او تجاه منظمة التحرير الفلسطينية (خلال عمله في «اليوم السابع » و «السفير»)، او تجاه التيار القومي العربي بعامة واخيرا ليس آخرا تجاه المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان.
لكن هذا الصحفي من طراز جديد لم يكن بدون مفاجأت. في الجدل والمحاججة، يبزّ جوزيف نفسه. يوظف كل تربيته الفلسفية لممارسة لعبته الاثيرة في ان يقنعك بوجهة نظر ثم يقنعك بنقيضها، على غرار احمد فارس الشدياق ينظم قصيدتين متوازيتين ومتعارضتين على نفس الوزن والقافية، واحدة في مدح باريس وثانية في ذم باريس! أجاد جوزيف تلك لعبة، احيانا لضرورات التماشي مع خط المطبوعة، او لتبرير تيار سياسي يدعمه، ولكن لعبته الجدلية هذه كانت ايضا، واكاد ان اقول كانت بالدرجة الاولى، بمثابة انتقام جوزيف السرّي من السفسطة والتقّعر العقائدي والسطحية والاستسهال والفهلوة. اراه يطأطيء برأسه تعليقا على هذا التحليل تعلو وجهه ابتسامة خبيثة.
جوزيف الانسان.
قال لي مرة انه مقصّر في تعداد ايجابياتي، فأجبته: انا المقصِّر في مديح سلبياتك. يملك هذا الرجل اجمل السلبيات في الدنيا، خصوصا تجاه من هم اقرب الناس واحبّهم اليه. يسيء اليك بقول او فعل، ثم لا يعود يعرف كيف يتراجع او يعتذر، وقد يستغرق الجفاء اشهرا طويلة. ثم يعود اليك إبن سيسيليا المدلّل بشبح ابتسامة، فينتهي كل شيء فتستأنفان الجلسة وكأنكما تواصلان حديثا من ليل امس. ولن ازيد.
رجل عابس، جوزيف سماحة؟ العبوس إن هو الا قناع جوزيف آخر. لن اقول جوزيف الضاحك. فالامر ارقى من الضحك بكثير. ولن اقول عنه انه «يحب الحياة »، حتى لا أهين جوزيف ولا أهين الحياة.
جوزيف سماحة امير من كبار امراء الفرح.
اني اشاهد جوزيف يمتشق فجأة عصا في احدى السهرات ويأخذ يلاعبها في رقصة منفردة على الطريقة المصرية.
واني اراه ممسكا برأس حلقة دبكة، لم يعد يجاريه فيها الا زهير رحال، يسنده فيما جوزيف يلف ويدور. يفاجئك بقفزة غير متوقعة او يروّعك إذ يخرّ راكعا. ويذهلك عندما يلامس الارض مسّاً كأنه يعتذر منها ثم يرعبك عندما يدبك دبكة رِجلٍ مجنونة. ان كل جوزيف سماحة الفنّان يتلّخص في رقصه الدبكة. كم اجاد احمد بيضون إذ قال فيه انه يكتب إفتتاحياته كمن يرقص. نسي احمد ان يضيف ان جوزيف يكتب كمن يرقص الدبكة تحديدا. فلست تدري الى اين هو آخذك في محاججته الى ان يوصلك الى خلاصة لم تكن تتوقع ان تتلقى فيها الخبطة التي أعدّها لك.
اخيرا، أرانا نتهالك معاً على احد المقاعد، بعيد الثالثة فجرا، يتعتعنا السكر، نستمع في هناءة قدسية الى فيروز في أغاني الجمعة الحزينة، او نرتّل معا، بأصوات منكَرَة كاصوات مَن تعرفون، «يا مريم البِكر/فُقْتً الشمسَ والقمرا »، عندما الحزن في كيميائه ينقلب شحنات مخبّلة من النشوة والفرح.
وبعد، يا جوزيف، وهذا بعض من كل، مَن سمح لك بأنْ تأخذ نصفي وتغادر؟