بيار لوي ريمون
Feb 24, 2017
أبرر لنفسي اختيار هذا العنوان الغريب: ألم يكن المخرج السينمائي فيليني قد سمى إحدى روائعه «ثمانية ونصف»؟ غير أن الرائعة التي سأتناولها في هذه السطور هي السيدة فيروز، سيرة غنائية بامتياز لا تترك لي مجالا كبيرا لأجول بخاطري في مرتع مترامي الأطراف من الهيامات. فالمشهد في أقصى درجة من الواقعية: رحلة محددة المسافة غير مقدرة زمانا، لا من باب التاريخ ولا من باب التوقيت. حافلة ركاب كما لم نعد نراها في سنواتنا يخترق شبحها سنة 1979 وأخواتها.
مسافة بين ضيعتين لم أنفق جهدا في محاولة قياسها، فهي رحلة داخلية في النهاية. أجل من يصدق، من منظور التنظيم المنطقي للقصة الخيالية، أن المرء يقطع «الضيع والجرود» لمجرد الانتقال من ضيعة إلى ضيعة؟ من يصدق أن الطريق الرابط بين «الضيعتين» أحدهما واقع في «الجبل» والآخر في «قاضي بطرون» ليس إلا طريقا تصعد عليه حافلة متقلقلة بالكاد يضطر مسافروها للنزول حتى يدفعوها في عز الحر؟ ثم من يصدق أن لمجرد عيون «عليا» التي تعمل عملها في الرجل المسكين ضحية زوجته «البشعة»، تتمنى راوية القصة ان يتركها الرجل تصعد وحدها إلى «تنورين»؟
حقا «نيالهن» «ما افضى بالهن» ركاب تنورين الذين لم تلاحقهم الأغنية كما تلاحقني أنا منذ أزيد من عشرين عاما، ملاحقة بدأت عندما طرقت الأنغام مذياع سيارة الوالدين في رحلة قصيرة داخل مدينة الرباط في صباح مشهود كنا فيه ذاهبين إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون المغربية لأشارك في برنامج الشباب، في دار البريهي المحبوبة التي علمتني الكثير، بما فيها اللغة العربية، وإذا بأغنية غريبة تطلع على الهواء، أجد معنى كلماتها غريبا علي، كلمات تبدو عربية فعلا، لكن في الوقت نفسه يخيل إليّ أنها آتية من المريخ، وعلى أنغام موسيقا غربية، وكأني بها توفر بالمجان صاروخ الصعود إلى المريخ.
سنوات بعد الحدث سأتعلم أن زقزقة من زقازيق عصافير المشرق ضربتني ساعتها بكيفية أثرت علي تأثير الميسم الذي لا يمحى.
تواصلت عملية الملاحقة بعد انتهاء الأغنية عندما وجد صديقي المذيع الصحافي رشيد الصباحي فرصة سانحة لمناقشة فريق عمله في معنى «البوسطة»، في مسعى ذهني صباحي من العيار الثقيل يستهدف انتشالهم من «فخ» تأويل الكلمة تأويلا مغربيا معتادا يعرف البوسطة بوصفها مكتب البريد: «هو الكار اللي كيركب المسافرين» قال بصوته الأستاذي الذهبي الذي أوصل إلى الملايين خلال أكثر من ثلاثين عاما ثقب بصيرة من حرم من نعمة البصر.
أغنية مؤصلة في زمان كان لا يزال فيه للأغاني كلمات ذات معنى، ومسارها يخترق الجغرافية الداخلية لملايين من اللبنانيين عبر العالم، والمذهل بالنسبة لي أنا، الباحث الفرنسي الذي يراقب الظاهرة من الخارج، من كل الأعمار والأجيال وبدون استثناء، وهذا أيضا يؤثر فيّ، أقولها بهذه البساطة: شعب ملتف صفا واحدا حول إنتاجه الفني، تقوده الأنغام كما قادته الصحافة في تاريخه ولا تزال.
«واحد عم ياكل خس، واحد عم ياكل تين» وأنا أتناول الكسكس المغربي وأحن إلى طبخ أمي الذي تعلمت تحضيره في المغرب الذي تبناني يوما.
تقول أغنية فيروز في العامية اللبنانية: «مانِك عارفة شو بيعملو فيّ عيونك السود»؟ على أي حال، لقد علمت اليوم ماذا عملت فيّ الأغاني الفيروزية.
مسافة بين ضيعتين لم أنفق جهدا في محاولة قياسها، فهي رحلة داخلية في النهاية. أجل من يصدق، من منظور التنظيم المنطقي للقصة الخيالية، أن المرء يقطع «الضيع والجرود» لمجرد الانتقال من ضيعة إلى ضيعة؟ من يصدق أن الطريق الرابط بين «الضيعتين» أحدهما واقع في «الجبل» والآخر في «قاضي بطرون» ليس إلا طريقا تصعد عليه حافلة متقلقلة بالكاد يضطر مسافروها للنزول حتى يدفعوها في عز الحر؟ ثم من يصدق أن لمجرد عيون «عليا» التي تعمل عملها في الرجل المسكين ضحية زوجته «البشعة»، تتمنى راوية القصة ان يتركها الرجل تصعد وحدها إلى «تنورين»؟
حقا «نيالهن» «ما افضى بالهن» ركاب تنورين الذين لم تلاحقهم الأغنية كما تلاحقني أنا منذ أزيد من عشرين عاما، ملاحقة بدأت عندما طرقت الأنغام مذياع سيارة الوالدين في رحلة قصيرة داخل مدينة الرباط في صباح مشهود كنا فيه ذاهبين إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون المغربية لأشارك في برنامج الشباب، في دار البريهي المحبوبة التي علمتني الكثير، بما فيها اللغة العربية، وإذا بأغنية غريبة تطلع على الهواء، أجد معنى كلماتها غريبا علي، كلمات تبدو عربية فعلا، لكن في الوقت نفسه يخيل إليّ أنها آتية من المريخ، وعلى أنغام موسيقا غربية، وكأني بها توفر بالمجان صاروخ الصعود إلى المريخ.
سنوات بعد الحدث سأتعلم أن زقزقة من زقازيق عصافير المشرق ضربتني ساعتها بكيفية أثرت علي تأثير الميسم الذي لا يمحى.
تواصلت عملية الملاحقة بعد انتهاء الأغنية عندما وجد صديقي المذيع الصحافي رشيد الصباحي فرصة سانحة لمناقشة فريق عمله في معنى «البوسطة»، في مسعى ذهني صباحي من العيار الثقيل يستهدف انتشالهم من «فخ» تأويل الكلمة تأويلا مغربيا معتادا يعرف البوسطة بوصفها مكتب البريد: «هو الكار اللي كيركب المسافرين» قال بصوته الأستاذي الذهبي الذي أوصل إلى الملايين خلال أكثر من ثلاثين عاما ثقب بصيرة من حرم من نعمة البصر.
أغنية مؤصلة في زمان كان لا يزال فيه للأغاني كلمات ذات معنى، ومسارها يخترق الجغرافية الداخلية لملايين من اللبنانيين عبر العالم، والمذهل بالنسبة لي أنا، الباحث الفرنسي الذي يراقب الظاهرة من الخارج، من كل الأعمار والأجيال وبدون استثناء، وهذا أيضا يؤثر فيّ، أقولها بهذه البساطة: شعب ملتف صفا واحدا حول إنتاجه الفني، تقوده الأنغام كما قادته الصحافة في تاريخه ولا تزال.
«واحد عم ياكل خس، واحد عم ياكل تين» وأنا أتناول الكسكس المغربي وأحن إلى طبخ أمي الذي تعلمت تحضيره في المغرب الذي تبناني يوما.
تقول أغنية فيروز في العامية اللبنانية: «مانِك عارفة شو بيعملو فيّ عيونك السود»؟ على أي حال، لقد علمت اليوم ماذا عملت فيّ الأغاني الفيروزية.
٭ كاتب فرنسي