عن الحياة عشية الدورة السبعين لمهرجان كان، صدر كتابي بعنوان «سيليكسيون اوفيسيل» (لائحة الاختيارات الرسمية)، وهو سيرة شخصية، حميمة وجم...
عن الحياة
عشية الدورة السبعين لمهرجان كان، صدر كتابي بعنوان «سيليكسيون اوفيسيل» (لائحة الاختيارات الرسمية)، وهو سيرة شخصية، حميمة وجماعية تروي عاماً من حياة طائفة مهنية – الممثلون والمخرجون والمنتجون والموزعون. ومهرجان كان هو أكبر حدث ثقافي عالمي، ومغامرة سينمائية وفنية وسياسية.
وحين يصطبغ المهرجان بصبغة سياسية، تكون السياسة هي الغالبة على السينمائيين وأعمالهم مثل فيلم «معركة السكة (الحديد)» (لرينيه كليمان) في 1946 الذي تصدر حينها لائحة الاختيارات الأولى، وفيلم «رجل من حديد» لأندريه فايدا في 1981، وهو فاز بالسعفة الذهبية. فالفن يروي قصة عالم. والاختيارات الرسمية توازن على الدوام ما بين الجوهر والشكل، بين المخرج البريطاني المستقل وصانع أفلام النقد الاجتماعي، كِن لوش، والمخرج التايلندي أبيشاتبونغ وييراسيثكول (وأفلامه على حدود الخلط بين الوثائقي والخيال). وهذا التوازن المتواصل يلد مزيجاً مدهشاً وغامضاً، وهذا كله ما أرغب في وصفه.
والأساطير الكانية (نسبة الى مهرجانات كان) تفتن المعمورةَ كلها: السينمائيين والنقاد والجمهور. وأردتُ الكلام على الشغف الدولي هذا. وقال لي المخرج ديفيد لينش، يوم كنا في الحي اللاتيني بباريس، أن السينما ولو لفظت أنفاسها ستبقى على قيد الحياة في فرنسا. فالسينما تجتاح الحي اللاتيني، وتغلب عليه. ووددت كتابة ما يحفظ الذاكرة من الحاضر. والسينما لا نظير لها وليس من يحل محلها، على رغم أن بعضهم يقول أنها لم تعد تحتكر رواية العالم من طريق صور متحركة أو «إحيائية». وتجربة السينما مزدوجة: العمل نفسه (الفيلم) وارتياد الصالات الجميلة. وكان ترتقي الى مصاف مركز العالم مرة سنوياً. وتحتفي مدينة ليون بالشارع حيث أبصر الضوء أول جهاز «سينيماتوغراف» على يد الأخوين لوميير، وأطلقت عليه اسم « لو برومييه فيلم (الفيلم الأول)». والسينما تروي العالم من طريق أساطيرها. والصين صارت أكبر بلد يقبل على السينما في العالم. فالسينما ضلع من ضلوع حياتنا.
ودار كلام فالتر بنيامين على خسارة السينما هالتها، ولكنني أخالفه الرأي. ففي الحضارة الرقمية، السينما تتميز وتحافظ على فرادتها. وهالتها وثيقة الصلة بقدرتها على إعادة المشاهدين الى الطفولة وزمنها. ونفحة الحزن في كتابي سببها ربما التساؤل «هل ما كان سيعود؟». والشرائط المصورة مزدهرة، وهي شأن السينما وثيقة الصلة بالطفولة. ولكن السينما منذ ولادتها تجبه هشاشة «أصلية»: فهي مولودة وكل مولود آيل الى الموت. ولكنها لم تمت. وربما ما قاله جان- لوك غودار في محله: «السينما تخلق ذاكرة، والتلفزيون (يخلق) نسياناً». وأول شخصية في تاريخ السينما في أعمال أوغوست ولويس لوميير، هي الجمع، أي الشعب. وثبتت السينما وجود الرجال والنساء على الصورة التي هم عليها.
وفي فيلمي الصادر بعد أيام، استخدمت أفلام الأخوين لوميير، وصنعتُ منها فيلماً «لومييري» (نسبة الى الأخوين).
والعمل في اختيار الأفلام في مهرجان منهك، فهو يقتضي مشاهدة 1800 فيلم وتقويمها، ولكنني أحب العمل هذا. وحسن الاختيار يضيف أفلاماً جميلة الى الأفلام المختارة والمكللة بالسعف، ومنها أفلام لا يرى أثرها في لحظتها بل يبرز مع الوقت. والاكتشافات كثيرة في مجموعة الأفلام هذه، على غرار فيلم لازلو نيميس «أبناء شاول». وعلى خلاف ما قيل أن كلود لانزمان، صاحب «المحرقة»، استاء من الفيلم هذا. استساغ «أولاد شاول». ووجد أن يحسب بعضهم أن رأيه مخالف وينسبوا إليه رأياً غير رأيه، مسلٍ. وهو رجل حر، ويشعر بالشغف نحو سينما المخرج كوانتن تارنتينو.
وهذا يدفع لواء سيــنما تصور بعدسة 35 مم وليس بعدسة رقمية. وفي فيلم «إنغلوريوس باستاردز» خطرت له فكرة جهنمية: قتل هتلر في حريق تشعله كاميرا نيترات. واستحسن كلود لانزمان الفكرة هذه. وحركة «الموجة الجديدة» الجمالية في السينما أثيرة على قلبي، على رغم أنني لا أحبذ أن تغلف بهالة التبجيل والقداسة على نحو ما يحصل أحياناً.
* مدير مهرجان كان السينمائي، عن «ليكسبريس» الفرنسية،11/1/2017، إعداد منال نحاس
عشية الدورة السبعين لمهرجان كان، صدر كتابي بعنوان «سيليكسيون اوفيسيل» (لائحة الاختيارات الرسمية)، وهو سيرة شخصية، حميمة وجماعية تروي عاماً من حياة طائفة مهنية – الممثلون والمخرجون والمنتجون والموزعون. ومهرجان كان هو أكبر حدث ثقافي عالمي، ومغامرة سينمائية وفنية وسياسية.
وحين يصطبغ المهرجان بصبغة سياسية، تكون السياسة هي الغالبة على السينمائيين وأعمالهم مثل فيلم «معركة السكة (الحديد)» (لرينيه كليمان) في 1946 الذي تصدر حينها لائحة الاختيارات الأولى، وفيلم «رجل من حديد» لأندريه فايدا في 1981، وهو فاز بالسعفة الذهبية. فالفن يروي قصة عالم. والاختيارات الرسمية توازن على الدوام ما بين الجوهر والشكل، بين المخرج البريطاني المستقل وصانع أفلام النقد الاجتماعي، كِن لوش، والمخرج التايلندي أبيشاتبونغ وييراسيثكول (وأفلامه على حدود الخلط بين الوثائقي والخيال). وهذا التوازن المتواصل يلد مزيجاً مدهشاً وغامضاً، وهذا كله ما أرغب في وصفه.
والأساطير الكانية (نسبة الى مهرجانات كان) تفتن المعمورةَ كلها: السينمائيين والنقاد والجمهور. وأردتُ الكلام على الشغف الدولي هذا. وقال لي المخرج ديفيد لينش، يوم كنا في الحي اللاتيني بباريس، أن السينما ولو لفظت أنفاسها ستبقى على قيد الحياة في فرنسا. فالسينما تجتاح الحي اللاتيني، وتغلب عليه. ووددت كتابة ما يحفظ الذاكرة من الحاضر. والسينما لا نظير لها وليس من يحل محلها، على رغم أن بعضهم يقول أنها لم تعد تحتكر رواية العالم من طريق صور متحركة أو «إحيائية». وتجربة السينما مزدوجة: العمل نفسه (الفيلم) وارتياد الصالات الجميلة. وكان ترتقي الى مصاف مركز العالم مرة سنوياً. وتحتفي مدينة ليون بالشارع حيث أبصر الضوء أول جهاز «سينيماتوغراف» على يد الأخوين لوميير، وأطلقت عليه اسم « لو برومييه فيلم (الفيلم الأول)». والسينما تروي العالم من طريق أساطيرها. والصين صارت أكبر بلد يقبل على السينما في العالم. فالسينما ضلع من ضلوع حياتنا.
ودار كلام فالتر بنيامين على خسارة السينما هالتها، ولكنني أخالفه الرأي. ففي الحضارة الرقمية، السينما تتميز وتحافظ على فرادتها. وهالتها وثيقة الصلة بقدرتها على إعادة المشاهدين الى الطفولة وزمنها. ونفحة الحزن في كتابي سببها ربما التساؤل «هل ما كان سيعود؟». والشرائط المصورة مزدهرة، وهي شأن السينما وثيقة الصلة بالطفولة. ولكن السينما منذ ولادتها تجبه هشاشة «أصلية»: فهي مولودة وكل مولود آيل الى الموت. ولكنها لم تمت. وربما ما قاله جان- لوك غودار في محله: «السينما تخلق ذاكرة، والتلفزيون (يخلق) نسياناً». وأول شخصية في تاريخ السينما في أعمال أوغوست ولويس لوميير، هي الجمع، أي الشعب. وثبتت السينما وجود الرجال والنساء على الصورة التي هم عليها.
وفي فيلمي الصادر بعد أيام، استخدمت أفلام الأخوين لوميير، وصنعتُ منها فيلماً «لومييري» (نسبة الى الأخوين).
والعمل في اختيار الأفلام في مهرجان منهك، فهو يقتضي مشاهدة 1800 فيلم وتقويمها، ولكنني أحب العمل هذا. وحسن الاختيار يضيف أفلاماً جميلة الى الأفلام المختارة والمكللة بالسعف، ومنها أفلام لا يرى أثرها في لحظتها بل يبرز مع الوقت. والاكتشافات كثيرة في مجموعة الأفلام هذه، على غرار فيلم لازلو نيميس «أبناء شاول». وعلى خلاف ما قيل أن كلود لانزمان، صاحب «المحرقة»، استاء من الفيلم هذا. استساغ «أولاد شاول». ووجد أن يحسب بعضهم أن رأيه مخالف وينسبوا إليه رأياً غير رأيه، مسلٍ. وهو رجل حر، ويشعر بالشغف نحو سينما المخرج كوانتن تارنتينو.
وهذا يدفع لواء سيــنما تصور بعدسة 35 مم وليس بعدسة رقمية. وفي فيلم «إنغلوريوس باستاردز» خطرت له فكرة جهنمية: قتل هتلر في حريق تشعله كاميرا نيترات. واستحسن كلود لانزمان الفكرة هذه. وحركة «الموجة الجديدة» الجمالية في السينما أثيرة على قلبي، على رغم أنني لا أحبذ أن تغلف بهالة التبجيل والقداسة على نحو ما يحصل أحياناً.
* مدير مهرجان كان السينمائي، عن «ليكسبريس» الفرنسية،11/1/2017، إعداد منال نحاس
ليست هناك تعليقات