كان حظي ان اتعرف عليه في بيروت عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، بعد صدور كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" وقبل صدور كتابه التالي "نقد الفكر الديني". كنت ومجموعة صغيرة من الاصدقاء نرافقه الى المحكمة حين احالته الحكومة اللبنانية الى القضاء بعد صدور نقد الفكر الديني لاظهار تضامننا معه. آنذاك في 1969 قبل طغيان التيارات والحركات الظلامية التي تلف نفسها بغطاء اسلامي والتي اغتالت لاحقا شخصيات فكرية هامة مثل حسين مروة ومهدي عامل، كان الادباء والكتاب يتصدون للترهيب الفكري ان كان مصدره دولة متخلفة او رجال دين متخلفين أكثر. كثيرون وقفوا مع صادق في ذلك الوقت واذكر من بينهم بالتحديد أدونيس وأنسي الحاج. بعد هزيمة 1967 تحولت بيروت الى بيت حاضن للمفكرين العرب الذين حاولوا تشريح واقع الطغيان العربي وتعريته من الاكاذيب السياسية والاساطير الغيبية لمعرفة اسباب الهزيمة، وتخطيها بالديموقراطية والتمثيل السياسي الحقيقي وفصل الدين عن الدولة. بين 1967 و1972 حين سافرت الى اميركا لاكمال دراستي قضيت بعض اهم السنوات في حياتي. في تلك الفترة اصبحت مجلة "مواقف" التي أسسها ادونيس منبرا للمبدعين العرب وللاصوات الشجاعة في الفكر والادب والشعر والمسرح . آنذاك، اعطتنا سوريا، عبر "مواقف" (وغيرها من المجلات والمطبوعات اللبنانية، مثل "الطليعة" و "الطريق" وملحق صحيفة "النهار") اجمل ما لديها من مبدعين اضافة الى أدونيس، مثل صادق جلال العظم، وسعدالله ونّوس ومحمد الماغوط وغيرهم.
كنت التقي صادق عندما كان يزور الولايات المتحدة اما في واشنطن او في بوسطن، كما شاركنا في بعض المؤتمرات، وكنا دائما نتابع حواراتنا وكأننا لم نفترق لسنوات. كنت اتابع كتاباته بالعربية والانكليزية، كما تابعت مبارزاته الفكرية والسياسية ( كان دائما يذكرنا بضرورة ممارسة النقد وفقا لقول كارل ماركس المعروف "النقد باللكمات hand-to-hand criticism) ) مع مثقفين كانوا يستحقون لكماته القوية. (نقد صادق لكتاب أدوارد سعيد : "الاستشراق" ادى الى قطع العلاقة بينهما، والتي بقيت مقطوعة بعد رفض سعيد محاولات الاصدقاء المشتركين رأب الصدع). خلال لقاءاتنا في بيروت، تعلمنا منه – كيساريين شباب- اهمية الفكر النقدي واهمية تحصيل معرفة فلسفية وأدبية واسعة لمساعدتنا في نشاطاتنا السياسية. كان مشغوفا بالفلسفة الالمانية، وبالادب الروسي في القرن التاسع عشر، وتحديدا روايات فيودور دوستويفسكي وايفان تورجينيف . كنت قد قرأت بعض القصص القصيرة لدوستويفسكي مترجمة الى العربية، ولم اسمع بتورجينيف من قبل. صادق كان مولعا برواية دوستويفسكي العظيمة "الاخوة كارامازوف" وخاصة دينامية العلاقة المتوترة بين الاخوين ايفان المادي والملحد وأليوشا الذي يشبه القديسين بطهارته . في السنوات اللاحقة كنت دائما أفكر بصادق عندما قرأت الروايات الروسية العظيمة بترجماتها الانكليزية.
بقي صادق صادقا لقناعاته الفكرية وايمانه العميق بدور المثقف العام كناقد لكل البنى الاقتصادية والسياسية والفكرية التي تقمع بشكل مباشر او غير مباشر الانسان وتحد من قدراته على تحرير نفسه من كل انواع الطغيان. انتقد الاساطير العربية التي احاطت بفهم الحركة الصهيونية فهما تاريخيا وعلميا. أيد حركة التحرير الفلسطينية بعد هزيمة 1967 ، وكتب عن الاسئلة الفلسطينية الضائعة (غياب النقد الذاتي) بعد الغزو الاسرائيلي للبنان وهزيمة 1982. واصل نقده للفكر الديني والغيبي بعد هيستيريا "ولاية الفقيه" الخميني عقب صدور كتاب سلمان رشدي "الايات الشيطانية"، وجمع مقالاته ونشرها في كتاب صدر في بيروت، بعنوان "ذهنية التحريم"، ولكن بعكس كتابه "نقد الفكر الديني " في 1969 كان الكتاب يباع " من تحت الطاولة".
كان صادق، وهو أبن عائلة العظم الارستقراطية، متواضعا على الصعيد الشخصي ويتمتع بروح النكتة وكنا نحب ضحكته العالية. فضوله الفكري لم يكن له حدود، وهو أكثر مثقف عربي عرفته في حياتي له معرفة موسوعية بالثقافة العربية-الاسلامية والثقافة الغربية معا، وقادر على الكتابة بالعربية والانكليزية والالمانية.
ألتقيته آخر مرة في بوسطن خلال السنة الثانية من عمر الانتفاضة السورية. تحدثنا عن النكسات والانهيارات العربية التي اختبرناها في العقود الماضية، وعن الثمن الهائل الذي يدفعه الشعب السوري في معركته لتحرير سوريا من طغيان حكامها ومن يقف ورائهم. أذكر انني كنت متشائما اكثر منه، ولكنه، مع ادراكه لجسامة التحدي، كان على عهده مقاوما شرسا لليأس والاحباط . لا استطيع ان اتخيل معاناة صادق على فراش الموت وهو يراقب حلب تحتضر، والشعب السوري يعاني من طغيان الاسد وظلامية المذهبية الشيعية والسنية، وهي تحاول القضاء على ما تبقى من نبض انساني في المجتمع السوري المدني وما تبقى من احرار سوريا المتنورين الذي يواصلون مكافحة قوى الظلام.
قبل ايام كتبت مرثية لحلب، وتذكرت ان صادق المريض في منفاه الالماني سوف يرحل قريبا، ويترك فراغا كبيرا في حياتنا ، انا وجيلي من اللبنانيين والعرب الذين عاشوا حقبة ما بعد هزيمة 1967، ورأوا فيه منارة فكرية لا تخبو، وانني سأكتب قريبا مرثية لصديق عزيز ومعلم كبير. وداعا صادق.