
ما من شرطي عصري للفكر إلا ويكرر القول بأن ماهو خاص سياسي و بأن الأنا المستقلة لا وجود لها ، و حتى إذا ما وجدت فإنها لن تكون في صالح المجموع . و في كل مكان يعد عدواً ، بهدف إرضاء آخر نظرية حول إصلاح البشرية، كُل من لا يُوافق علة أن أناهُ محكومةٌ اجتماعياً و أنه يمكن التحكم بها. في أكاديمية الأكاذيب، حيث تُخلط الحماسة الجديدة بالكراهية، وحيث الأطفال والمجانين و حدهم يقولون الحقيقة ، يقف الفرد المُصر على فردانيته في الركن و وجهه إلى الجدار، على حد تعبير غوبلز.
الأرثودوكسية، التفكير الجمعي، والفضيلة وفق التعليمات هي مُثل كُل دين و مشروع اجتماعي طوباوي. المشكلة الوحيدة التي يواجهها مفكرو مثل هذه الأنظمة هي السؤال، كيف يمكن إضفاء الإثارة على المسايرة. إن الآيدولوجيات من القومانية وحتى العنصرية لا علاقة لها في الواقع بالإفكار: إنها مخابئ لكهنةِ الإنبعاث الذين يوفرون الفرصة أمام العادلين، حتى يتمتعوا هم أنفسهم بالشعور بالتفوق "سوف نظل محافظين على السعادة الأبدية و الوئام إذا ما ضحينا بالفرد"، و هذا هو مايلقى من جديد في كل إجتماع للصالحين .
لقد علمتني الخبرة التاريخية أن أكون حذراً تجاه كل إعلانٍ جماعي. حتى نقاد الأدب أنفسهم يثيرون شكي عندما يعممون . بالطبع هناك شعراء ورسامون شبان يلتقون ويؤثرون في بعضهم و ينتمون إلى نفس روح العصر، و مع ذلك هل ثمة أدبٌ يملكُ قيمةً ما كتب من قبل مجموعة ؟ هل ثمة فنانٌ حقيقي ما في أي وقت إعتبر نفسه مجرد جزء في حركة؟ هل ثمة فنانٌ حقيقي ما في أي وقتٍ اعتبر نفسه مجرد جزءٍ في حركة ؟ هل ثمة أحدُ ما بجد هو ما بعد حداثي، مهما كان مدلول هذه الكلمة ؟ إنني أضيق بالأنظمة. وعيي الجمالي يقول لي : هذه الشاعرة أصيلة لأنه لا يمكن وضع أي ماركةٍ عليها . إن الفرادة لا تقبل الإنتقاص لكل حياة هي أن تمجد و يدافع عنها. وإذا ما اضطر المرء أحياناً للعودة إلى مفردات الشتيمة لصد طويلي اللسان، فليكن ذلك .
إن البهجة الأولى التي لا تنسى، تلك التي زودتني بها اللغة كانت في إكتشافي "الكلمات البذيئة". لابد أنني كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري عندما سمعت ذات مرةٍ إحدى هذه الكلمات . عندما أعدتها و لفظتها بصوتٍ عالٍ لأثير إعجاب الجميع صفعتني أمي وقالت لي ألا ألفظ تلك الكلمة ثانيةً . حسناً، فكرت إذن توجد كلمات ثمينة لا ينبغي على المرء أن يلفظها بصوت عال! إن هذا ليس صحيحاً تماما. فقد كانت لي عمة عجوز، اعتادت أن تتكلم بهذه الطريقة، حالما تفتح فمها. و كانت أمي ترجوها عندما تأتي لزيارتنا ألا تتكلم هكذا بحضور الأطفال، وهو رجاء ما كانت تلتزم به. إن امتلاك مثل هذه الشخصية وهذه السلاطة في اللسان في بلدٍ شيوعي كان عبئاً جدياً. كانت أمي تقول: "سوف ندخل جميعاً السجن بسببكم". ثمة لحظات في الحياة تصرخ طلباً للشتيمة الحقيقية، حيث يفرض الشعور العميق بالعدالة الضرورة المطلقة لكي نشنع بأفظ لغةٍ ممكنة، أن نهزأ، أن نصب الشتائم ، أن ننثرها وأن نغلظ القول. كتب روبرت برتون قبل زمنٍ طويل في "تشريح الكآبة": "لا أريد أن يمنعني أحدٌ من ارتكاب هذا الخطأ ." إنني أوافقه الرأي . فإذا كان ثمة ما أُريد توسيعه وإيصاله إلى الكمال فهو ذخيرتي من اللعنات .
لقد تعلمت التالي من تاريخ القرن العشرين: الأفكار الغبية وحدها يمكن أن يعاد إستخدامها. إن حلم بعض المصلحين الإجتماعيين هو أن يكون رأساً لتنفيذ عقوبة سجن تنويرية و مقومة للأرواح . ما من امرئٍ مغتر بنفسه، لا طعم له، شرس الخُلق و فاشلٌ جنسياً إلا ويحلم بتصعيد عجزه الجنسي إلى قانون. بذلات ماو: إن ملياراً من البشر يرتدون الملابس ذاتها و يزعقون بشيء ما من كتابه الأحمر يشكلون الآن أيضاً الأمل السري للرؤيويين الجدد .
ما يكاد المرء يدرك أن الكثير مما يراه و يسمعه يخدمُ فكرةً واحدةً هي جعل الخديعة تبدو جديرةً بالإحترام، حتى تتعرضه المصاعب. فقد إنتبهت عمتي العجوز مثلاً قبل المثقفين الباريسيين بزمنٍ طويل إلى أن الإتحاد السوفيتي و ما يسمى بالديموقراطيات الشعبية هي من الرأس حتى أخمص القدمين كلام فارغٌ و أكاذيب. كانت واحدةً من النساء اللواتي يرين فوراً ماوراء الواجهة. و في كل الأحوال فإنها ما كانت لتملك فكرةً ساميةً عن البشرية. لم يكن ذلك لكونها شكاءةً، أو موهومةً بأحكام مسبقة عن حفرةِ الأفعى . بالعكس تماماً. كانت تأكل وتشرب وتضحك من كل قلبها وتخون زوجها العجوز أحياناً من وراء ظهره، خطفاً فوق التبن .
بيد أنها كانت تمتلك رأساً واضحاً لا بلبلة فيه بصورة غير عادية . كانت تقول لأيٍ كان إن نظامنا الثوري الذي يرى في اللسان السليط و انعدام الأفكار جرائم سياسية و يعتبر اؤلئك التعساء الذين قد يقبض عليهم متلبسين بها عناصر مريضة ، ليسو سوى كومةً هائلةً من القاذورات بما في ذلك المارشال تيتو شخصياً . كان مبعث انفجاراتها هو ما تعتبره بلاعةً عند الناس الآخرين . وفي رأيها أنها كانت محاطةً بالجبناء وضعيفي العقل. الجرائد والمذياع كانت تُثير عندها نوبةً من الجنون اللفظي ، فتصرخ بأمي و جدتي " ألا تتقيآن عندما تسمعانهم يتحدثون هكذا ؟"
ولم يكن ليرضيها حتى إذا وافقتاها الرأي وهمستا آمنتين اليها بنعم، إن هؤلاء الشيوعيين ليسوا سوى حفنةً من الفلاحين القتلة الأميين المغفلين وأعواناً ستالينيين وما هو أكثر من ذلك . فقد كان ثمة ما يثير قلقها بلا حدود عند البشر كنوع. كلا، إنهم لم يكونو فيما مضى غير ذلك. إن جنون الضعة و الغباوة كان موجوداً دائماً. كانت تعقد يديها بسبب الحيرة المرة تلو الأخرى فوق رأسها، عاجزةً عن فهم الأمر . كانت ذلك بالنسبة لها ، مثل مرض حساسية غير قابل للشفاء ضد كل ماهو مخطئ و قذر . لكن ذلك لم ينقص من قدرتها على الابتهاج بالحياة ، إذ كانت تملك طريقتها في طرد الأرواح الشريرة، الأمر الذي يتطلب منها العمل طوال اليوم. كان صب اللعنات عليها يوفر لها ، كما أعتقد ، بدون أن تعرف هي ذلك، ولي أيضاً، أنا الذي كنت أتنصتُ من وراء الباب المغلق وأبتسمُ بلا حياء، متعةً ملكية .
في كتاب بعنوان "تناقضات النوع " تزودنا جوديت لوربير بصياغة نسوية لهذه الغباوة اللانهائية : "في عالم تسودة المساواة الشديدة يتوجب تأهيل و تدريب نفس العدد من البنات و الصبيان للعلوم الإنسانية و الطبيعية، للعمل الفكري و اليدوي في كل المهن. و من بين الذين يحصلون على نفس الشهادات ينبغي تعيين النساء و الرجال بالتناوب لنفس العمل، أو أن يقتصر فقط على تعيين الرجال وحدهم لأعمال النساء و النساء وحدهم لأعمال الرجال، حتى يتم إشغال نصف أماكن العمل بالرجال و النصف الآخر بالنساء".
إن هذا يبدو جميلاً جداً، ولكن كيف سيكون الأمر مع رجال الشرطة وحراس السجون والمخبرين الذين يحتاجهم المرء لتنفيذ كل ذلك؟ هل سينظمون في وحدات على أساس المساواة الصارمة بين الجنسين؟ نأمل ذلك. و لكن لا تنسوا، أنه ما من حديثٍ هنا عن الفرد ، وهو أمر يتميز به جميع أدعياء القداسة الورعين و أنبياء السعادة الشاملة. كيف يمكن أن نحمي أنفسنا من هذه الوحوش التي قسم أفراد المجتمع إلى نافعين وغير نافعين؟ المواطن المثالي في نظر هؤلاء هو العبد المتطوع. إنهم يريدون لأميركا أن تكون مدرسةً للفضيلة ، حيث ينبغي التحري بكل دقة عن الدلالة السياسية لغروب الشمس في قصيدةٍ ما .
كنت أعرف صبياً في الثالثة عشرة من عمره ، يكتب رسالةً يهاجم فيها الرئيس جونسون بسبب حرب فيتنام. و يا لها من رسالة! إن رئيسنا أبله و قاتل و إنه هو نفسه يستحق أن يُرمى بقنابل النابالم و بما هو أسوأ من ذلك . ذات مساء، إذ كان الصبي جالساً إلى مائدة الطعام في المطبخ مع أمه و أخته التي روت لي الحكاية ، يتناولون حسائهم ، انفتح الباب و النوافذ المؤدية إلى سلم الحريق دفعةً واحدة و أحاط بهم رجالٌ يشهرون مسدساتهم بالمائدة. أعلنوا أنهم من مكتب التحقيقات الفيدرالي ( FBI ) و أرادوا أن يعرفوا من يكون أنتوني بالميرو . أشارت كلتا المرأتين إلى الصبي الذي كان يرتدي نظارةً طبية و يمتلك نظرةً فضية . لقد كلفهما الأمر الكثير من العناء لإقناع الرجال بأنه هو كاتب الرسالة. حيث كانوا يتوقعون قاتلاً شيوعياً ضخم الجثة بشعر طويل و ذخيرة من الأسلحةِ و القنابل .
ذات يوم سمعت إمرأةً مسنة في مكتب المساعدة الإجتماعية تصرخ : "ماذا تريدون مني؟ دمي؟" ظلت تصب لعناتها على الناس طيلة خمس دقائق أخرى، ليس لأنها كانت تتوقع الحصول على ما يمكن أن يزيل عنها الحيف الذي لحق بها ، و إنما لتشعر فقط للحظة قصيرة بأنها معافاةٌ و نقية .
نشر بمجلة عيون الثقافية الصادرة عن دار الجمل العدد الثاني للعام 1996.
تشارلز سيميك Charles Simic شاعر و مترجم و كاتب أمريكي من أصل صربي ولد في العام 1938.