أحدث المنشورات

الادب الفلسفي

ا
لأدب الفلسفي
عبداللطيف الزكري
Jan 21, 2017

يعثر المهتمون بالنظرية الأدبية، على كثير من الكتابات المنطوية على خواص (الأدبية) لكنها ليست أدبا خالصا، أو هي مشوبة بالأدب وتنتمي إلى حقل الفلسفة، هذه الكتابات سماها المهتمون، باسم (الأدب الفلسفي)، وعرفوه بقولهم: (الأدب الفلسفي هو ذلك الأدب المشبع بهموم الفلسفة وتساؤلاتها، الذي يبقى مع ذلك، أو ربما لذلك، أدبا جميلا مؤثرا أو متميزا). ولعل المثال الأبرز على هذا النوع من الكتابات محاورات أفلاطون، التي تنطوي على وهج أدبي، مثلما تنطوي على عمق فلسفي، بل هناك من يرى بأن انتسابها الأدبي أحق من انتسابها إلى الفلسفة، لما فيها من بلاغة أدبية وحرص على الأسلوب لا يكون إلا في أدب الأدباء المجيدين. ومن الواضح أن تمازج الأدب والفلسفة، يسوغه انتماؤهما معا إلى النتاج الفكري الإنساني. والأدب الفلسفي في هذا التعريف ما كان مضمونه الفلسفة ومشكلاتها. وبنضوج المعرفة الفلسفية وشيوعها نضج الأدب الفلسفي، مما سما بهذا الأدب وجعله يستوعب هموم الفكر والفلسفة.
لقد قامت محاورات أفلاطون على مكونات فنية أدبية خالصة، قوامها الحوار الذي يجري في مكان معين وزمان معين، ويدور بين شخصيات معروفة يصورها أفلاطون تصويرا بارعا يسمو إلى تصوير الأدباء والفنانين. فببلوغ الفلسفة نضجها بلغ الأدب الفلسفي أطواره الكبرى العالية. وفي الأدب العربي القديم مظاهر متعددة لهذا الأدب الفلسفي، فقد ذكر ابن النديم (في الفهرست) في ترجمة أبي زيد البلخي، أنه (مصنف فاضل في سائر العلوم القديمة والحديثة، وطريقته في ذلك طريقة الفلاسفة، إلا أنه بأهل الأدب أشبه وإليهم أقرب). فابن النديم يشير إلى خواص التأليف الرئيسة عند ابن البلخي ويرى أنها مشابهة لطريقة أهل الأدب وقريبة من أسلوبهم، والكتابة بهذه الطريقة تتجلى فيها المقدرة اللغوية والإبداعية الفنية واضحة، ولو بقيت مؤلفات ابن البلخي لساعدنا ذلك على معرفة طبيعة الأدب الفلسفي في تصنيفات القدماء. كما أن ثمة إشارة قوية تعبر عن فهم القدماء طبيعةَ التداخل بين الأدب والفلسفة نجدها عند ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» أثناء ترجمته لأبي حيان التوحيدي، حيث وصفه بـ (فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة)، وهذا الوصف يكشف منظور ياقوت الحموي لظاهرة الأدب الفلسفي، الذي تمثله كتابات التوحيدي، فهي تتحدد بنزعة هذا الأديب الفنية، كما تقر بثقافته الفلسفية الواسعة والعميقة، حتى أنهما ظهرا في كتابات التوحيدي على صورة واحدة منسجمة، شكل أدبي ذي مضمون فلسفي. ولم يكن التوحيدي في هذا المنزع وحيدا، إذ تزخر الثقافة العربية القديمة بفلاسفة مازجت كتاباتهم الفلسفية الأبعاد الأدبية، فهي كتابة فلسفية أدبية، ومن هؤلاء الفلاسفة: يعقوب بن إسحاق الكندي، محمد بن زكريا الرازي، أبو حيان التوحيدي، الحسين بن عبدالله بن سينا، محمد بن عبدالملك بن طفيل، شهاب الدين السهروردي ومحمد بن عمر الفخر الرازي.
على أن هناك عاملا آخر من عوامل كتابة الفلسفة بالأدب، ذلك هو طبيعة الموضوع. إلا أننا حين نمعن النظر في هذه الموضوعات المكتوبة، في الغالب، بالأسلوب الأدبي، نجد لها خواص مشتركة، فالفلسفة اليونانية اتسمت بأنها لا يستوعبها إلا العقل التأملي وتندرج تحت تسمية الميتافيزيقيا، ولو تتبعناها في الفلسفة العربية لوجدناها تشترك في اتصافها بالمثالية القائمة على التصورات والخيال، التي تستدعي لغة شاعرية تروم إيصال القارئ إلى درجة النشوة الروحية، أكثر مما تنهض على إقناع العقل بالحجة المنطقية والبرهان الواضح الرصين. ومن الممكن إضافة عامل آخر جعل الفلاسفة يكتبون أفكارهم بأسلوب أدبي هو عامل العاطفة، الذي يعني وجودُهُ إيمانَ الفيلسوف بما يكتبه، فالفرد عندما يعبر عن فكرة مازجت مشاعره وآمن بها عميقا، فإنه يستعمل اللغة بعناية فائقة، هذا الاستعمال هو الذي يفرض تصنيف ما يكتبه في الأدب، وتصبح هذه الكتابة مما يصح تسميته بالأدب الفلسفي. ولا أهمية لفلسفة تحلق في التجريد دونما مساس بحياة الناس واهتماماتهم وانشغالاتهم، كما أنه لا أهمية لأدب، في أي جنس أدبي كان، إذا خلا من (المعنى)، إذ المعنى هو الذي يبث الحياة وأسباب بقائها واستدامتها في الأعمال الأدبية كافة، بالأخص الأعمال الأدبية الخالدة. وهذا المعنى هو ما يختلف حوله المعاصرون، وما يسبب النزاع المستمر إلى يومنا هذا، دونما وصول إلى غاية.
ومدار هذا الصراع حول المعنى ذاته وحول ضرورته من عدمها، فلم يعد الغموض يلف التجربة الشعرية المعاصرة وحدها، بل انتقلت (عدواه الفنية) بتعبير تولستوي، إلى النقد الأدبي ذاته، الذي طالما أعان على فهم الأعمال الأدبية واستلهام معانيها في تجارب الحياة والوجود، فمن يقرأ كثيرا من النقد الأدبي الآن، قد لا يحصل منه على ما يعينه على فهم الأدب المعاصر. إن (المعنى) رديف التجربة القوية التي ترقى إلى مصاف التجربة النموذجية، التي تعين على استيعاب قضايا الحياة وشؤونها مما يجري يوميا. إننا نعيش أكثر كلما فهمنا الحياة أكثر. وفي الأدب المعاصر تيارات شتى نادت بـ(لا معنى) الحياة ذاتها، ولعبت على هذا الوتر فنفت (المعنى) عن الأعمال الأدبية، وفي السياق الثقافي لظهور تلك الأعمال وما يرتبط به من أوضاع اجتماعية وسياسية ما يسوغ هذه الدعاوى إلى (اللامعنى)، لكن الإنسان المعاصر- في العالم كله ـ أضحى محاصرا يكاد يفقد بوصلة الحياة ذاتها، ولهذا كان (الأدب) وسيبقى مما يساعد على الإبحار في الحياة -لا في العالم الافتراضي وحده- وقد تخضب كثير من الأدب المعاصر بمعنى عميق يستحوذ على قارئه مثلما يلهمه في حياته وفي عيش هذه الحياة (الجميلة). إن هذا الأدب يصح وسمه بالأدب الفلسفي، لأنه حامل معنى عميق في ليل هذا العالم وفي نهاره، وهذا المعنى مما نحتاجه في رفقة السفر في الحياة.
وهذا المعنى هو فلسفة الأدب. وكل أدب حقيقي هو في حاجة دائمة ـ بهذا القدر أو ذاك ـ إلى الفلسفة. لقد انبثت الفلسفة في تجارب كثير من الأدباء العرب المعاصرين، وحملت أعمالهم في أعطافها معاني كبرى إلى درجة جعلت الدارسين يختلفون اختلافات متباينة في تحديد هذا المعنى. فنجيب محفوظ، في الدراسة التي خصه بها محمود أمين العالم: «تأملات في عالم نجيب محفوظ» يقسم هذا العالم إلى ثلاثة عوالم، كل عالم يشير إلى مرحلة من مراحل تطور نجيب محفوظ الأدبي: المرحلة التاريخية -المرحلة الاجتماعية ـ المرحلة الفلسفية، التي يمثل لها بأعمال روائية لنجيب محفوظ، لعل أكثرها إثارة للجدل رواية «أولاد حارتنا» التي يقول عنها محمود أمين العالم في معرض نقده وتحليله لعالم نجيب محفوظ الفلسفي: «إن أولاد حارتنا ليست كما يقال تاريخا للبشرية، وليست كذلك تاريخا خاصا لمصر، وإنما هي ببساطة- فيما أعتقد- توكيد للمعنى الإنساني الصرف للأديان. توكيد أن جوهر الدين هو العدالة. هو الأمن. هو الكرامة. هو الحرية. هو المحبة. هو الخير. هو التقدم للإنسان. وهي توكيد كذلك على أن هذا الجوهر الإنساني للدين، يجعل من العلم امتدادا واستمرارا لرسالة الأديان، بل هو وسيلة لتحقيق أنبل أهدافها». وإذا كانت رواية «أولاد حارتنا» حظيت باهتمام كبير من لدن النقاد الذين أشبعوها تحليلا ونقدا، فإن هناك أعمالا روائية أخرى لا تقل عنها فلسفة، منها رواية سلوى بكر «أدماتيوس ألماسي» ورواية يوسف زيدان «عزازيل» مما يحتاج إلى النقد المتجدد لاستخلاص فلسفة الدين ذاته عند الإنسان منذ القديم وإلى الآن. وفي هذا المنحى نفسه ـ منحى الأدب الفلسفي ذي المعنى العميق اللافت للاهتمام، يمكننا أن نضيف أعمالا روائية كبرى، كرواية «كأنها نائمة» لإلياس خوري، الباذخة المعنى الثرية برؤاها العميقة.
إن الذين اهتموا بـ (الأدب الفلسفي) العربي، قديمه وحديثه، يكاد ينحصر لديهم هذا الأدب في أعمال قليلة للمعري وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وهو حصر ظلوم بعيد عن الحقيقة النقدية الأدبية، لأن (المعنى) هو مما يفترض وجوده في أي عمل أدبي ذي قيمة جمالية، وهذا المعنى ملازم للأعمال الأدبية الخالدة. وحتى الشعر العربي المعاصر، الذي طالما مجدت مظاهر غموضه واعتبرت من لدن الدارسين مما يشكل عمق جماليته، لا يخلو البتة من المعنى، بل المعنى الثر العميق المتوهج المؤثر، فأعمال محمود درويش، خاصة في «الديوان الجديد»، تنطوي في أعطافها على (معنى) فلسفي عميق، جعل فيه محمود درويش القضية الفلسطينية التي اشتهر شاعرا لها، قضية إنسانية، تهم الإنسان، أي إنسان جدير بهذه الصفة، في هذا العالم، فشعر درويش في هذا الديوان الجديد إنساني يثير أي إنسان، كما أن معانيه الشعرية حاملة لفلسفة الحياة والموت والوجود، مما يهم الإنسانية كلها التي تعاني من كل هذه العناصر. وهو شعر سيبقى مؤثرا عبر الأجيال لأنه، بكل بساطة، ينتمي إلى الأدب الفلسفي. فكل الآداب العظيمة التي تمكنت من البقاء عبر الأجيال، إنما استطاعت ذلك لأنها، أساسا، أدب فلسفي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads