منصف الوهايبي...في اليوم العالمي للعربيّة… الشعر لغتنا الأمّ

alrumi.com
By -
0

قد يكون من الشّائع السّائغ الكلام على الشعر بصيغة المفرد، ولكنّ ذلك لا يكون إلاّ في مستوى وحدة مفهوميّة تتنوّع طرائق إجرائها بتنوّع القصائد. ونحن إنّما نكون في الشّعر لحظة إنشاء القصيدة أو أدائها أو الاستمتاع بها.
وكلّ قصيدة كُتبت وتُكتبُ تضع لبِنة في هذه الوحدة المفتوحة على قدر ما تضع مفهوم الشّعر، موضع تساؤل؛ مادام الشّعر لا يوجد قبل الكلام الحيّ أو قبل إجراء اللـّغة على طريقة خاصّة، إلاّ إذا سوّغنا القول بشعريّة اللـّغة نفسها؛ أي ما لا يُسمع إلاّ فيها أي في صمتها أو طابعها الخاصّ؛ وكأنّ كلاّ منهما: الشّعر واللّغة يتوكّأ على الآخر، أو هما يتبادلان الأدوار باستمرار، بل لعلّهما أشبه بالعلاقة بين اللّغة والفكر، حيث كلّ منهما يستنبت فرعا في الآخر، بل ربّما كان البحث في أصل اللّغة وهو بحث لا طائل منه، بحثا في أصل الشّعر نفسه أي في «اللّغة الأمّ للجنس البشري». والعربيّة (الفصحى) لغة شاعرة ذات أنظمة إيقاعيّة دقيقة محكمة إذ كانت لغة المقدّس في الجاهليّة (الشعر) ثمّ المقدّس الدّيني (القرآن) بل إنّ نشأت ودرجت في بيئة شعريّة. يذهب أنطون شبيتالر وقبله بريتوريوس إلى أنّ العربيّة الفصحى»لغة فنّية خالصة» بل «مقدّسة» منذ الجاهليّة. ويقول هنري فليش: «إنّ لغة الشّعر العربيّ بما توفّر لها من ثروة في صيغها النّحويّة، ودقّة في تعبيرها عن العلاقات التّركيبيّة، تعدّ أعلى قمّة بلغها نموّ اللّغات السّامية». ويقول ابن قتيبة، منزّلا الشعر منزلة المعجز الديني: 
«وللعرب الشّعر الذي أقامه الله تعالى لها مقام الكتاب لغيرها، وجعله لعلومها مستودعا ولآدابها حافظا ولأنسابها مقيدا ولأخبارها ديوانا لا يرثّ على الدهر ولا يبيد على مر الزّمان، وحرسه بالوزن والقوافي وحسن النظم وجودة التّحبير من التّدليس والتّغيير…». وقوله إنّ الوزن والقافية ممّا يحمي الشّعر من التّغيير والتّدليس، غير دقيق في مجمله، بل هو مردود عليه؛ لأسباب منها ظاهرة الانتحال التي عرفها الشّعر العربي الجاهلي والمحدث على حدّ سواء. على أنّ ما يعنينا في السياق الذي نحن به، أنّ الشعر والقرآن عزّزا هذا الطّابع الفنّي في العربيّة. وفي ما عدا هذا الطّابع فإنّ الشّعر، يبدأ من منتهى القصيدة، ويكون في عقبها أو طرفها. فلا مناص من الإقرار بأنّ القصيدة هي التي تصنع الشّعر حدّا أو مفهوما لا يثبت على حال؛ وليس الشّعر هو الذي يصنع القصيدة. ومردّ الإشكال عند واضعي نظريّة الشعر العرب، إلى أنّهم لم يفصلوا بين الشّعر والقصيدة أو بين الشّعر بإطلاق القول، والشّعر بتقييده. وكانوا يحتكمون إلى ما سموه «طريقة العرب» في تصنيف القصائد، على أنّها الأصل والمذهب؛ بل «الوصفة» التي ينبغي أن تكتب القصيدة بها. وربّما غاب عن كثير منهم أنّ «طريقة العرب» هي في حقيقة الأمر طرائق وأنّ القصائد التي تنضوي إلى هذه الطّريقة تتقارب على قدر ما تتباعد. ولكنّ النظريّة استتبـّت على أساس من درجة القربى بين القصائد. وهي الدّرجة التي كانت بمثابة «شجرة نسب» تؤلـّف بين قصائد الجاهليّة وما جرى في مجراها من قصائد القرن الأوّل للهجرة والقرون اللاّحقة عليه. أمّا تلك التي يختلف ماؤها ويفترق نسبها، وإنْ في مواقع قليلة سمّاها القاضي الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبيّ وخصومه «مواقع الغرابة والحسن»، فقد تحاشاها أنصار طريقة العرب، على استجادتهم إيّاها ولم يحفلوا بها؛ على الرغم من أنّها جزء لا ينفكّ عن طريقة العرب. وكانت حجّتهم لذلك أنّ العرب « لم تكن تعبأ بالتّجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالبديع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشّعر»؛ دون أن يعني زهدهم في البديع خلوّ القصيدة منه فـ»قد كان يقع ذلك في خلال قصائدها، ويتّـفق لها في البيت بعد البيت على غير تعمّد وقصد»؛ أي هو من نوادر الكلام وغرائبه المستجادة. على أنّ عبارة القاضي «على غير تعمّد وقصد»؛ تبدو غير دقيقة بل هي تناقض ما أجمعوا عليه من ضرورة القصد في قول الشّعر؛ لأسباب من أبرزها، نفيُ شبهة الشّعر عن النّبي أو عمّا جاء موزونا في القرآن. والأقرب إلى الصّواب أنّ هذه المواقع هي التي يسلك إليها الشاعر عن تعمّد وقصد. وحاصل كلامهم أن المتواتر في القصيدة مقصود وأن المتقطّع غير مقصود. فإذا كانوا قد استثنوا هذا « البديع» على غرابته وحسنه، من دون سائر أركان العمود ومعالم الطّريقة، فلأنّه من النّادر الذي يقلّ وجوده، ويتأتّى للشّاعر من غير تفكّر ودونما رويّة. 
وليس النّادر لديهم سوى الثـّمين النّفيس الذي يحفظ ولا يقاس عليه. لذلك كان من الطّبيعيّ أن يعقدوا نظريّتهم في الشّعر على عناصر التّـقارب بين القصائد من إصابة في الوصف ومقاربة في التـّشبيه، وأن يشيحوا عما هو متباعد أو متباين متفاوت من قصيدة إلى أخرى. ولم يكن المتقارب أو المؤتلف ليصنع تماثلا بين القصائد إلاّ في حدود ضيّقة أو مفهوميّة بالمعنى الحصريّ للكلمة، ولا كان المتباعد أو المختلف، ليبلغ حدّ التّباين والتّـفاوت بالجملة؛ لأسباب قد تكون المشافهة من أظهرها. وبلاغة القصيدة القديمة ليس لها من وزن ولا قيمة خارج هذه المشافهة، حيث الإنشاد يقتضي أبدا حضورا مشتركا هو حضور الشّاعر المنشد وحضور الجمهور. وهو من ثمّة، محكوم بعقد مضمر بين هذين الطـّرفين: فالقصيد نشيد أو هو قصيد سرديّ ينشد في محفل، حيث تكتسب الكلمة معناها من موطنها الأصلي الذي هو الصّوت وما يقترن به من إشارات جسديّة. ومن شأن هذا أن يسوق إلى قراءته في ضوء تصوّر خاصّ به لا تنفصل فيه صورة المنشئ عن صورة المنشد ولا هي تتمايز؛ أي أنّه محكوم بالطـّابع الشّفوي وهو طابع قوله؛ فضلا عن أنّ خصائصه الوظيفيّة هي التي تكوّن مزيـّته الشّعريّة. وما تشديد واضعي نظريّة الشعر على الإصابة في الوصف والمقاربة في التّـشبيه والمناسبة في الاستعارة ووحدة البيت العروضيّ الدّلاليّة سوى إقرار منهم بهذه الخصائص، وبأنّ القصيد يعرف إلى أين يمضي شأنه شأن الشّاعر المنشد وجمهوره. ففي الإنشاد تتلازم الحركة والكلمة، كما هو الشّأن في الخطابة أي الحركة التي تتناغم أو ينبغي لها أن تتناغم ومعنى الكلمة. وهي لا تعرب عن الكلمة ذاتها وإنّما تضيء مجمل المعنى حتّى يفهم ويدرك دون رويّة. في هذا السّياق يرى بعض المستشرقين مثل لاندبرغ أنّ القصيدة هي الشّعر المقصود، وأنها تعبّر عن المدح أو الذمّ . على حين يرى ألفريد بلوخ أنّها أغنية سفر تحوي وفادة أو سفارة أو خبرا معيّنا يريد الشّاعر إيصاله إلى السّامعين. وفي الحاليْن فإنّ الأمر يتعلّق بفحوى الشّعر وليس بقالبه أو شكله الخارجيّ. أمّا فايل، ورأيه من الرّجاحة بمكان؛ فيذهب إلى أنّ اشتقاق الكلمة (القصيدة) يدلّ على الشّكل وليس فيه ما يفيد الفحوى. وحجّته لذلك الفروق البيّنة بين القصيدة والأرجوزة.
إنّ قول «الحكاية» في هذا القصيد، وليس الحكاية في ذاتها هو الذي يكوّن «المعنى»؛ الأمر الذي يفسّر ظاهرة الصّيغ والتّراكيب المكرورة التي تنهض بتوزيع المعنى على مقتضى الإنشاد، وما استتبّ له من أحكام ومواثيق؛ مثل غياب التّرقيم وعلامات الوقف في الجمل من نقاط وفواصل وأهلـّة، وهو لا يعني بأيّ حال غياب لحظات الوقف بالمعنى الموسيقيّ أو الإيقاعيّ الرّاجع إلى الإنشاد، من نبرة ورنّة ونغمة ووقفة تتضافر في إيضاح المعنى أو هي توطـّئ السّبيل إليه. وفي هذا ما يفسّر موقف أنصار العمود من المحدثين والمولّدين، فالقصيد يتحدّد بعنصرين هما: النّظام والإبانة باعتبارهما مظهرين من مظاهر العقل. 
وبما أنّ هذين يتّسعان للمنثور أيضا، أو هما ممّا تقتضيه سائر أنماط الكلام. فقد حدّوا الشّعر على أنّه البيت من جهة والكلام البائن عن المنثور من أخرى. وهذا يعني أنّ الوزن هو الأساس في كتابة القصيد، وأنّ عالم الخطاب مقسّم إلى منطقتين منفصلتين. والحقّ أنّنا إذا استثنينا الوزن ولوازمه، فإنّ كلامهم على أوّليّة العقل وما يقتضيه من ضرورة الإيضاح والإبانة والامتثال لقواعد اللـّغة وتخيّر الألفاظ الشّريفة يشمل النـّـثر أيضا حتّى ليتسنّى القول إنّه يرسم صورة لما يمكن أن نسمّيه « عمود النّثر» أو نظريّة النثر عند العرب. بَيْدَ أنّ ما يسترعي انتباهنا أنّ هذه الأحكام أو الخصائص الوظيفيّة التي تكوّن المزيّة الشّعريّة في نظريّة الشعر تكاد، لولا إشارتهم الخاطفة إلى مواقع الغرابة والحسن في القصيدة الأقدم؛ تحدّ تفرّد النّص في حيّز «جماليّة التّوقـّع» لا في «جماليّة المفاجأة».

٭ شاعر وأكاديمي تونسي
عن القدس العربي
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)