لنتوقّف في البدء قليلاً عند مفهوم المنهجيّة. المنهجيّة علمٌ يتناول دراسةَ المنهج : أشكاله وأنواعه المختلفة، وتطبيقاته، وبُناه النظريّة-المنطقيّة والاختباريّة –التجريبيّة، وصِلاته بالواقع الملموس، والقوانين العامة التي تحكم خصائصه وأساليب تطويره. وتلعب المنهجيّة العلميّة في هذا الإطار دورا تقويميّا حاسماً، ذلك أنّ تحليلها النتائجَ المترتبةَ على تطبيق منهجٍ ما في مجالٍ معيّن يوفّر إمكانية المفاضلة النسبية بين منهجين مختلفين وانتقاء الأجدى. وتطال وظيفة المنهجية معالجة الإشكاليات الطارئة التي تتطلب حلولا خارج الأطر النظريّة الخاصة للمنهج الـمُعتمد.
من الضروري إذن التمييز بين مفهومي المنهجيّة والمنهج، فالمنهج هو مجموعة الوسائل المستعملة في علم خاص، أما المنهجيّة فهي علم المنهج بشكله العام، أي أنّها علم فلسفي بسبب شموليتها وتناولها القوانينَ العامة الملازمة لمجموعة المناهج. سوف أورد مثلين على ذلك:
1- لقد كان علم الهندسة الإقليديّة، قبل تطور الوسائل الجبريّة تركيبيّاً، حيث تطلبت أغلبُ المسائل بُنًى هندسيّةً تركيبية إضافيّة لحلِّها، ولكنّ هذا المنهج "التركيبي" قد شهد تطويراً جذريّاً مع تطوّر الوسائل الجبريّة ودمجها بالهندسة. وأدّى ذلك، كما هو معروف، الى ظهور الهندسة التحليليّة، حيث نستطيع إعطاءَ أيِّ مسألةٍ هندسيّة صيغةً جبريّة، يعادلُ حلُّها حلَّ المسألة الهندسيّة المطروحة. ويبقى هذا الأمر نفسه صحيحاً بالنسبة إلى ظهور الهندسة التفاضليّة، فكثيرٌ من مسائل الهندسة التحليليّة يصعُبُ (وقد يمتنع) حلُّها بغض النظر عمّا تتطلّبه من بُنًى تركيبية إضافيّة. وقد أدّت هذه الإشكالية إلى تطوير لاحق في منهج الهندسة التحليليّة لنحصل على منهج جديد هو منهج الهندسة التفاضليّة التي نتجت عن اعتماد مزدوج للوسائل الجبرية والتحليلية في علم الهندسة.
2- لقد كانت ميكانيكا نيوتن-غاليلي ذات منهج تركيبي هندسي حيث يتطلّب الكثيرُ من المسائل فيها- وخاصةً مسائلُ الديناميكا-، بُنًى تركيبية هندسيّة إضافيّة لحلّها. لقد تطوّر هذا المنهج لاحقاً في ميكانيكا اويلر-لاغرانج ليصبحَ تحليلياً حيث يمكن حلُّ كافة مسائل الديناميكا دون بُنًى تركيبية هندسيّة إضافيّة. لقد ارتكزت ميكانيكا نيوتن-غاليلي على المبدأ التالي: مجموع القوى المؤثرة على المنظومة الميكانيكية يساوي ضرب الكتلة بالتسارع. بينما ارتكزت ميكانيكا اويلر-لاغرانج على المبدأ التالي: مجموع الطاقة الكامنة والطاقة الحركية للمنظومة الميكانيكية ثابت.
تدخل المنهجيّة هنا بوصفها العلم الذي يبحث عن القوانين التي حكمت عمليّة الانتقال من المنهج القديم إلى المنهج الجديد، بشكل شمولي مع مراعاة كلّ علم على حدة. كما نرى، للمنهجيّة دور كبير في رصد عمليّة تكون النظريات العلميّة وتفنيد القوانين التي تحكم هذه العمليّة.
تصنيف العلوم
إن المنهجيّة العلميّة عند تناولها لأي منهج خاص أو عام تُعنى قبل كل شيء بتحديد إحداثياته الدقيقة في منظومة العلوم ومن هنا بالذات نرى أن تصنيف العلوم يمثل هدفاً لا بدّ من تحقيقه بغية الارتكاز عليه في تلمّس الحقائق المنهجيّة. يبدو من تاريخ العلوم أن الفيلسوف الإغريقي أرسطو كان أوّل من حاول إعطاء تصنيفٍ للعلوم، وذلك عبر محاولته تصنيفها إلى فيزيائيّة وما وراء الفيزيائيّة. وقد تبعه فلاسفة كُثُر، ومنهم الفارابي الذي أعطى تصنيفا شاملا ومهمّا للعلوم.
يرتكز التصنيف الحديث للعلوم على مفهوم الحركة بمعناها الشمولي وبوصفها:
1- مقولةً فلسفيّة للتعبير عن التغيّر المستمر للواقع الموضوعي الذي تحكمه قوانين شموليّة، ومن أهم هذه القوانين تلك التي تعبّر عن وحدته وترابطيّة أشيائه وظواهره وتفاعلها فيما بينها.
2- نتيجةً حتميّة للتناقضات الداخليّة في الواقع الموضوعي : بين الكم والنوع، وبين الظاهر والباطن، وبين الشكل والمحتوى، وبين الملموس وااللاملموس الخ
3- وجهاً وحيداً للتطور، الذي تلعب التناقضات الداخليّة دور الدافع له، فيما تجسّد التحولات النوعيّة الناتجة عن التراكمات الكميّة آليته.
تقسم الحركة إلى أنواع رئيسيّة :
1- الحركة الميكانيكيّة (حركة المجرات والأجرام السماويّة ؛ الحركة التي تسود في العالم الأكبر)
2- الحركة الفيزيائيّة (الحركة التي تسود في العالم الأصغر، حركة الجزيئات ..)
3- الحركة الكيميائيّة (التفاعلات الكميائية)
4- الحركة البيولوجيّة (تبادل المواد في الخلايا الحيّة)
5- الحركة الاجتماعيّة
6- الحركة الفكريّة،
تدرس العلوم الميكانيكيّة الحركة الميكانيكيّة، والعلوم الفيزيائيّة الحركة الفيزيائيّة، والعلوم الكيميائيّة تدرس الحركة الكيميائيّة، والعلوم البيولوجيّة العلوم البيولوجيّة، والعلوم الاجتماعيّة تدرس الحركة الاجتماعيّة والعلوم الفلسفيّة والمنطق يدرسان حركة الفكر. ومن الجدير بالذكر أن هذه العلوم تتداخل فيما بينها ولكن بتفاوت نوعي، فلا يمكننا مثلا، ردّ الحركة البيولوجيّة إلى الكيميائيّة أو الاجتماعيّة إلى البيولوجيّة، فلكلّ نوع ميزاته المختلفة. إن التداخل بين هذه العلوم يغطّي منظومة العلوم المعروفة كلها.
دكتور في كلية الهندسة