أحدث المنشورات

موسى وهبه... من أين أدخل إلى الفلسفة؟


يحكي بروفسور غونّار شيرباك وزميله بروفسور نيلس إيلْيا)  Skirbekk, Gunnar og Gilje, Nils: Filosofihistorie, Universitetsforlaget, Oslo 2007)، يحكيان حكاية الفلسفة منذ نشأتها حتى أواخر القرن المنصرم، بطريقة خاصة تخالف قصّة ويل ديورانت وتاريخ الفلسفة عبر النصوص لويزمان، وتقترب، من حيث التوجّه لا من حيث التوسيع، أيّما اقتراب من تاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل.

 جديد الكتاب نهجه التربوي التبسيطي وانهمامه بربط التفكير الفلسفي بالمحيط الاجتماعي السياسي والإديولوجي والعلمي بخاصة، وإفراده مجالا لائقا للتفكير الفلسفي النسوي مثلما يفعل مع حنّه أرنت وسيمون ده بوفوار، بل مثلما يحرص على ذكر عالمة الرياضيّات الفيلسوفة الأفلوطينة هيباتيا من مدرسة الإسكندريّة (القرن الخامس الميلادي).

 ويتجلى نهجه التربوي في حرص المؤلفيْن على تدوين أسئلة في نهاية كلّ فصل لاختبار معلومات الطالب ومدى استيعابه للمسائل التي عرضا لها، وتزويده بنصائحَ لقراءة مراجع متعلّقة بالموضوع المطروح على غرار الكتب التعليمية، إنما من دون الجزم والقطع المعروف في مثل هذه الكراريس (كبول فولكييه مثالاً)، إذ اللافت أن "ربّما" و"من الممكن" و"قد" التقليل تتردّد بوفرة وبخاصّة أمام المسائل الشائكة: مثال الكلام على العود الأبدي للهو هو، حيث أقرأ: "من الممكن أن يكون اهتمام نيتشه منصبّا بخاصّة على الفحوى العملي لهذا المذهب"... "وربّما كان يناصر أيضًا التصوّر الرواقي للعالم"... "وقد يتطلّب أن علينا أن نتصالح مع فكرة أن مهمّتنا على الأرض هي نوع من شغل سيزيفي" (لا نهاية له)

 أما نهجه التبسيطي فيتجلى في حرصه على سرد المعلومات والابتعاد عن التحليل العويص للمشكلات الفلسفية التي قد تثير جدلا يبدو أن المؤلفين حسباه جدلا لا طائل تحته، فلا يعود ثمّة حاجة إذن إلى إثقال الحمل على القارئ المبتدئ والأكثر عددا من ثمّ. لا أشير بذلك إلى أنهما اختارا الطريق الأسهل للترويج خضوعا لمنطق السوق، بل إلى أن هذا النهج يتفق مع رؤيتهما للفلسفة المعبّر عنها في الكتاب.

فأنا أقرا في مطلع الكتاب (ص 166 من الترجمة الفرنسية): ستكون مهمّتنا أن نفهم ما قال الفلاسفة وأن نكتشف ما إذا كانت المعارف (الرؤية، بالأنكليزي ص 5) التي نقلوها إلينا ما تزال صالحة (كذا).

 وهنا بالضبط تبدأ المسافة بيني وبينهما بالاتّساع. إذ أحسب أن البحث عن استمرار (أو نفاد) صلاحية المعلومات (أو الرؤى) الفلسفية، أمر غريب عن الانهمام الفلسفي إ ذ يرى إليها من خارج، من زاوية انتفاعنا العيني بها، وهذا الأمر دارج عندنا بتطرّف في توقّع الفائدة إلى حد أنه يقتل الفلسفة بكلّ بساطة ويحوّلها إلى جثّة هامدة تلخّص إلى ضُمّةٍ من الآراء والمعلومات نتناقلها بدقّة متفاوتة أو نحاول تأويلها بطرق مختلفة أو نحكي حكايتها كما لو كانت مجرّد مجريات لم نعد ندري كيف "شكّلت طرقنا المعاصرة في التفكير".

 دعوني إذن أسأل المؤلّف الحاضر هاهنا: ماذا يعني تاريخٌ للفلسفة بنظرك؟ ما الفرق بين تاريخٍ للفلسفة وآخرَ للأفكار؟ ولماذا الإصرار على ربط تاريخها بالأنشطة البشرية الأخرى باستثناء الأنشطة الفنّية بعامة؟ ثمّة فلاسفة يزعمون أن لا تاريخَ للفلسفة، لأن مسائلها لا تزال هي هي منذ نشأتها حتى اليوم (ألتوسير)، فماذا تقول لهؤلاء؟ وثمّة آخرون يحسبون أن تاريخ الفلسفة جزء من التفلسف، ومنهم من يراه تطوّرًا متّصلا وصولا إلى ختمه على يديه (هيغل)، وثالثون يبشّرون بنهاية الفلسفة وبدء مرحلة التفكير تبعًا لمراحل انكشاف الكون واحتجابه (هيدغر)، وهم في الوقت نفسه يعلنون موت الميتافيزيقا منضمين إلى جوقة الناعين (من الوضعيين وصولا إلى مدرسة فرانكفورت) فأين الكتاب من كلّ هذا؟
 يبدأ تاريخ الفلسفة هذا تبسّطه من دون أن يطرح مسألة إمكانه- فهو مجرّد مدخل موّجه للطلبة؛ ويريد لنفسه أن يكون مدخلا ميسّرا إلى الفلسفة، وكأن المدخل إليها تحصيل حاصل، أو كأنه يمكن الدخول إليها من خارجها؛ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل علينا أن نتوسل التاريخ أو علم النفس أو علم الاجتماع أو علم تاريخ العلوم أو علم العقائد للدخول إلى الفلسفة؟ أم علينا أن نرمي أنفسنا مباشرة في بحرها لنتعلّم السباحة؟ أليست الجمهورية لـ أفلاطون أو حديث المنهج لـ ديكارت أفضل مدخل إلى الفلسفة وأيسره وآمنه؟

ويربط التفلسف بتاريخية الاجتماع البشري من دون أي تسويغ- فالأمر صار شبه تقليد، وبخاصّة منذ "تاريخ الفلسفة الغربية" و"حكمة الغرب" لـ برتراند راسل.
والسؤال هو ماذا يبقى من الفلسفة عبر هذا الربط والتبسيط؟

***
سأحاول الإجابة من الكتاب نفسه عبر نماذج ثلاثة:
 أولّها كتاب اسبينوزا "رسالة في اللاهوت والسياسة" حيث أجد عرضا موجزا له يشير إلى الفرق بين الفلسفة واللاهوت وإلى التسامح وحريّة المعتقد والتفكير والتعبير، لكنّه يغفل المسالة الرئيسة في الفلسفة الحديثة: التدليل من النص الديني نفسه على أن العقل هو الحكم الأخير في قدسيته لأن على البيّنة أن تقدم إليه.

 وسيعبّر كنط عنها ببلاغة حين يطالب الدين والتشريع بتقديم أوراق اعتمادهما إلى محكمة العقل. لكن ذلك، على بساطته وأهميّته، يغفله الكتاب.

ويغفله إلى جانب مسائل أحسبها روح الفلسفة الكنطية:
 فصحيح أنه يشرح بلباقة ملحوظة الفرق بين الأحكام التحليلية والتأليفية، قبليّا وبعديّا، وإن كان يخلط بين المركوز والقبلي، ويذكر نقده للميتافيزيقا العقلانية وحدود المعرفة النظرية، ويشير إلى الأمر الحملي شعار الفعل الأخلاقي، ويتبسّط في ما يسمّيه "النظرية السياسية" عند كنط، ويقطع بسرعة مسافة نقد الحاكمة،
 إلا أنه لا يؤكد على الفرق بين الحدوس المتلقية والأفاهيم التلقائية، بين الحكم المعيِّن والحكم المتفكر، ويهمل التركيز على نشاطية الذهن وتمييز معنى المجاوزة وهي حجر الزاوية في البناء الكنطي.

 وينسى، في نقله للاعتراض على كنط، أن يشير إلى أن كنط لا يعطي لطروحه صفة الحلول الشافية بل صفة المزاعم اللازمة لتسويغ علمي الرياضة والطبيعة أو لتسويغ قيام أخلاق يونيفرسالية وصيغة ذلك: إذا أردنا أن نسلّم بوجود كذا... يجب أن نفترض كذا.

 ويحصل ذلك كما لو أن كنط يُقرأ في منطقة وسط بين تبسيطين واحد لقراءة هيدغر وآخر لقراءة النيوكنطيين.
 أما عرضه لهيدغر فمساوم ومجانب لأي نقد مع أن المؤلف منحاز إلى العقلانية والحداثة، أي إلى شيطان هيدغر. لكن ها الحياء يمنعنا من تعرّف بادرة هيدغر: فقارئ الكتاب سيحسب أن هيدغر وجودي من دون أي تنويه آخر. بل سيحسب أن "اللغة بيت الإنسان" وليس بيت الكون على ما هو معروف عن هيدغر. بل لن يسمع بما يميّز هيدغر: أي نعته الفلسفة السابقة والميتافيزيقا كلها بـ"نسيان الكون" ونسيان هذا النسيان للانصراف إلى الانهمام بالكائن، ولن يعلم أن التيه الميتافيزيقي والأنسي و العقلاني والمنطقي والتقاني ليس مجرد خطأ بل حال لازمة عن انحجاب الكون. ولن يعلم أن هيدغر مساهم أكبر في شركة نعف الذات العارف وتبكيت الميتافيزيقا. بل سيدهش أن يرى حنّة أرنت تأخذ ضعف مساحة هيدغر في مدخل إلى الفلسفة.

لكنّ الأهم هو أنّه يريد تفحّص ما إذا كانت معارف الفلاسفة السابقين ما تزال صالحة حتى اليوم.
 بالتأكيد لم تعد معارف أفلاطون وأرسطو في طبائع البشر وفي مكوّنات السماء الخ.. صالحة، ولم تعد نظريّات كنط ونيوتن في المكان والزمان والرياضة والطبيعة يونيفرساليّة، لكننا ما زلنا ندرس أفلاطون وأرسطو وكنط وسواهم من الفلاسفة لا لاستقاء المعلومات الدارسة ولا لاتخاذ العبرة، بل لنتعلّم كيف فكروا كلّ بطريقة وكيف يمكن أن نفكّر اليوم بطريقة أخرى.

 أحسب أن الفلسفة ليست خبرًا عن العالم وأنها ليست علمًا بموضوعاتها، بل هي بالأحرى طريقة في النظر إليها؛ وليست مجرّد أدب وإن كانت ذا نبض حيّ متميّز لا يمكن فصله عن نصّها ولا يمكن عرضها بالإخبار وبمعزل عن مبادرتها في النصّ إيّاه.

 وما أحسبه هنا قد يوافق عليه المؤلفان وهما يشيران إلى بعضه في المقدّمة، لكن تمييز الفلسفة من العلم يبقى باهتا، أما النصّ الفلسفي فلا يحضر، باستثناء نادر، إلا بالإخبار عنه لا بذاته. ولعل ذلك هو الضريبة التي لا بدّ من دفعها في عمل بمثل هذا الحجم وبوسع هذا الانهمام بالثقافي العريض.

***
وأنتقل الآن إلى الترجمة العربية للكتاب الصادر عن المنظمة العربية للترجمة:
 وأبدأ من العنوان، تاريخ الفكر الغربي من ..إلى، وأراه يخون العنوان الأصلي الذي هو "تاريخ الفلسفة" من دون أي إضافة أخرى. وهي خيانة ارتكبها المترجم إلى الإنكليزية وكان يمكن تداركها. فتاريخ الفكر غير تاريخ الفلسفة، وإضافة "الغربي" قد تفهم تحت وطأة راسل، (إشارة المؤلفين إلى نعت الأوروبية في المتن تبدو حشوا زائدا استنادا إلى هوسيرل) لكن لا تفهم بالعربية وبخاصّة أن المترجم أضاف صفحات عدة عن العلوم عند العرب، ونسي هو والمؤلفان ذكر ابن خلدون والكندي والفارابي.

وما يؤخذ على الترجمة العربية كثير أكتفي بذكر بعضه:
 فهي تثبت نصّا شهيرًا لـ ابن رشد مترجمًا عن مترجم ولا تكلّف نفسها عناء إثباته بصورته الأصلية. وتنقل المراجع والمصادر باللغة الإنكليزية، كما وضعها المترجم الإنكليزي مستمدة من المكتبة الإنكليزية، فلا تذكر أي مراجع أو مصادر بالعربيّة يمكن أن يفيد منها القارئ العربي، على غرار ما تفعل الترجمة الفرنسية وأي ترجمة أخرى غير مسخّرة للكسب وحسب. (إن ذكر مصادر ومراجع بالأجنية يورّط الترجمة بما لا طاقة لها عليه: جعلها ناقصة قبل ترجمة كامل المراجع المذكورة، أو الاعتماد على معرفة القارئ اللغة الأجنبية مما يجعل الترجمة من النافلة، حيث لاهدف لها يتخطى مجرد النقل) لكنّ الأهم هو أنها لا تميّز ترانسندان من ترانسندانتال في الكلام على كنط وهو أمر لا يغتفر. كما تترجم تبعا للدارج Imperatif categoriqueبالأمر المطلق. (وهذا الدارج العربي غير منهم أصلا بفهم الشيء في سياقه فهو على عجلة من أمره)
ولا تميز الكون من الوجود عند هيدغر بل تذهب إلى كتابة " وجود الوجود" بدلا "من كون الكائن" وليفهم من يشاء (لعل الأصل الأنكليزي يتحمل جزءًا من المسؤولية: ف Being of the being والتمييز بين اللفظين بمجرد إضافة حرف التاج على واحد من دون الآخر أمر مفقر عدا عن أنه لا ينقل إلى العربية من دون العودة إلى هيدغر، ومرّة أخرى يظهر تقصير الكتاب في التمييز بين الكون والكائن).

 وأنا لا ألوم المترجم شخصيّا على ذلك وأعرف البدل المخزي الذي تدفعه المنظمات والمؤسسات العربية وأعرف أنه لا يساوي ربع المبلغ الوارد من الجهات الداعمة أو نصفه في أحسن الأحوال،
 لكنّي ألومه على قلة اهتمامه بالمصطلح الفلسفي، وإن كنت أجد له أسبابا تخفيفية بالنظر إلى فوضى الترجمة الفلسفية إلى العربية وبؤسها.
(*) دكتور في الفلسفة وترجم كتاب "نقد العقل المحض" لكنط

بيروت، مسرح المدينة، آذار 2012

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads