موسى وهبه...جيل دولوز وصناعة الأفهوم

alrumi.com
By -
0


1- فلسفة مهما حصل
يتعامل مشتغلون كثر، بالفلسفة بالعربي، مع الفلسفة كما مع جثة تاريخية يقام لها كل عام، بدعم من اليونيسكو، جنّاز للذكرى. للتذكير بأنها ماتت. بأنه لم يعد الحديث عنها وفيها يجوز إلا بصيغة الماضي؛ وبأن الكلام عليها يكون لا بمعنى كتابة تاريخها الذي قد يذكِّر بشبابها أو يستعيد مشاهد ما تزال حيّة منها، بل بمعنى تفتيت الجثّة وتأريخ بعض الأفكار. لكأن الفلسفة مجموعة معان انفرط عقدها بأفول السِسْتام على ما يزعمون. يعضدهم في الزعم هذا ما تمّ تناقله إليهم من الصحافة الثقافية المعاصرة، الفرنسية منها بخاصّة، المأخوذة بما يسمّى "ما-بعد-الحداثة" و"نهاية الميتافيزيقا" و"موت الإنسان". فتراهم يتلقفون هذا المتناقل حاسبين أنه يريحهم من العناء بلا طائل في سبيل حداثة عربية تتعثر وتتمنّع.

في معارضة هذا النثر الثقافي يُصدر جمال نعيم كتابه: جيل دولوز وتجديد الفلسفة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2010، معلنا أن "الفلسفة لم تمت ولن تموت" في شبه قصيدة ينشدها في مواجهة الكسل الفكري العربي وراحة العقل المطمئنّ إلى مسلّماته. وكأنه يقول: "فلسفة مهما حصل" ويذكرني ولا بدّ بالبائع الجوّال الذي كان يطوف بعربته في شوارع بيروت في عزّ القصف المتبادل بين الأحياء الآهلة وقد رفع على عربته يافطة كتب عليها: "بصل مهما حصل".

لم توقف يافطة البائع الجوال الحرب الأهلية لكنها عبّرت عن توقنا إلى الخروج منها. ولن تضع قصيدة نعيم حدّا للثرثرة الثقافية لكنها تعبّر بالتأكيد عن توقنا إلى قول العصر الفلسفي باللسان العربي، وهي عبّرت عن هذا التوق وتدبّرته بالاشتقاق والتوليد اللذين تبيحهما الممارسة التفكّرية العربية منذ الكندي وصولا إلى اليازجي والشدياق مرورا بابن سينا وابن رشد وأهل التصوّف والإشراق (لا يغضبنّ الرشديّون الجدد!). 

فترى نعيم يجرؤ، حيث لا يزال أساتذة الفلسفة يتردّدون في مدرسيّتهم المعذّبة، بل ويعتصبون ضد كلّ توليد، يجرؤ على استعمال أُفهوم، وعِلْمان، وفيمِياء، وقول، وأُمثول، ومُجاوِز إلخ..
ويجرؤ مرة ثانية، في حمأة هيمنة السُسْيولُجي والسَيْكولُجي والأبستمولجي، على الإعلان أن "الفلسفة ليست خبرا عن العالم" وليست علما من نوع مخصوص، وكل علم من نوع مخصوص، بل هي جنس على حدة مستقلّ ولازم فلا يموت ولا يهرم طالما ثمة عقل يفكّر ويقترح فروضا لمشكلاتنا المستعصية.

لكنها جرأة من نوع آخر نشر كتاب عن فيلسوف لا نصوص وافية له بالعربية فيضطر المؤلف إلى ترجمة مقاطع كاملة ليوضح نفسه. لكن الوضوح لا يحصل أحيانا وبعض السبب عائد إلى التباس الاصطلاح الفرنسي المنقول بدوره عن الألمانية، أذكر فقط الفرق الأصلي بين problématique ك adjectifوLa Problématique ، وأن états de choses ترجمة سيئة الحظ لـِ Sachverhalt

2- دولوز وتجديد الفلسفة
المهم أن جمال نعيم يلتزم ببرنامج عمله. فهو يريد أن يبين كيف وأين يجدّد دولوز الفلسفة. لكنه يعرف أنه يكتب عن دولوز في لغة وحقل تداولٍ لم يعتادا على قوله كثيراً، ولم تصر فيهما آراء دولوز المميَّزة ثقافة عامة. فيعرض، ويسهب حيناً في عرض أفكار دولوز في قراءة متأنية لكتاباته الغائبة بمعظمها عن العربية.
وينجح المؤلف في تبيان ما يريد، أي في التأكيد على أن دولوز يجدِّد في شكل الفلسفة ومضمونها ويفتح حقلاً جديداً للتفلسف مربّع العناصر، يتعيّن جغرافياً (أو بالأحرى طوبوغرافياً) وميتافيزيقياً (بوحدة الكون) وبنائياً (بمسطح المحايثة) ولغوياً (بالغريب اللغوي). وربما يلتبس على القارئ أن التجديد هو الإتيان بالجديد وليس مجرد النهوض من جديد الذي يمكن أن ينطبق أكثر على فكرة أن الفلسفة خالدة لا تموت، وأن الخالد لا تاريخ له بل مجرد سيرة للأحداث الحاصلة عنده أو عليه.

ذاك ما يمكن استخلاصه من الفصل الأخير من كتاب نعيم، وهو أمّ الكتاب، ومضمونه عرض لكتاب دولوز: ما الفلسفة؟، الذي يأتي خاتمة مسار طويل من التفلسف في عصر طغى عليه في القارة (في أوروبا القاريّة) أثر قراءة هيدغر بالتضافر مع التحليل النفسي في الترويج لموت الذات (والإنسان) وانتهاء الميتافيزيقا، وطغت عليه في الإنجليزية الفلسفات الوضعية والتحليلية المستبعدة لكل ميتافيزيقا من حقل التفكير المنظم.

وصحيح أن دولوز يظل حبيس رذل الذات (Le sujet) المعمَّم بانحيازه إلى فلاسفة الحياة (نيتشه) ووحدة الوجود (اسبينوزا)، إلا أن بادرته بالتأكيد على استقلالية الفلسفة واستمراريتها تظهر من جهة أنه قرأ جيداً، بخلاف معظم معاصريه، ما أراده هيدغر من إعلانه نهاية الفلسفة بمعنى نهاية مرحلة من الانتباه إلى الكائن وتباشير مرحلة من الانتباه إلى المطلب الأصلي للتفكير والإنصات لنداء الكون؛ وحمل كتابه: ما الفلسفة؟ العنوان نفسه للمحاضرة التي ألقاها هيدغر عام 1955: Was its das die Philosophie والتي بدأها بالعبارة الفرنسيةQu’est-ce que la philosophie:.

لكن دولوز لا ينضمّ إلى جوقة إعلان موت الميتافيزيقا، فهو لا يزال ميتافيزيقيا على نمط اسبينوزا، أي أن ميتافيزيقاه تقوم على استبعاد المفارق والركون إلى المحايثة المطلقة أو ما يسميه الأمبيرية المجاوزة على قاعدة الواحد/الكل.

3- ما الأفهوم
ولعل الأكثر لفتاً وغموضاً في آن هو ما يحاوله دولوز في تجديد القول في الأفهوم، انطلاقاً من تعريفه الشهير للفلسفة بأنها "إبداع للأفاهيم" (وحسناً فعل نعيم بترجمة Création بإبداع وليس بخلق. فالفرنسية لا تميز المعنيين القائمين بالعربية التي تحصر الخلق بالفعل الإلهي أي الخلق من عدم. وإن كان يصح الإبداع على فعل الخلق فإنه يختص بالأحرى بالفعل الإنساني، وإن بمساعدة جن عبقر الغيبي، ويتميز من الاختراع انطلاقاً من مواد قائمة، ومن الكشف عن أشياء قائمة إنما لا تزال مخفية، ومن الصناعة (الفبركة) أي إيجاد شيء جديد من أشياء متفرقة. أضف أن الصناعة في العربية الكلاسيكية تطلق على الشعر والنثر بما يقرب من الإبداع إنما لجهة الفعل المنتج لا لجهة الناتج).
فإذا كانت الفلسفة إبداعا للأفاهيم يتوجب تمييز الأفهوم من سواه من الأنشطة القريبة. والأنشطة القريبة، في رأي دولوز، تتفرع من أصل واحد هو التفكير (أو الفكر، حيث يصعب التمييز دائماً، في الفرنسية بين اللفظين). فهو يحسب أن التفكير ليس حكراً على الفيلسوف بل إن العالِم يفكّر والمنطقي يفكّر والفنان يفكّر، ولكن لكل طريقته أو بالأحرى أفعوله.

التفكير يتم إذن بأفاعيل. والأفاعيل ليست كلمة مولَّدة الآن بالعربية، فالنحاة يطلقونها على الحال والتمييز والاستثناء، ولم ترد إلا نادراً بالمفرد الذي قد يصح أن يكون أفعولا وأفعولة، وإن وردت بكثرة كوزن قياسي في مثل قولنا: أسلوب وأخدود وأركوب، وأنشودة وأطروحة وأرجوحة... إلخ.

فإذا ما تأملنا الفرق بين صيغة المذكر وصيغة المؤنث يتبين أن صيغة المذكر تشير غالبا إلى الفعل (والمصدر النوعي) وأن صيغة المؤنث تشير دائماً إلى حصيلة الفعل (ومصدر المرة).
هذا التمييز بين الصيغتين هو الذي حدا بي إلى اختيار وزن أفعول في توليد لفظ أفهوم بإزاء Begriff و Concept في قراءتي لـ"نقد العقل المحض" لعمانوئيل كنط (بخلاف ما اقترح يومها العلامة الراحل الشيخ عبد الله العلايلي، راجع: الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الإنماء العربي، بيروت 1986، الجزء الأول، مادة مفهوم – أفهوم). الأمر الذي أثار حركة اعتراضية واسعة بين جمهور المتفلسفة وجماعة النثر الثقافي الفلسفي، حركة تحولت للأسف إلى عصبة مركزة في تجمع عربي يعنى بالترجمة، سلاحها الوحيد الاعتداد بالدارج والركون إلى راحة العقل المطمئن إلى مسلماته.

كنت إذاً ولّدت أُفهوم لتسمية فعل التفكير الذي تقوم به الفاهمة في محاولة معرفتها لموضوعات المعرفة التجربية. وعدت فولّدت أُمثول على الوزن عينه لتسمية فعل العاقلة Idee في محاولتها لتقليد الفاهمة في النظر إلى الموضوع بعامة الذي يحسبه كنط وهماً مجاوِزاً. وكان كنط أطلق لفظ الأفاهيم المحض على لوحة المقولات الأرسطية بعد تعديلها وإخراج المكان والزمان منها، وبعد استبعاد الكليات أو الأحاميل على غرار ما فعل أرسطو هذه المرّة.

وكان أرسطو حسِب المقولات وجهات مختلفة يرى بها العقل إلى الكون (أو الكائنات)، من هنا عبقرية الترجمة العربية للقاطيغوريا بالمقولة، اشتقاقاً من القول أو اللوغس، أي العقل ناطقاً، أو قائلاً لمعرفته بموضوعه.

ويستفاد من التدقيق الكنطي لإرث أرسطو أن المقولات أو الأفاهيم المحض (وعددها 12 موزعة على أربع لوحات وقسمين: مقولات رياضية تقول كم الموضوع وكيفه، وإضافته (=علاقته بموضوع آخر)، ومقولات دينامية هي الإمكان والوجود والضرورة وأضدادها، تقول جهة المعرفة بالموضوع أي جهة كونها احتمالية أم إخبارية أم يقينية.

يستفاد أن هذه المقولات لاتقول الكون فِيّاه (في ذاته) بل تعبر عن معرفة الفاهمة بموضوعها وعن جهة هذه المعرفة، وتشكل في الوقت نفسه موضوعها من معطيات التجربة والحواس. ويستفاد أن هذه المقولات أفاعيل أو أفاهيم تشكل بنية الفاهمة الذاتية أي بنية ملكة التفكير البشرية. وأن الأفاهيم المشتقة (أسماء الجنس، والمصطلحات العلمية) تندرج تحت الأفاهيم المحض.
وحين يكتب كنط أن الأفهوم فارغ والحدس أعمى وأن باجتماعهما إنما تتقوم المعرفة، لا يعني أن الأفهوم نوع من قالب تصب فيه معطيات الحدس لتتخذ شكلاً، بل يعني أنه هو ما يشكِّل، وأنه نوع من الصورة الأرسطية الواردة من الذات فاعل المعرفة.
ويعني أن اجتماع الأفهوم العام إلى الحدث المشتت والجزئي هو نوع من إدراج الحدس تحت الأفهوم بتوسط شَيْم الحاكمة (التي قد تُشبَّه بالصانع الأفلاطوني (الدٰميورْجْ) إنما ينبغي الحذر دوماً من التشبيه).

والقول عن الأفهوم إنه عام لا يعني أنه تجريد معمّم أو معنى أو محمول، بل أنه موحِّد وفعل توحيد المتنوع في حامل ما (مبتدأ ما، مسند إليه ما)؛ وكنط يحرص على التمييز بين موقع الحامل وموقع المحمول عليه.
إلى هذا ينبغي أن أضيف: كان كنط أول من أعطي هذا الرسم للأفهوم. وأن اللفظ الدال عليه لم يكتسب هذا المفهوم (المضمون) إلا معه. و"كونسبت" أو "بيغرف" كانا يعنيان مجرد الاستيعاب والفهم؛ وعند ديكارت والعقلانية الديكارتية كان الكلام يجري على فكرة وأفكار، مثلما كان يجري عند لُكْ والتجربيين على فكرة وأفكار إنما بدلالة المعنى العام المجرد وحسب. وعن كنط إنما يرث اللاحقون رسم الأفهوم ليحتفظوا به كما فعل هوسرل وبعض هيدغر، أو ليتوسعوا به كما فعل هيغل ودولوز، أو ليعودوا به إلى المعنى السابق للفكرة وإلى القالب كما سيفعل التجربيون وسائر الوضعيين، وأيضاً برغسون.

4- صناعة الأفهوم الدولوزية
يتوسع هيغل بمعنى الأفهوم إلى حد دمجه بالأمثول المطلق absolut Idee أو جعله المرحلة الختامية من تطور الأمثول، ومن مرحلة الوعي بالموضوع إلى مرحلة الوِعْيان (الوعي بالذات إيّاه) أي من الفاهمة إلى العقل فالعِلمان المطلق، ومن المنطق الموضوعي بشقيه: الكون والماهية، إلى المنطق الذاتي أو الأفهوم. وهو يفرد الكتاب الأخير من علم المنطق (المنطق الكبير) للكلام على الأفهوم بتعيناته المتلاحقة الناسخة والمنسوخة وصولاً إلى العلمان المطلق حيث يعود الأفهوم من كونه فِيّاه ليصير فيَّاه ولِيّاه (راجع في شأن هذه الاصطلاحات: إدموند هوسرل، مباحث فلسفية ترجمة موسى وهبه، المركز الثقافي العربي، بيروت 2010، مقدمة المترجم).
ويستفيد جيل دولوز من ابتكار كنط وبخاصة من توسيع هيغل ليقدم لنا رسمه الخاص للأفهوم، صناعته، تاركاً لنا وجوب إعمال التفكر في ما قدمه علّنا نستوضح هذا الرسم الذي يبدو مستعصياً على الإيضاح التام.
لن أستعيد كل ما ذكره نعيم في شرحه للأفهوم عند دولوز، وسأكتفي ببعض الملامح التي أراها معبرة عن إسهام دولوز الخاص:
وبدءاً يوسع دولوز رسم الأفهوم، مستبعداً في الظاهر حصر الأفهوم في المقولات الكنطية، بل رافضاً عدّ المقولات، إن فهمت بمعنى القوالب، أفاهيم، لأن الأفهوم حركة دائمة وليس جموداً. بل رافضاً كون الأفاهيم المحض أفاعيل فكرية محصورة ونهائية. ومصراً على أن الأفهوم ليس بسيطاً بل مكوناً من مكونات عدة، وأنه مفرد (والأصح ترجمة singulier بفريد) يقول الحدث وتحمله شخصية أفهومية وبذلك يتميز من الأدروك والأشعور مع كونهما مثل الأفهوم أفاعيل فكرية.

ويزداد الإرباك حين يقرِّر دولوز أن للأفهوم تاريخاً يتعدل ويتغير مع كل فيلسوف جدير بهذا الاسم: يوقّع على أفهومه الخاص (=يترك بصمته) فيكون لدينا الواحد عند أفلاطون، والجوهر عند أرسطو، والكوجيتو عند ديكارت، والموناده عند ليبنتس، والإمكان عند كنط، والديمومة عند برغسون إلخ..

يصبح الأفهوم بهذا المعنى نوعاً من الفكرة الرئيسة، أو الحدس الرئيس كما يفضل أن يقول اقتداءً ببرغسون، الخاص بكل فيلسوف كبير. ويمكن أن أضيف بالمعنى نفسه: إن مسطح المحايثة هو الأفهوم الخاص بدولوز نفسه. لكن ذلك سيولد إرباكاً جديداً لأن مسطح المحايثة هو المسطح الذي عليه تبنى الأفاهيم وهو ليس بأفهوم بل حدس أصلي خاص بكل فيلسوف. فهل يجب التمييز بين أفهوم أصلي وأفاهيم أخرى تشيّد مساحته؟

يسوِّغ سؤالي هذا تعريف دولوز الفلسفة بأنها إبداع للأفاهيم، وقوله أيضاً إن الفلسفة إبداع للأفاهيم وتشييد لمسطح المحايثة في عمليتين مختلفتين إنما متلازمتان. ويمكن أن نفهم أن المسطح عنده هو حدس الواحد الكل وأن الأفاهيم هي عروقه النابضة بالحياة (مما يضيء معنى الخطوط المشتدة).

فهل يعني ذلك أن دولوز لم ينفك عن فكرة الجوهر وصفاته عند أرسطو؟ أم هو جمع أرسطو إلى اسبينوزا في محاولة للتملص من صرامة كنط النقدية وتنويريته وذاتيته أو بَيْذويتة، وفي رفضه للمثنى رفضاً ينسبه إلى عصره ولا بدّ. عصره القائم على الواحدية (البعد الواحد) والكثرة العائدة بالضرورة إلى الواحدية الشاملة؟!

ملاحظة لاحقة: كتب هذا النص من سنوات، واليوم صرت أفضّل تأدية بمِثال جمع مُثُل بالمعنى الأفلاطوني. موسى

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)