محمد شعير
في معظم الأساطير والحكايات الشعبية حول العالم، توجد رحلة، تبدأ بهاجس البحث عن شيء (كنز أو شخص أو مدينة مفقودة)، وتنتهي الرحلة بالوصول إلي شيء آخر، وأحيانًا بالوصول إلي "معني".
في الذكري الخمسين لصدور رواية "أولاد حارتنا" في كتاب (1966).. طرحنا السؤال: أين يمكن أن نجد مخطوط الرواية الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الأدب العربي، والتي لم يتوقف النقاش حولها منذ نشرت في حلقات بجريدة الأهرام عام 1959 ، قبل أن تصدر في كتاب عن دار الآداب البيروتية. لم يكن السؤال عن المخطوط مجرد هاجس نفسي، أو رغبة فردية، لكنه سؤال نقدي بامتياز، يتعلق بتطور الفكرة والأسلوب، وطريقة معالجة نجيب محفوظ لعمله الفلسفي الرمزي الذي أثار كل ذلك الجدل (ولا يزال)، فمن يعرف هل نشرت "الأهرام" الرواية كاملة أم جرت بعض التعديلات بالاتفاق مع المؤلف؟، ومن يعرف حجم ونوعية التغييرات التي أجراها محفوظ نفسه علي الرواية خلال سنوات كتابتها؟...
بعد رحيل محفوظ لا يوجد سوى المخطوط وحده، الذي يمكنه أن يرشدنا إلي الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها. ومن هنا كانت رحلة البحث عن المخطوط التي قادتنا إلي مفاجآت أخري..أوراق ومسودات، ومخطوطات، ورسائل وتقارير تخص عميد الرواية العربية.
الحمض النووي
لنجيب محفوظ
«مع المخطوطات نغوص في الأعماق الحميمة للكاتب، نشعر بتواصل مباشر معه، نلامس حمضه النووي الإنساني» هذا ما يقوله جيرالد ليريتييه مؤسس متحف الآداب والمخطوطات في باريس، وهذا ما دفعني للبحث عن "مخطوطات محفوظ"، فهي تتيح لنا فرصة نادرة للوقوف علي المراحل التي سبقت صدور العمل الأدبي في صورته النهائية، فرصة للدخول إلي معمل الكاتب أو مطبخه: تفاصيل العملية الإبداعية لديه، كيف يكتب أعماله؟ كيف يفكر فيها؟ المراحل التي مر بها العمل؟ التعديلات التي طرأت علي الكلمات والعبارات؟ اللعب الغزير في مسودات "ما قبل النصّ"... دلالات التغيير والتعديل؟ كيفية تطور الشخصيات؟ ودرجة حرارة الكاتب واتجاه بوصلته مع تغير مراحل الكتابة؟
1
البحث عن مخطوط
«أولاد حارتنا»
أين يمكن أن نجد مخطوطة » أولاد حارتنا » ؟
ضحك فيليب ستيوارت أول مترجم للرواية إلي الإنجليزية..وقال: ربما ترقد المخطوطة داخل خزانة أحد البنوك في بيروت!
لماذا بيروت تحديدًا؟
لا بد أن نحكي الحكاية من البداية:
في مارس 1962 وصل إلي القاهرة الشاب فيليب ستيوارت (المولود في لندن عام 1939)، الذي يدرس العربية في جامعة أكسفورد. كان قادمًا من الجامعة لإنجاز بحث عن "روايات نجيب محفوظ" يحصل به علي درجة الدكتوراه، لم يكن لديه مهلة من الوقت.. فقط 6 أشهر يعود بعدها لدراسة علم الغابات، كان يتردد علي المقهي الذي يجلس عليه محفوظ كل صباح، حيث تعرف هناك علي محام يدعي "هارفي" نصحه بعدم تضييع وقته في البحث والاكتفاء بترجمة إحدي روايات نجيب محفوظ، ووقع الاختيار علي "أولاد حارتنا". لم تكن الترجمة بهدف النشر، بل ترجمة أكاديمية لمجرد الحصول علي الدرجة العلمية، واقتنع ستيوارت بالفكرة، وفي حوار لي معه بعد ذلك قال: "كنت أتوقع أن ترجمة الرواية مع كتابة مقدمة وملاحظات كافية لرسالة دكتوراه، لكنهم رفضوها في الجامعة".
أثناء عمله علي الترجمة، حصل ستيوارت علي نسخة من الرواية كما نشرت في الأهرام مسلسلة، والتقي نجيب محفوظ مرات عديدة لبحث ما استغلق عليه من الرواية، أو ما سقط من جمل وعبارات من طبعة الأهرام. عندما سأل ستيوارت محفوظ عن مخطوط الرواية.. أجابه: "لقد سلمته لـ"الأهرام" تمهيدًا للنشر، ولم تتم إعادته، فاستنتجت ضياعه، ولم أسأل عنه". أدركت بحكم معرفتي بمحفوظ أن إجابته كانت دبلوماسية، لأنه يتحدث عن النسخة التي تم تبييضها وتسليمها للنشر، وليس عن مسودات الرواية أثناء كتابتها والشطب والتعديل فيها، لكن حصاد ستيوارت من محفوظ لم يكن كله دبلوماسيًّا، فقد طرح العديد من الأسئلة والإشكاليات علي محفوظ، (خاصة الإشكاليات الدينية والرمزية)، ورد محفوظ عليه بتساؤل محدد: ما الذي يثير غضب الرأي العام من الرواية؟
طرح ستيوارت ثلاث نقاط:
1-تجسيد الأنبياء روائيًّا.
2-موت الجبلاوي كمعادل لموت الإله عند نيتشه.
3-محاكاة القرآن حيث تنقسم الرواية إلي 114 فصلًا (عدد سور القرآن).
ضحك محفوظ، قائلًا: "أعوذ بالله".. سأوضح لك الأمر: "الرواية بالمقدمة 115 فصلًا، هذا تقسيم لم يكن في ذهني أثناء الكتابة، كان في ذهني أن تكون الرواية من خمسة فصول رئيسية، أما التقسيم داخل الفصول فتم بعد أن انتهيت من الرواية، استخدمت الأرقام لتقطيع الفصول إلي أقسام أصغر (شابترز) لمجرد تسهيل القراءة ليس إلَّا، وسور القرآن تحمل أسماء لا أرقام، كما أنها متفاوتة الطول"، أما القول بتجسيد الأنبياء، فهو أمر مرفوض من معظم رجال الدين، وفي كل الأديان، وقد تعرض كازنتزاكس لهجوم شديد بسبب روايته "المسيح يصلب من جديد"، هم لا يريدون أن يتصوروا أن الأنبياء بشر مثلنا، يأكلون ويشربون، وردي عليهم من القرآن: "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق". ورغم ذلك أنا لم أكن أقصد الأنبياء في روايتي، قاسم ليس النبي محمد، هو شاب ينتمي إلي قاهرة القرن التاسع عشر، ليس شابًّا من مكة ينتمي إلي القرن السابع"، أما ما يتعلق بالجبلاوي، فالماركسيون هم الذين تصوروا في نقدهم أنني أدعو إلي موت الإله، والجبلاوي بالعقل ليس هو الله المطلق الخالد، وإنما هو الإله في أذهان بعض البشر، لا يمكن أن أُمَثِّل الله بشيء لأنه ليس كمثله شيء"، واختتم محفوظ إجابته لمترجمه قائلاً: "بالعكس، عندما انتهيت من الرواية شعرت أنني وجدت إيماني".
القضايا الروحية، لم تكن بعيدة عن عالم محفوظ كما يري استيوارت في مقدمته للترجمة: "فحتي في زقاق المدق التي نشرت عام 1947، نجد الشخصيتين الرئيسيتين هما رضوان الحسيني الذي وطأ أحزان الدنيا بنعليه، وطار بقلبه إلي السماء، وأفرغ حبه علي الناس جميعًا"، و"الشيخ درويش" الذي "هجر أهله وإخوانه ومعارفه إلي دنيا الله" وبالمثل، فإن محفوظ في الأعمال التي نشرها منذ 1959، عاد مرة بعد مرة إلي موضوعات الوهم والحقيقة والهلوسة والتنوير الصوفي، وتجلي ذلك بوضوح في قصة "زعبلاوي" التي تعد بمثابة مذكرة الكاتب التفسيرية لشخصية "الجبلاوي".
تعددت النقاشات طوال أيام الترجمة، وفي كل لقاء يكشف محفوظ بعضًا من مصادر إلهامه. قال محفوظ إنه تأثر في الرواية بجورج برنارد شو تحديدًا في مسرحيته "العودة إلي متوشالح" التي تتضمن خمسة فصول عن تاريخ البشرية: "إنه الكتاب الغربي الوحيد الذي يمكن إقامة علاقة بينه وبين أولاد حارتنا". و متوشالح كما هو معروف ابن النبي إدريس وجدُّ النبي نوح، توفي عن عمر يناهز الـ 969، قبل سبعة أيام من بداية الطوفان، وكتب »برنارد شو» مسرحيته عام 1921 .
أنهي ستيوارت ترجمة الرواية في تلك الفترة المحدودة، وقدمها للجامعة، ثم تزوج وانشغل بدراسته الجديدة، ثم سافر عام 1967 إلي الجزائر باحثًا لمدة سبع سنوات، وعاد مرة أخري إلي أكسفورد عام 1975. في أوكسفورد التقي المستعرب روجر آلان، تحدثا عن نجيب محفوظ، واخبره أن الجامعة الأمريكية حصلت علي حقوق ترجمة روايات محفوظ، وسألني: "هل أقبل أن أمنحهم حق الترجمة؟". يقول ستيوارت: "أجبته: إن دار هاينمان تفكر في سلسلة عن الأدب العربي وأنني قد منحتهم حق نشر ترجمتي".
وأضاف ستيوارت: "صدرت الترجمة عام 1981 في طبعة محدودة، لم تبع سوي 400 نسخة طوال ثماني سنوات حتي حصول محفوظ علي جائزة نوبل. قبل ستة أسابيع من إعلان الجائزة، طلبت الجامعة الأمريكية شراء الحقوق من هاينمان التي قبلت. ولكن الجامعة نسيت شراء الحقوق من دار Three »ontinents Press التي طلبت مني إصدار طبعة أمريكية، وكانت فرصة لإجراء مراجعة للنص، وتصحيح بعض الأخطاء التي وقعت فيها واستخدمت في هذه الطبعة كلمة "فتوة" كما في الأصل العربي - بدلًا من " strongman . يضيف ستيوارت: "في عام 1996 بدأت في مقارنة طبعة بيروت بنص الأهرام، في البداية كان يبدو لي العمل مملًّا ورتيبًا، ولكن بداية من الفصل الثالث وجدت جملًا وكلمات كثيرة سقطت من طبعة الأهرام، كما أن طبعة بيروت فقدت العديد من الجمل".
يوضح ستيوارت في المقدمة التي كتبها للترجمة الإنجليزية لأولاد حارتنا أنه كان هناك 961 اختلافًا بين النص الذي نشرته الأهرام ونص الرواية الصادر عن دار الآداب، وهي تمثل ما يقرب من 1241 كلمة ناقصة بخلاف آلاف الاختلافات في علامات الترقيم. واستنتجد ستيوارت أن طبعة دار الآداب اعتمدت علي المخطوط الأصلي: "ربما باعه أحد من الأهرام لدار الآداب" كما يقول. لأن طبعة الأهرام بها العديد من الكلمات التي سقطت في أثناء عملية الكتابة، كما أن طبعة الآداب بها فقرات كاملة محذوفة. لذا، النصان غير مكتملين. محفوظ أبدي غضبه من طبعة دار الآداب، "ناقصة. ولم أشارك في مراجعتها" كما قال. الترجمة الإنجليزية قد تكون هي النص الوحيد المكتمل للرواية بعد مقارنتها بالنصين، فضلًا عن مراجعة محفوظ بنفسه، ومساعداته في الترجمة التي وصفها محفوظ في رسالة إلي استيوارت:" إنك جدير بكل شكر، أولًا لترجمتك الرواية بأسلوب شهد له كل من قرأه بالجودة والجمال، وثانيًا بكتابة هذا المقال الجيد" المقال الذي كتبه استيوارت قرأه محفوظ وأعجب به.. وقال في الرسالة: وقد قرأت مقالتك، وأعجبت بفكرتها، ووجدت فيها حلًّا موفقًا بين من اتهموا روايتي بالإلحاد ومن وصفوها بأنها عمل صوفي. وأعجبني كذلك متابعتك لأصلها عند برنارد شو، وهذا يتفق مع إعجابي به وبعمله الكبير "الرجوع إلي متوشالح" بصفة خاصة. ولعل الدكتور محمد مندور كان الناقد الوحيد الذي ألمح إلي مثل هذه الفكرة عندما قال عني أني نقلت فكرة تقليدية عن الله دون تعرض لله ذاته".
2
لا شيء في الخزانة البيروتية
ولا "الأهرامية"
* ما ذكره ستيوارت عن "مخطوط" الرواية، دفعنا لسؤال رنا إدريس ابنة الكاتب سهيل إدريس صاحب دار الآداب، فأحالتنا إلي والدتها السيدة عايدة إدريس التي شهدت نشر الرواية في الدار: "الرواية نُشرت من تجميع الدكتور سهيل إدريس لما نُشر في جريدة الأهرام، ولا نملك المخطوط الأصلي وبموافقة نجيب محفوظ الذي رفض التوقيع علي عقد إلَّا أننا نملك جميع الإيصالات الموقعة من قبله بأنه استلم حقوقه كاملة من دار الآداب منذ الطبعة الأولي".
* توجهت إلي قسم المعلومات والأبحاث بالأهرام، وحصلت علي وسيلة اتصال بأحد العاملين بالقسم في تلك الفترة، وكان الأستاذ أبو السعود إبراهيم رئيس القسم الأسبق، الذي التحق بالعمل في "الأهرام" عام 1965 أي بعد نشر "أولاد حارتنا" بحوالي ست سنوات كاملة، وقلت ربما يكون قد صادف المخطوط في الأرشيف، ولما سألته قال: "طوال فترة عملي بالأرشيف لم أشاهد أي مخطوطات لروايات نجيب محفوظ.. عادة كانت الأصول تذهب إلي قسم التصحيح، ثم إلي صاحب العمل نفسه ليراجع المراجعة النهائية، ولم يحدث أن جاءت روايات محفوظ إلي قسم المعلومات طوال فترة عملي". أبوالسعود قام أيضًا بتصنيف مكتبة الأستاذ هيكل ووثائقه، وعلي خبرة ومعرفة كبيرة بما تضمه المكتبة من وثائق ومراجع، وكان ذلك مناسبًا لأسأله عن إمكانية وجود المخطوط لدي الأستاذ المغرم بجمع الوثائق، فأكد أبو السعود أن "مكتبة الأستاذ هيكل لا تتضمن أي أصول لروايات محفوظ التي نشرت أثناء رئاسة الأستاذ للأهرام".
هل يمكن أن يكون الرئيس جمال عبد الناصر قد حصل علي المخطوط لقراءة الرواية أثناء نشرها، خاصة أنه سأل محمد حسنين هيكل عن حكاية الرواية وسبب الضجة حولها؟ سألت سامي شرف سكرتير الرئيس عبد الناصر لشئون المعلومات فأجاب: "عبدالناصر كان حريصًا علي قراءة كل ما كتبه نجيب محفوظ، لكنه لم يقرأ مخطوط الرواية، قبل نشرها، لكنه قرأها مسلسلة كما نشرت في الأهرام، وهو الذي أعطي تعليماته باستكمالها رغم غضب الكثيرين الذين أرسلوا مذكرات احتجاج ضد الرواية". سألته عن المحتجين هل كانوا فقط رجال الدين؟
فجر شرف المفاجأة: "لا، هناك مثقفون، وسياسيون، أرسلوا مذكرات احتجاج، وتقارير ضد الرواية، لا تزال هذه التقارير موجودة في أرشيف رئاسة الجمهورية في قصر عابدين، كما كان المشير عبد الحكيم عامر غاضبًا من الرواية، وقد رفض عبد الناصر اتخاذ أي إجراء ضد محفوظ بسبب الرواية".
سألته: هل هو الذي سمح بنشرها إلي النهاية.. أم كان قرار محمد حسنين هيكل منفردًا؟ أجاب شرف: "هيكل لم يكن يتصرف من دماغه، كل من كان يكتب في الأهرام كان باتفاق مع عبد الناصر وتوجيهاته، حتي المعارضين الذين كتبوا سمح لهم عبد الناصر بذلك، مجلة "الطليعة" كانت فكرة عبد الناصر، وهو الذي سمح لنجيب محفوظ أن يكون من كتاب الأهرام، ويكون له مكتب دائم هناك".
في كتاب "النميمة" كتب الروائي الراحل سليمان فياض عن عادل كامل أحد حرافيش نجيب محفوظ.. قال فياض: إنه شاهد مخطوط "أولاد حارتنا" في مكتب كامل قبل أن تنشر في الأهرام. سألت: الفنان جميل شفيق أحد أقدم أعضاء شلة الحرافيش، نفي شفيق أن يكون محفوظ قد أطلع الشلة علي مخطوطات أي من أعماله قبل نشرها، أو تحدث في أي مرة عن مخطوطاته: "كان لديه أسراره الخاصة التي يحرص عليها"
سألته: هل تضمنت مكتبة الراحل عادل كامل أية مخطوطات لمحفوظ؟
أجاب شفيق: بعد أن قرر عادل كامل الهجرة، كتب لي توكيلًا خاصًّا للتصرف في أعماله، وقد حصلت بموجب هذا التوكيل علي كل مخطوطات مؤلف "مليم الأكبر"، وقد طلبها مني الروائي سليمان فياض ومنحتها إياه، وكان من بينها رواية كاملة غير منشورة بعنوان: "الله والجسد والشيطان".. ولكن لم يكن من بين أوراق كامل أي مخطوطات لمحفوظ.
3
"أنا ملك التمزيق"
هكذا وصف نجيب محفوظ نفسه في إحدي جلسات "الحرافيش". عندما سألوه عن أوراقه، ومخطوطاته، أوضح لهم أنه مرت عليه فترة كان يجمع فيها كل ما يكتب عنه أولًا بأول، بعد حين كان يرجع إلي ما جمعه يقلب فيه، فيجده مكررًا بشكل أو بآخر، فأصبح يمزق كل ما يأتيه أولًا بأول خشية أن يمتليء البيت بالأوراق المعادة، ثم راح يمزق الباقي تدريجيًّا بعد أن عجز عن ترتيبه. أضاف بحسه الساخر: "أنا ملك التمزيق، كلما تراكم عندي كوم من الأوراق لا أعرف ما بها، هات.. شرمط شرمط، وإلا فإننا لن نجد مكانًا ننام فيه (...) كنا دائمًا نسكن في المسكن الذي نجده، وليس المسكن الذي نريده، فلم يكن هناك مكان أحتفظ فيه بمخطوطاتي (...) ثم إيش عرفني إني حاكون في يوم من الأيام مهم، ومخطوطاتي حيكون لها قيمة؟!".
لم يحتفظ محفوظ بمخطوطات رواياته، ولهذا السبب، لم نتعرف أبدًا علي النص الأصلي لروايتيه "الكرنك" و"الحب تحت المطر"، بعد نشرهما ناقصتين، الأولي قدم أصولها لمحمد حسنين هيكل عام 1972 لينشرها في "الأهرام"، ولما قرأها اعتبر أنها تهاجم عهد عبدالناصر، فأخذ الرواية إلي مكتب توفيق الحكيم، وقال له مستنكرًا: "يرضيك كده.. خد شوف نجيب باعت لي إيه"، وبعدها قدم محفوظ روايته إلي "مكتبة مصر" لنشرها، وحكي القصة لرجاء النقاش كالآتي: "كان الأسلوب المتبع في ذلك الوقت أن تقوم دار النشر بجمع الرواية وإرسالها إلي الرقابة. وكان الرقيب - آنذاك - هو طلعت خالد، وكان يداوم علي الاتصال بي تليفونيًّا بصفة شبه يومية ليطلب حذف فقرة أو تغيير جملة أو يبدي اعتراضًا علي رأي معين. وهكذا إلي أن تم طبع الرواية، فاكتشفت أنه تم تشويهها، وأن الأصل مختلف تمامًا عن النسخة التي طبعت وظهرت في المكتبات، واعترضت وطلبت من السحار وقف عملية النشر، ولكنه أقنعني أن الرواية طبعت، وإذا أردت أن أوقف النشر فلا بد من أن أتحمل التكاليف المادية. وهكذا سلمت أمري إلي الله ووافقت علي ظهور الرواية بهذا الشكل المشوه". يضيف محفوظ: "كان الرقيب يحاسبني علي الكلمة، والفاصلة، وحذفت من الرواية المكتوبة مثل الحجم الذي نشر". ويبقي السؤال: أين ذهبت أصول الرواية؟ هل يمكن أن تكون موجودة في أقبية مبني الرقابة حتي الآن؟ أم لدي أسرة السحار ناشرة نجيب محفوظ في تلك الفترة؟
ما حدث في "الكرنك" حدث أيضًا مع "الحب تحت المطر"..التي اعترض عليها لويس عوض المستشار الثقافي لـ"لأهرام"، وكذلك أحمد بهاء الدين رئيس التحرير وقتها الذي قال لمحفوظ: "الرواية تتناول الجيش والمجندين، الذين لا يهتم بهم أحد وبالتالي فهي تتدخل في أمور من شأنها الإضرار بنا جميعًا"..وكان من رأي بهاء أن الأهرام هو الأكثر توزيعًا، لذا نصح محفوظ بنشر الرواية في مكان آخر، لتنشر الرواية بالفعل في مجلة الشباب، بعد أن حذف الجزء الخاص بالجبهة كاملًا، لتضيع ملامح الشخصية الأساسية ولم يعد الناس يعرفون سر الغضب والإحباط الذي يبدو علي مجموعة من المجندين الذين حطمت حرب الاستنزاف طموحاتهم في الحب والزواج والعمل.
يقول محفوظ: "أصبحت الرواية المنشورة كأنها طائر كسير الجناح ليس له سوي جناح واحد، فلم نعرف حياة المجند حتي نبرر السخط والغضب". كانت "الكرنك"، و"الحب تحت المطر" - كما يقول محفوظ: " العملين الوحيدين اللذين ظهرا بهذه الصورة الناقصة، حيث يختلف الأصل إلي حد ما عن الصورة التي ظهرت للناس، وللأسف ليس عندي أصول الروايتين لأعيد نشرهما كاملتين من جديد".
4
"كنز محفوظ"
تقطعت أمامي سبل البحث التي خططت لها، ولم يبق من الناحية النظرية أي أمل للعثور علي مخطوطة لأديب كان يتخلص بنفسه من أوراقه ومخطوطاته، بل ووصف نفسه بـ"ملك التمزيق"، فقد تقصيت كل الاحتمالات ما عدا بيت محفوظ نفسه، وهو البيت الذي ظل منغلقًا علي عوالم العائلة، ولم يكن للأديب فيه نصيب يُذكر، فحواراته ولقاءاته في المقاهي ومكاتب الوظائف التي عمل بها، حتي إنه قال ضاحكًا ذات مرة: لا أعرف شيئًا في البيت، حتي في مكتبتي، حتي إنني إذا احتجت إلي مراجعة كتاب ما، أثق أن لديَّ نسخة منه، فالأفضل والأسرع ليس أن أبحث عنه، بل أشتري نسخة جديدة.
مع ذلك دفعني الأمل المستحيل المتبقي، إلي الاتصال ببيت الأديب الكبير، وردت ابنته هدي، وبعد تعريف وتوضيحات، سألتها: هل لديكم أي معلومة عن المخطوطة الأصلية لرواية "أولاد حارتنا"؟
قالت هدي علي الفور: "ليس لدينا مخطوطات ولا معلومات عن "أولاد حارتنا" غير ما تعرفه أنت وما نشرته الصحف.. ليس لدينا في البيت إلا مخطوطة عمله الأخير "الأحلام".
استمر الحوار والنقاش: أين أجد...؟، من يكون...؟، هل تعلمين...؟، وبعد وقت من الأسئلة صمتت هدي قليلًا ثم قالت: انتظر، لقد تذكرت أن لدينا صندوقًا صغيرًا يتضمن أوراقًا قديمة احتفظت بها أمي، لست واثقة أنها كتابات أدبية، لأنها أوراق مختلفة ومتناثرة.
تمسكت بخيط الأمل، وحددت معها موعدًا لتفقد ما بداخل الصندوق الغامض، وفي الموعد المحدد التقينا، قدمت لي صندوقًا من الكرتون يشبه ملفات الأرشيف ولكن بحجم أكبر، ولما فتحته سقطت بطاقة انتخابية باسم نجيب محفوظ منسوبة لجمعية الأدباء، وعقد مع إحدي شركات الإنتاج السينمائي، ورسائل ومكاتبات وظيفية بخط اليد، وأوراق مسطورة غير مرتبة، لما أمسكت إحداها وقعت عيني علي اسم "عمر الحمزاوي".
ربما تكون هذه الورقة أول الخيط في العثور علي المخطوطة المفقودة، صحيح أن الحمزاوي بطل رواية "الشحاذ"، وليس "أولاد حارتنا"، لكن المفاجأة أن هذه أول ورقة يعثر عليها ناقد أو "باحث أدبي" بخط محفوظ تتضمن نسخة الكتابة الأولي لرواياته، ليس فقط "البروفة" الأخيرة بعد "التبييض"، لكن بروفات مراحل العمل، وتطور الصياغة بما فيها من شطب وتعديلات.
سألت السيدة هدي: ألا توجد أوراق أخري في أي مكان؟
قالت: لا أظن، هذا كل ما لدينا، وهو تصرف نادر من تصرفات أمي التي لم تكن تحب الاحتفاظ بالأوراق القديمة، وخاصة أن الروايات صدرت وأصبحت في متناول الجميع.
قلبت الأوراق بتركيز، ووجدتها خليطًا من أكثر من عمل، فهذه ورقة بها اسم سرحان البحيري، وأخري "زهرة" أو "مصطفي المنياوي"، وشعرت بإحساس هيوارد كارتر، وهو يجلس علي باب مقبرة "توت عنخ آمون" بعد أن عثر بالمصادفة علي الخبيئة العظمي، حيث كان يقوم بحفريات عند مدخل النفق المؤدي إلي قبر الملك رمسيس الرابع في وادي الملوك، لاستكمال بحث البعثات السابقة عن آثار الملوك: سيتي الأول، وأمنحتب الثاني والثالث، وتحتمس الرابع، ولم يكن في علمه أن يعثر علي أول مقبرة كاملة لفرعون مصري، والتي قادته إليها "درجة سلم منحوتة في الصخر" مثل الورقة التي قرأت فيها اسم "عمر الحمزاوي"!
حصلت علي نسخة كاملة من الأوراق، وعكفت علي فرزها وترتيبها، حتي حصلت علي نسخة كاملة من مخطوطة رواية "الشحاذ"، ثم واصلت الفرز حتي انتهيت من ترتيب نسخة من مخطوطة "ميرامار"، مع نثرات من أعمال أخري غير مكتملة، ولم يكن هناك أي اثر لأولاد حارتنا.
لكن العثور علي هذا "الكنز" كان تحولًا في مسار رحلة البحث، فمن حسن الحظ، أننا لم نفقد كل مخطوطات محفوظ، الذي أكد في أكثر من حوار أنه ألقي بالبروفات الأولي لروايات كثيرة في"سلة القمامة" قبل أن تصبح "نصًّا نهائيًّا"، لكن السيدة زوجته ساهمت في وصول هذا الكنز إلي عشاق محفوظ قبل أن تلحق به في عالم الخلود، والطريف أن محفوظ في أخريات حياته اندهش من تصرفها عندما شاهدها تجمع بعض الأوراق ولا تتخلص منها، فلم تجد شيئًا تبرر به ما فعلت فقالت له: "ربما، نحتاجها في يوم ما".
هكذا تذَكرَتْ هدي محفوظ، وهكذا أتاحت لنا الصدفة، أو بالأدق أتاح لنا الأمل العسير فرصة العثور علي "الكنز المحفوظي"، بكل ما يتيحه ذلك للنقاد من دراسات جديدة ومختلفة علي تاريخ النص وتطور الشخصيات وأسلوب الكتابة عند صاحب "الثلاثية".
5
طقوس الكتابة..
علاقة محفوظ بنصوصه وشخوصه
تكشف لنا المسودات، الكثير من شخصية نجيب محفوظ، هو يكتب بالقلم الرصاص، رغبته في المحو، ربما أكبر بكثير من الإثبات، يكتب علي ورق "فلوسكاب" مسطر، كان يشتريه من إحدي مكتبات وسط القاهرة بكميات كبيرة، لم يكن البيت يخلو منه، وفي حوار معه أوضح أنه لم يكن يبدأ عملًا إلا بعد أن تكون الفكرة قد اكتملت في ذهنه، ونضجت تمامًا، لا يبدأ الكتابة إلا وهو يعرف أبعاد القصة من أحداث وشخصيات.. "أمتلك تخطيطًا ذهنيًّا للرواية قبل الكتابة، لكن الكتابة ليست مجرد تنفيذ لهذه الخطة لأن الكتابة هي عملية الكتابة ذاتها، الخطة فكرة عامة جدًّا، أما الكتابة فهي الرواية، وتبدأ بـ"معركة إعادة الخلق" وهي مرحلة تكوين "الصورة الميدانية للعمل"، وفي هذه المرحلة، مهما يكن العمل مكتملًا قبل الكتابة، فإن هناك دائمًا تعديلات وإضافات تأتي من "وحي القلم".. ولهذا الوحي أثره البالغ بما يمكن أن تأتي به عملية الكتابة من إضافات أو تعديلات أو موازنات علي ضوء ما تم وتصورات ما يجب أن يكون".
التغيرات يجريها محفوظ في هامش الصفحة، وفي معظم الأحيان في الجانب الآخر من الصفحة ذاتها، إذا كانت التغيرات كثيرة. أي أن الصفحة الواحدة تشهد "مسودتين" للعمل.
في تلك المرحلة يكتب: "بسرعة واندفاع، كل ما يخطر علي بالي، وبأية لغة: عربي، عامي، إنجليزي.. زي ما تيجي". أثناء الكتابة الأولي يكون "حرًّا تمامًا"، لا يتنازل عن حريته، حتي في اللغة التي تبدو في البروفة الأولي جريئة غير مهذبة.
بعد أن ينتهي من الكتابة الأولي تبدأ مرحلة "التشطيب" كما وصفها مستخدمًا لغة المعمار. الكتابة الأخيرة، كتابة مستقرة، يكتبها محفوظ علي نوع الورق نفسه، ولكن بالقلم الحبر، ودائمًا ما كان يفضل القلم "باركر". في تلك المرحلة لا مكان للشطب، إذا حدث وكشط كلمة واحدة، فإنه يعيد كتابة الصفحة من البداية، وهذه المرحلة النهائية قد تستغرق عامًا أو أكثر. المقارنة بين "المسودة" الأولي للعمل، وصورته الأخيرة يكشف ذلك الحس النقدي العالي لدي محفوظ. في المرحلة الأولي، والموهبة وحدها تعمل، ثم يأتي النقد الذاتي بالتوازي مع الموهبة!
كانت "الثلاثية" استثناء في تجربة نجيب محفوظ، هي الرواية الوحيدة التي قام بعمل أرشيف مستقل لكل شخصية من شخصياتها.."كل شخصية لها ما يشبه الملف، حتي لا أنسي الملامح والبصمات" كما قال لجمال الغيطاني في "نجيب محفوظ يتذكر". موضحًا في حوار آخر: "لأني كنت موظفًا، وكانت ظروف عملي تجعلني أنقطع عن الكتابة لفترة ثم أعود إليها، ولأني أخشي أن أتكلم عن "أحمد عبد الجواد" وتكون عيناه سوداوين فأقول إنهما زرقاوان، ولأن الرواية كانت تضم كثيرًا من الشخصيات، فقد كنت أسجل الملامح النفسية والجسدية، ومثل هذه الأعمال الكبيرة لا بد أن يلجأ الكاتب فيها إلي مثل هذه الوسيلة، لأنه لا يستطيع أن يسترسل فيها هكذا".
كل الروايات التي تلت الثلاثية، كانت مكتملة في ذهن نجيب محفوظ قبل أن يكتب، لهذا لم يكن في حاجة إلي ملفات لكل شخصية من شخصياته الروائية. وخاصة أنه يري "الثلاثية" هي آخر رواية كتبها، أما بقية أعماله التي تلتها فلم تكن - من وجهة نظره - سوي قصص طالت.. يقول في ندوة مجلة "الفكر المعاصر" (العدد 43- سبتمبر 1968): "لم أكتب رواية بعد الثلاثية أي بعد عام 1952، فأولاد حارتنا شكل أشبه بالملحمة منه إلي الرواية.. واللص والكلاب، والطريق والشحاذ... إلخ، قصص قصيرة طويلة، فضلًا عن القصص القصيرة التي جمعت في كتب دنيا الله، وبيت سيئ السمعة، وخمارة القط الأسود، هذا يعني أنني منذ عام 1952 وأنا في حالة استطلاع ومتابعة وتلفت وسط عالم سريع التغيير.. تعذر عليَّ مواجهته برواية، أي تعذر عليَّ الانعزال عنه مدة طويلة تكفي لكتابة رواية، إذ إنه كان يدق علي الباب كل صباح وكل مساء فوجدتني أقدر علي مواجهته، ومتابعته بالأعمال المركزة القصيرة التي تناسب الرحالة لا الرجل المستقر".
في تلك القصص الطويلة، لم يكن محفوظ في حاجة إلي سجل أو ملف لشخصياته، كما فعل في الثلاثية، لم يكن يمسك القلم ليكتب هذه الأعمال إلا وكانت الفكرة: "متبلورة" في ذهنه، الشخصيات والأحداث والبداية والنهاية، وكل ذلك مسجل في "فهرست"، وهي طريقة شرحها في حوار مفصل مع مجلة "فصول" قال فيه: عندما أقرر مثلًا أن أكتب عن شخصية فإني أتصورها في موقف من المواقف.. قد يكون أول تصور لموقفها هو ختام الرواية. وقد يكون جزءًا في الوسط، وقد يكون في البداية. وما يحدث هو أني أسجل جزئية في ورقة كي لا أنساها، ثم تنمو جزئية أخري تضاف إليها. أو يدخل في حياة هذه الشخصية شخصية أخري، وتظل تنمو وهي في صورة غير منتظمة. ثم أعيد ترتيبها حتي تصبح كيانًا متكاملًا. ولا يعني هذا أني عندما أكتبها ألتزم بالصورة الأولي، فكثيرًا ما تصبح شخصية ثانوية مهمة جدًّا لأنها فرضت نفسها. ويجوز جدًّا أن تتغير النهاية. وكل هذه الاحتمالات موجودة ولكني عندما أبدأ الكتابة أبدأ بتخطيط. هذا عن إعداد تخطيط للرواية قبل الشروع فيها. ولكني أحيانًا علي النقيض من ذلك أبدأ كتابة بعض الروايات من الصفر: بمعني أني عندما أبدأ الكتابة لا يكون في ذهني أكثر من الرغبة في الكتابة، فلا موضوع ولا مضمون ولا حدث ولا شخصية. وفي هذه الحالة فإن الكلمة الأولي هي التي ستؤدي إلي الثانية. فإذا بدأت مثلًا بكلمة "خرج فلان من بيته"، فالله وحده أعلم بما يأتي بعدها. والحقيقة أن التجربة كلها اكتشاف يؤدي إلي اكتشاف، يؤدي إلي آخر حتي تنتهي الرواية، وقد تنتهي إلي شيء ترتاح إليه النفس. وقد تُمزَق".
6
كيف كتب محفوظ الشحاذ؟
المفتتح
"البداية دائمًا هي الأصعب" هكذا يقول نجيب محفوظ، "فالجملة الأولي في العمل الروائي هي التي تحدد امتداد النص، ونطاقه، ونبرته، وإيقاعه، وأسلوبه"، والتعبير الثاني لماركيز.
لهذا توقفت عند مفتتح رواية "الشحاذ" أول مخطوط متكامل انتهيت من ترتيبه وسألت: كيف كان يفكر محفوظ في الجملة الأولي لرواية "الشحاذ"؟، وما مراحل تطور هذا التفكير من الانطباع الأول وحتي الصياغة النهائية؟
الرواية تبدأ بوصف محفوظ للوحة معلقة علي جدران عيادة الطبيب الذي يذهب لاستشارته عمر الحمزاوي، يتبدي من الوصف، أن محفوظ يتمتع بحس تشكيلي عالٍ، يرسم لوحته لكن بالكلمات: أبقار، وطفل يمتطي جوادًا خشبيًّا، وأفق ينطبق علي الأرض، كأننا في سجن لا نهائي، ورغبة في الطيران والانعتاق. اللوحة المفتتح تتوزع تفصيلاتها فيما بعد بدقة وعناية في كثير من مشاهد الرواية. لذا هي أشبه ما تكون بالرواية مضغوطة في جملة أو في لوحة. في السطور الأولي تتبدي حيرة عمر الحمزاوي الذي يسأل: لمن اللوحة الكبيرة يا تري؟"، وهي حيرة تمتد فيما بعد في كل الرواية، التي تتوالد فيها الأسئلة، حتي سطرها الأخير: "إن كنت تريدني حقًّا فلم هجرتني؟". حيرة باحث عن سر الوجود، عن معني للحياة، ولكن "ياله من سجن لا نهائي"!
مدخل الرواية، أو سطورها الأولي تكشف اهتمام محفوظ بالفن التشكيلي. وهو اهتمام مبكر، في أواخر العشرينيات تقريبًا، قرأ للعقاد مقالًا عن الفنان المصري محمود سعيد، الفنان الذي ترك القضاء من أجل الفن، فاستجاب لنصيحة العقاد وبدأ التردد علي معارض الفن التشكيلي ليكون ملمًّا بالفنون الأخري. بدأ محفوظ بقراءة كتب عن تاريخ الفن، اختار منها واحدًا بعنوان Outline of Art يحكي تاريخ الفن التشكيلي من الفراعنة وحتي بيكاسو.. يقول محفوظ: "أذكر أنني مع صباح كل يوم جديد أفتح الكتاب علي لوحة فنية جديدة تكون هي لوحة يومي هذا، أقرأ كل شيء عنها وعن الفنان الذي أبدعها، ففي يوم تكون لوحتي هي الطاحونة الحمراء لتولوز لوتريك وفي يوم آخر تكون زهور عباد الشمس لفان جوخ، أو حاملات القرابين من معبد حتشبسوت".
جملة محفوظ الأولي في النص النهائي المنشور: "سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق".. عندما نرصد ما اعتراها من تغيرات في مسودات الرواية سنجد أنها كانت في البداية: "سحب متقطعة، ومكدسة في الأفق"، ثم تحولت في البروفة الثانية: "سحائب ناصعة البياض تسبح في بحيرة زرقاء".
الكلمتان الرئيستان في الجملة الأولي أصابتهما تغيرات عديدة: (سحب - سحائب)، كما أن "البحيرة" أصبحت "محيطًا". للتعبير عن الامتداد اللا محدود، الكثافة العميقة المتراكمة للسحب، بهدف الإظهار أو الإبراز. وهو ما ينقل المزاج السائد في الرواية.
إذا تجاوزنا الجملة الأولي، إلي فقرة البداية كلها، سنقرأ لها اقتراحين كتبهما محفوظ في مسوداته.. قبل أن تصبح نهائية، فقد كان المدخل في المسودة الأولي كالتالي:
"سحب متقطعة، ومكدسة في الأفق، وخضرة منبسطة في الأرض، وبقر يرعي، بقر ينضح بالصحة والعافية والجمال، من أي بلاد؟ وطفل فوق جواد خشبي عند الحافة القريبة، يتطلع إلي المنظر في دهشة، إلي ما ينظر الطفل ولماذا يغري الأفق بما وراءه؟ ولمن اللوحة في الإطار الذهبي من خشب الزان؟
وهو يجلس في حجرة الانتظار وحده، يشارك الطفل في تطلعه، ولم يبق علي موعد الدكتور إلا دقائق، والجرائد والمجلات فوق المنضدة لا يري منها بوضوح إلا صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال. أنت تتسلي باللوحة والأفق، استهواه المنظر حقًّا، رغم أنها صورة لتزيين الصالونات لا قيمة لها. الطفل سعيد حقًّا إلا إن كانت سعادته كالطلاء، ومن يستغرقه الأفق والسحب قد يسعد وقد يشقي ولكن من يدريه وهو لا يري عينيه. أما البقر فلا يبالي شيئًا. أما أنت فما أثقل الجفون. لماذا تتكدس السحب. ولماذا ينطبق الأفق؟ لماذا ينطبق الأفق فوق الأرض؟ سجن ولكنه لا يقف عند حد، وحتي الذي يقف عند الأفق، حتي الطفل وضع رسمًا عند الأفق فينظر إلي أفق؟ وماذا عما وراء الأفق.
وهذه الحركة في الصالة الخارجية تبشر بقدوم الطبيب. أجل ها هو التمرجي قادمًا
- تفضل.
أما في المسودة الثانية فقد تغيرت البداية كالتالي:
"سحائب ناصعة البياض تسبح في بحيرة زرقاء، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعي تعكس أعينها طمأنينة راسخة، وليس ثمة علامة تدل علي وطن من الأوطان، وفي أسفل الصورة طفل يمتطي جوادًا خشبيًّا ويتطلع إلي الأفق عارضًا جانب وجهه الأيسر، وفي عينيه مسحة غامضة. لمن اللوحة الكبيرة التي لا يري عليها أي إمضاء؟ ولم يكن بحجرة الانتظار أحد سواه وعما قريب يأزف ميعاد الطبيب الذي ارتبط به منذ عشرة أيام. وتبعثرت فوق المنضدة جرائد ومجلات وتدلت صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال، فراح يتسلي بالنظر إلي لوحة المرعي. ارتاح إليها رغم أنها صورة لا قيمة لها إلا إطارها المذهب المزخرف بتهاويل بارزة. وأحب الطفل اللاعب المتطلع والأبقار المطمئنة، وازدادت شكواه من ثقل جفونه وتكاسل دقات قلبه، والطفل ينظر في الأفق، والأفق ينطبق علي الأرض، دائمًا ينطبق علي الأرض، ولو انتقل الطفل إلي الأفق لرأي الأفق وهو ينطبق علي الأرض، فياله من سجن لا نهائي. وما شأن هذا الجواد الخشبي ولمَ تمتلئ الأبقار بالطمأنينة الراسخة؟
ولفتت سمعه في الخارج حركة أقدام ثابتة، ثم ظهر التمرجي عند الباب وهو يقول بأدب: تفضل.."
الاقتراحان الأوليان تحولا في النص النهائي المنشور إلي:
"سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق. تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد. وأبقار تعكس أعينها طمأنينة راسخة. ولا علامة تدلُّ علي وطن من الأوطان. وفي أسفل طفل يمتطي جوادًا خشبيًّا ويتطلع إلي الأفق عارضًا جانب وجهه الأيسر وفي عينيه شبه بسمة غامضة. لمن اللوحة الكبيرة يا تري؟... ولم يكن بحجرة الانتظار أحد سواه. وعمَّا قريب يأزف ميعاد الطبيب الذي ارتبط به منذ عشرة أيام. وفوق المنضدة في وسط الحجرة جرائد ومجلات مبعثرة، وتدلت من الحافة صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال. رجع يتسلي بلوحة المرعي. الطفل والأبقار والأفق. رغم أنَّها صورة زينة رخيصة القيمة ولا وزن إلا لإطارها المذهب المزخرف بتهاويل بارزة. وأحب الطفل اللاعب المستطلع والأبقار المطمئنة ولكن ازدادت شكواه من ثقل جفونه وتكاسل دقَّات قلبه. وها هو الطفل ينظر إلي الأفق ينطبق علي الأرض، دائمًا ينطبق علي الأرض من أي موقف ترصده، فيا له من سجن لا نهائي. وما شأن هذا الجواد الخشبي؟، ولم تمتلئ الأبقار بالطمأنينة؟
لفت سمعه في الخارج حركة أقدام ثابتة، ثم ظهر التمرجي عند الباب قائلًا: تفضل".
تأمُل المقاطع الثلاثة، يكشف لنا التغيرات التي أجراها محفوظ علي نصه، وهي تغييرات لضبط الإيقاع اللغوي للنص. والإمساك بعبارة أكثر إحكامًا، ووضوحًا ودلالة، في أقل عدد ممكن من الكلمات.
البداية، التي يقصد محفوظ أنها الأكثر صعوبة في النص، لا يعني بها الفقرات الأولي في العمل الروائي، بل كان يتعامل مع كل فصل من فصول الرواية باعتباره نصًّا منفصلًا، بداية جديدة. هو ما يتضح بمقارنة بسيطة بين النص في شكله النهائي، ومسوداته الأولى.
يبدأ الفصل الثاني: "الوجوه تتطلع إليه مستفسرة. حتي قبل أن ترد تحيتك. حنان رقيق مخلص ولكن ما أفظع الضجر. الحموضة التي تفسد العواطف الباقية. ولاحت من ورائهم الشرفة الكبيرة المطلة علي النيل من الدور الرابع. وتبدي عنق زوجتك من طاقة فستانها الأبيض غليظًا متين الأساس، واكتظت وجنتاها بالدهن وقفت كتمثال ضخم مليء بالثقة والمبادئ".
أما في المسودة فقد كانت بداية الفصل كالتالي: "ها هي الوجوه تتطلع إليك مستفسرة. حنان ولكن ما أشد الضجر. وقفوا جميعًا أمام الشرفة المطلة علي النيل في الدور الرابع، زوجته في فستان أبيض، كبرميل أبيض، سمينة، شبعانة، راسخة في كل شيء".
هنا يغير محفوظ الضمائر داخل النص، يتحول ضمير المخاطب في المسودة إلي ضمير الغائب. وتتبدي أيضًا مقدرة محفوظ نفسه علي البحث عن جمل مكثفة متناسقة مشحونة بالتوتر، حتي وإن أضاف إليها. يحذف "كبرميل، سمينة وشبعانة" وصفًا للزوجة، وهي كلمات لا تتناسب مع رؤية محفوظ للغة الموحية، يستبدل هذا الوصف المباشر، بوصف العنق، والوجنتين!
وعلي هذا المنوال يسير نجيب محفوظ طوال فصول الرواية. يبدأ الفصل الثالث: "من الآن فصاعدًا أنت الطبيب. فأنت حر. والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق"... بينما يبدأ الفصل في المسودة: "الرجيم الاختياري ليس بالكدر الذي تخيله أحيانًا. أنت الطبيب".
ويبدأ في الفصل الرابع: "ولكن الاضطراب غطي علي السعادة المؤقتة. وهذا إحساس عاصف كأنه نوع من الذعر. وثمة جيشان يرعي الصدر لم يقربه منذ عشرين عامًا".
بينما في المسودة: لماذا سكنك الذعر كمجنون؟ وهذا الجيشان الذي لم تعرفه منذ ربع قرن. ثمة دموع لم تذرف. أنت حزين؟ أنت فرحان؟ هل مزيجهما هو الذعر".
يبدأ الفصل الخامس بعبارة: "في ضوء الشمس الغاربة تبدت أنيقة وقورًا، رغم اكتناز جسمها الطويل، المفصح عن شبع مثير ورفاهية محنقة، ما كان أرق جمالها".
بينما كان في المسودة: "في ضوء الشمس الغاربة تبدت أنيقة وقورًا، رغم امتلاء جسمها الذي يقاربه في الطول الدال علي شبع مثير ورفاهية محنقة. كانت جميلة وهي في هذه اللحظة وهي آخذة زينتها البسيطة، جميلة رغم الامتلاء والوجنتين الممتلئتين ونظرتها الخضراء الجادة، تبدو أيضًا جميلة بقدر ما هي غريبة. امرأة رجل آخر، رجل الأمس الذي لم يكن يعرف التعب أو الفتور، الذي نسي التفكير في نفسه".
أما الفصل السابع فيبدأ في النص المنشور:
كلما رأيتك كثيرًا ازددت شهوة، وكلما ازدادت شهوتي زاد لهيبي
- يا لها من أغنية متفجرة! من المغنية؟
- مارجريت.. نجمة "باريس الجديدة"
في المسودة.. لا تتغير كلمة الأغنية.. ولكن يقول عمر:
يالها من غنوة
ويجيبه مصطفي: هذه مارجريت!
تبدو كلمة "غنوة" وكأنها كلمة عامية، لذا استبدلها بالبديل الفصيح لها "أغنية".. وكان محفوظ أحد الرافضين استخدام العامية في قصصه ورواياته، رغم هجوم بعض النقاد عليه بأن ذلك يُبعد أعماله عن "الصدق الفني". وقد استند في رفضه لاستخدام العامية لرؤيته أن الفصحي هي الأداة الأساسية للثقافة العربية، وهي مفهومة من الجميع، وكل من يقرأ ويكتب في العالم العربي يستطيع أن يقرأ اللغة الفصيحة، ولكنه لا بد أن يجد صعوبة كاملة في قراءة اللهجات العامية الكثيرة المتعددة. وحسب رجاء النقاش: "استطاع محفوظ بدرجة عالية من النجاح الفني أن يحافظ في حواراته علي الذوق الشعبي، فاللغة ليست ألفاظًا فقط، ولكنها روح للألفاظ: وهذه الروح هي التي تعطي لألفاظ اللغة شخصيتها وحيويتها. ولغة نجيب محفوظ هي لغة فصيحة، ولكنها تلبس جلبابًا شعبيًّا يجعل منها لغة ذات مذاق خاص، هي لغة نجيب محفوظ وحده (...) علي أن نجيب محفوظ قد احتفظ في لغته الفصحي السهلة بشيء أهم من ذلك كله هو خفة الظل المعروفة عن العامية المصرية، كما أن في لغة نجيب محفوظ ما في العامية المصرية من حيوية وحركة سريعة وإشارات موجزة وتلميحات ذكية نطلق عليها في مصر لفظ الحداقة.
السطور الأولي للفصل الخامس عشر أصابها التغيير كذلك: "العودة إلي البيت دون تغيير، لا كراهية لزينب ولا حب لها. واختفاء الكراهية دليل علي اختفاء زينب نفسها. ودليل علي انتصار نهائي علي دنياها وانتصار الغربة الزاحفة.
بينما كانت هذه السطور في المسودة الأولي: "ها هو قد عاد إلي بيته دون تبدل، لم يعد يكره زينب، ولكنه لا يحبها ولعل عدوله عن الكراهية هو الدليل علي أنها لم تعد تشغل في حياته أي حيرة، فحتي صراع العواطف لم تعد تثيره".
القفلة
كما كانت البداية بالنسبة لمحفوظ "صعبة"، كانت النهاية أو "القفلة الروائية" كذلك. وهو ما يبدو واضحًا، في المسودات المتعددة التي كتبها محفوظ لفقرة النهاية، وإعادة العمل عليها مرات ومرات. يختتم محفوظ "الشحاذ" بعبارة: "إن تكن تريدني حقًّا فلم هجرتني؟". وتمثل الجملة خلاصة كل الأفكار التي دارت حولها الرواية.
لم يكن محفوظ يخطط أن يختتم الرواية بتلك الجملة، كانت بصيغة أخري في المشهد قبل الأخير، قبل أن يأتي البوليس لإلقاء القبض علي عثمان كتب محفوظ في المسودة الأولي: "واستلقي علي الحشائش ومد إلي الآخر ذراعيه. وهامت في قبة النجوم عيناه. وواتاه مع النسيم المتلاحق شعور بطيء ومؤكد بالطمأنينة والارتياح. ومضي قلبه الأجوف يمتلئ بالثقة. وشعر بأنه سيحدث الحدث. وأن يدًا تمتد إلي الباب لتفتحه. وأن صوتًا يتردد في الخفاء. وهتف في ضراعة. ألم يهجر عبدك كل شيء من أجلك؟ فامتلأ صدره بالصوت وهو يقول: "لماذا يبتعد عني من يريدني"!
وضع محفوظ في البروفة الأولي للرواية خطًّا وقوسين تحت الجملة الأخيرة. ليصبح مدخل الفصل الأخير في الرواية: "استلقيت علي ظهري فوق الحشائش، رانيًا إلي الأشجار الراقصة بملاطفات النسيم في الظلام، انتظر وإن طال الانتظار. وإذا بأقدام تقترب وصوت يهمس: مساء الخير يا عمر". تتحول الضمائر هنا إلي"ضمير متكلم" بدلًا من المخاطب كما في المخطوط الأول للرواية. بل إن هذه الفقرة بأكملها لا وجود لها في النص النهائي للرواية.
ستتحرك الجملة إلي نهاية النص لتصبح نهاية الرواية في بروفتها الأولي بعد أن تلقي الرصاصة.
- ما هي إلا دقائق حتي نجد الطبيب.
- لن يستطيع الشيطان خداعي.
- اهدأ وسنجد الشفاء..
- رقصت الحية وعملت العقرب ممرضة.
ها هو الشعور بأن حدثًا سيحدث، وأن مولودًا سيولد، وأن صوتًا سيسمع. وتساءل: ألم يهجر عبدك كل شيء من أجلك؟ فارتفع صوت في صدره هامسًا: "لماذا يبتعد عني من يريدني"!
في البروفة الثانية ( قبل النهائية): "
- اهدأ، سيراك الطبيب بعد دقائق..
- لا حاجة بي إلي إنسان..
- لا تجهد نفسك بالكلام.
فقلت بإصرار: لقد تكلمت الصفصافة ورقصت الحية وغنت الخنافس. وأغمضت عينيَّ حتي لا أري شيئًا. ولم يسكن الألم. وتساءلت متي ينهزم الشيطان؟ متي أري وجهك؟ ألم أهجر كل شيء من أجلك؟ وشعرت بالوثبة التي تبشر بالنصر، وشاع في صدري شعور غامر بالسعادة، وعاودني الإحساس الباهر الذي سبق الرؤيا ساعة الفجر بالصحراء. وقال صوت كأنه صادر من أعماقي وكأنه يهبني الجواب عما أسأل عنه: إن تكن تريدني حقًّا فلم ابتعدت عني؟!"
أما في النص النهائي المنشور:
خامره شعور بأن قلبه ينبض في الواقع لا في الحلم، وبأنه راجع في الحقيقة إلي الدنيا. ووجد نفسه يحاول تذكر بيت من الشعر، متي قرأه وأي شاعر غناه؟ وتردد الشعر في وعيه بوضوح عجيب: إن تكن تريدني حقًّا فلم هجرتني؟!
إذن في جملة النهاية، حدثت ثلاثة تغيرات، وهو ما يعكس - طوال النص - معاناة محفوظ في البحث عن اللفظة المناسبة.
- لماذا يبتعد عني من يريدني؟
- إن تكن تريدني حقًّا فلمَ ابتعدت عني؟
- إن تكن تريدني حقًّا فلم هجرتني؟
لم يكن الخلاف فقط في صياغة جملة النهاية أو تحديد مكانها داخل النص. بل أيضًا قائلها. في المسودة الأولي، نجد أن صوتًا غامضًا يتردد في الفضاء نطق بها، بينما ينصت له عمر في غيبوبته. في البروفة الثانية: يتحول الصوت الغامض إلي صوت صادر من أعماقه (عمر)، ولكنها في النص النهائي وردت كأنها بيت شعر قديم تذكره عمر ولا يعرف من الشاعر. حتي الرصاصة التي تلقاها عمر أثناء مطاردة البوليس لعثمان، اختلف تأثيرها بين مسودات الرواية.. ونصها النهائي. في المسودة الأولي: "اخترقت الرصاصة الكتف، ولعلها استقرت في الصدر".. كما يخبر العساكر عمر بعد القبض عليه ووضعه في سيارة الترحيلات، بينما في النص النهائي نجد أن الرصاصة: "اخترقت الترقوة ولكنه جرح سطحي".
اللغة
بين البداية والنهاية، تبدو معركة محفوظ الفنية داخل الرواية، مع اللغة بالأساس، كأنه من كتاب الجماليات، لا الأفكار، وفي حوار له قال: "أكبر معركة خضتها كانت مع اللغة، فقد بدأت وأنا أظنها كما تعلمناها في المدارس مجرد قوالب مقدسة نضعها علي موضوع فتسير، لهذا تجدني في الروايات الفرعونية تأثرًا بأسلوب القرآن وتعبيراته وأنا أكتب عن الفراعنة.. وعندما بدأت أكتب الرواية الواقعية اصطدمت بالواقع.. وبطريقة لا شعورية وجدتني أدخل في معركة كيف أطور هذه اللغة لتلائم الموضوع.. وهي معركة طويلة. أعتقد أنه لم تخلُ رواية من رواياتي من التوفيق والفشل المتعاقبين فيها".
في "الشحاذ" يتبدي ذلك الصراع، لا يخلو سطر تقريبًا من اختلاف مع النص النهائي. لنتأمل نماذج من هذه التغيرات:
في الفصل الأول يدور حوار بين الطبيب وعمر الحمزاوي:
يقول الطبيب: أرأيت لا شيء بك، ولكن إسرائيل علي الحدود.
فيجيبه عمر: عند الإهمال سيدهمنا الخطر الحقيقي!
تحول هذا الحوار في النص النهائي:
الطبيب: حسن، لا شيء بك تقريبًا، ولكن العدو رابض علي الحدود.
عمر: كإسرائيل؟
الطبيب: وعند الإهمال سيدهمنا الخطر الحقيقي!
هنا يتبدل الحوار كلية، تتبدل الأماكن بين الطبيب وعمر!
في الفصل التاسع من الرواية يتحدث عمر إلي نفسه:
"وزميلك المحامي الكبير قال لك في مكتبك:
- تتراءي هذه الأيام أنيقًا أكثر مما ينبغي لمحامٍ قدير ناجح؟
- فقلت ضاحكًا: وأقل مما ينبغي لمحامٍ سعيد..
- ونظرت إليه بريبة جديرة برجل ماجن عشيق ولكنه سرعان ما غير الحديث راجعًا إلي حديث السياسة المفضل عنده فسأله:
- ماذا يفعل الناس في هذه الأيام؟
- فأجبت دون مبالاة بالسياسة:
- إنهم يبحثون عن النشوة.
- ولم يفهم. إنه زير نساء ولست كذلك. لست ماجنًا ولا عابثًا. ولكن من ذا يفرق بين قاتل وعابد أو يصدق أنك تقيم للعربدة معبدًا؟
هذه الفقرة كانت في البروفة:
"وقال له صديقه رئيس المحامين في النادي:
- تتراءي اليوم أنيقًا أكثر مما ينبغي لمحامٍ قدير ناجح.
- فقال وهو يضحك "وأقل ما ينبغي لمحامٍ سعيد. وسأله عن الأخبار فقال بتوكيد: الناس بجنون تبحث عن نشوة.
وأنت تعلم أن ذلك الرئيس زير نساء ولست كذلك، وليكن معلومًا أنك ليس كذلك".
أعاد محفوظ صياغة هذا الحوار، تغيرت الضمائر فيه، أصبح "رئيس المحامين"، "المحامي الكبير".. ربما ليتجنب محفوظ فيما بعد أن يصف "الرئيس" بزير نساء!
وفي الفصل العاشر يدور أيضًا حوار بين عمر وبثينة. يطلب منها أن تقرأ بعض أشعارها. تجيبه: لا جديد. يقول لها: ولكن معشوقك لا يكف عن الإلهام.
في المسودة الأولي يدور الحوار بشكل آخر:
- هل أطلعتني علي آخر أشعارك؟
- لا جديد.
- هل الله يتدلل عليك يا ابنتي؟!
علي طول الرواية نجد هذه التغيرات..لا يوجد سطر واحد فيها نجا من هذا التغيير، تغيرات بهدف "صنفرة" للغة، أو تنعيمها، تخليصها من الشوائب والزوائد البلاغية المترهلة، يسعي محفوظ من هذا التغيير إلي لغة إيحائية، محددة وواضحة، أكثر توترًا، تومئ ولا تكشف، ما يقربها من الشاعرية، وخاصة أن بطل الرواية كان شاعرًا في بدايات حياته، كما أن كثيرًا من حوارات أبطال الرواية تتناول التصورات المختلفة للشعر والفن في عصر العلم.
محفوظ كتب الشعر في بداياته. في لحظات الحيرة والشك فيما يكتب، توقف عن الكتابة، واتجه إلي الشعر المنثور.. يقول لعبد الله الطوخي في (صباح الخير 21 ديسمبر 1961): "كتبت ديوانًا بأكمله من الشعر الحر، لا يزال عندي إلي الآن ومستعد لأن أريه لحجازي وصلاح عبد الصبور ليعرفا أني أول من كتب الشعر الحديث".
وفي معركته مع العقاد التي دارت وقائعها علي صفحات مجلة الرسالة 1945، قال العقاد إن القصة ليست من خيرة ثمار العقول، فرد عليه محفوظ بأن: "حكم العقاد علي القصة حكم مزاج وهوي لا حكم نقد وفلسفة". ووصف محفوظ الرواية بأنها "شعر الدنيا الحديثة"، وهذه التسمية تكشف عن وجهه الشعري الذي لازم أعماله الروائية: "فالأدب الذي لا يرتقي إلي مرتبة الشعر- حتي لو لم يكن منظومًا- ليس من الأدب في شيء" كما قال في واحد من حواراته.
في "الشحاذ" يكتب عمر الحمزاوي الشعر.. يقرأ له صديقه مصطفي المنياوي قصيدة "كتبها قبل أن ينبذ الشعر نهائيًّا، وهي تقطع بثورته علي العقل".. ورغم غضب عمر من تذكر القصيدة.. إلا أن مصطفي يقرأها:
لأنني لم ألعب في الهواء / ولا سكنت في خط الاستواء
لم يستهوني شيء إلا الأرق
وشجرة لا تنثني للعاصفة
وبناء لا تطرف له عين
وقد اختلفت القصيدة عن المسودة الأولي في الرواية إلي حد كبير.. كانت كالتالي:
لست من مؤيدي الهواء
لم أسكن في الواق واق
لم يستهوني يومًا إلا الأرق
شجرة اجتاحتها العاصفة
وبناء لا تطرف له عين
في الرواية علق عثمان صديقهما الثالث - لم أفهم شيئًا. وقال عمر: "أنا لم أقل شعرًا كنت أهلوس تحت تأثير حال مرضية. نجيب محفوظ نفسه قال لرجاء النقاش: "في رواية الشحاذ كتبت بعض الشعر علي لسان بطل الرواية، وقال لي دكتور عبد القادر القط - آنذاك- إنه كان ينبغي أن أستعين بأحد الشعراء لكتابة هذه الأشعار".
البناء
بنية الرواية تكون واضحة في ذهن محفوظ قبل أن يبدأ الكتابة: هندستها، شخصياتها، حركة الشخصيات داخل النص، نموها، ومصائرها، بل إنه يحدد طبيعة حواراتهم قبل أن يبدأ، وهو هنا أشبه بلاعبي الشطرنج العميان الذين يلعبون في الفراغ الذهني (Blindfold chess) يلعب بدون رقعة أو أحجار، وإنما يحرك "بيادقه" في الذهن، وهو الأمر الذي يتطلب مهارات غير عادية، وقدرة علي الخيال الهندسي الصارم.
ذات مرة سئل محفوظ: ما سر هذه الهندسة الصارمة التي تتبدي في نصوصك الروائية؟ فأجاب: لا تنسَ أني حفيد المهندسين العظام الذين أنشأوا الأهرام والذين بنوا المعابد في الجنوب.
لم يختلف البناء الفني للرواية بين المسودات الأولي، والنص النهائي المنشور. لا تغيرات حادة بخلاف التغيرات اللغوية. محفوظ أشار كثيرًا إلي أنه لم يكن يبدأ كتابة العمل إلا بعد أن يختمر في ذهنه، وكذلك الشخوص: "أنا أكتب الموضوع كتابة أولي غير متمهلة، وشبه عفوية، ولكني لا أبدأ الكتابة إلا بعد اختمار الفكرة في نفسي، وكذلك الشخوص، ثم أعيد كتابتها بتأنٍّ من أولها إلي آخرها، وفي الكتابة الثانية تتغير تغيرًا كبيرًا، ولكن الفكرة لا يصيبها التغيير إلا في أضيق الحدود". كانت "الشحاذ" في تخطيطها الأولي تتكون من 18 فصلًا، ولكن في نسختها النهائية أصبحت 19 فصلًا، أي زادت فصلًا. كان الفصلان 12، 13 فصلًا واحدًا في المخطوط، ولكن تم فصلهما، ربما أراد محفوظ بهذا الفصل ضبط إيقاع الأحداث. في الفصل الثاني عشر من الرواية المنشورة، يلتقي عمر الحمزاوي بمارجريت، يدور بينهما حوار في استراحة الطريق الصحراوي عندما تطلب منه مأوي خاصًّا بهما. أجابها بغموض، بعد أن اقتنع بأنه لا جدوي من الاستمرار في العلاقة: كلَّا. تقول له: أنا لا أرتاح لمغامرات الطرق، فيوصلها للفندق بدون أن ينطق بكلمة. ويبدأ الفصل التالي بجملة عمر: "نشوة الحب لا تدوم ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر".. ولكن عمر يدخل في علاقة أخري مع راقصة جديدة سمراء أعجبته رشاقتها، تعمل في الملهي الليلي نفسه الذي تعمل به مارجريت، وهكذا يخرج كل ليلة مع فتاة جديدة، ثم يدخل في نقاش مع صديقته "وردة" لينهي العلاقة بينهما بشكل نهائي بعد أن دار بينهما حوار عن الحب والرغبة.. ثم يسألها محمومًا:
- والله ما موقفك منه؟ أجيبيني من فضلك يا وردة.
تجيبه:
- أومن به.
- بيقين؟
- طبعًا.
- من أين جاء اليقين؟
- إنه موجود وكفي.
لكن في مخطوط الرواية، كان هناك الكثير من التفاصيل التي استغني عنها محفوظ، قبل أن يصل إلي صيغة النشر النهائي، فعندما تطلب مارجريت أن يكون لهما بيت: أليس من الأفضل أن يكون لنا مأوي؟
يهز عمر رأسه بالإيجاب، لكنه عند العودة "وجد شكًّا في احتمال أن يراها مرة أخري، وقال لنفسه سأري إن كنت حقًّا كما يظن الغريب مجرمًا مغرمًا بالنساء"، وعندما يعود إلي وردة يجدها نائمة، ويبدأ التفكير في الزواج منها ولكنه يطرد الفكرة من دماغه: "وسخر من نفسه من فكرة طرأت عليه مرة وهو في ذروة سعادته وهي أن يتزوج من وردة، وبلغ به الشوق مرة أن أوشك أن يمضي إلي بيته، ولكنه عدل عن فكرته في آخر لحظة. وفي كل ليلة كان يشحن سيارته بامرأة من أحد الملاهي وأحيانًا يفعل ذلك لمجرد الصحبة فقط، وطرأت عليه فكرة غريبة ذات مرة وهو ثمل، وهي أن يشق جسد المرأة بسكين من العنق حتي أسفلها لعله يجد بداخلها ما يبحث عنه، لا بد من حدوث شيء، هو البديل للجنون أو الموت". يستمر السرد، ويلتقي وردة مرة أخري لتطلب منه الانفصال: "قررت أن أهجر هذا السجن".. هذه الجملة تتحول في النص المنشور: "إني ذاهبة".. ينفصلان، ثم يلتقيان مرة أخري لتقول له: "لا يجب أن تأسف علي ما فات".. ثم بنبرة ساخرة تقول: "تجربة الحب ثمينة ولو بالعذاب"!
التكثيف
وكما استغني محفوظ عن بعض التفاصيل داخل النص، استغني أيضًا عن بعض الشخصيات الهامشية، التي كانت موجودة في المسودات الأولي للنص. الشخصيات هامشية وغير مؤثرة تقريبًا في أحداث الرواية. من ضمن الشخصيات التي استغني عنها محفوظ شخصيتا شقيقة عمر الحمزاوي، وخاله. الخال منحه محفوظ اسم المستشار حسين كرم، يظهر مع الشقيقة في مشهد وحيد، قرب نهاية الرواية، عندما يقرر عمر أن يغادر البيت بحثًا عن علاج. تقول له زينب: اذهب إلي أي مكان حتي تسترد راحتك النفسية ثم عد إلينا. يقول عمر: ربما حدث ذلك ولكن من الأفضل أن نوطن النفس علي ذهاب لا رجعة فيه. ثم تدعو زينب صديقيه: عثمان ومصطفي للاجتماع به.. ويدور بينهم حوار طويل حوار رحيل "عمر"!
يكتب محفوظ في مسودة الرواية: "واجتمع في بيته - إلي أسرته - خاله وشقيقتاه، وعثمان خليل ومصطفي المنياوي".. تبدأ زينب في الحديث: لا أدري شيئًا عما وقع، وقد علمتم بأطواره المتتابعة، فإن أكن أنا السبب أو المسئولة فمن الخير أن أذهب إن يكن في ذلك العلاج"!
هز عمر رأسه نافيًا.. وتحدث خاله المستشار حسين كرم: لعلها حالة نفسية، ولكنها ستستفحل بالوحدة. وأين تذهب؟ ولماذا لا تعرض نفسك علي طبيب نفساني مثلًا.. ولكن علينا جميعًا أن ندافع عن حياة ضخمة ما يتهددها من عوامل الهلاك..
فقال عمر: لا خوف علي أسرتي.. فلديها المال، ولديها زينب وهي أساس متين جدير بأن يقوم عليه بنيان ضخم".
لا تنطق الشقيقة بأي جملة في مخطوط الرواية، وربما لهذا وجد محفوظ أنها لن تسهم في الأحداث بشيء وكذلك الخال الذي يحذف نهائيًّا ليقتصر الحوار علي الصديقين مصطفي وعثمان، وبثينة وزينب!
لم يمنح محفوظ شقيقة عمر اسمًا في النص، كان ذلك غريبًا، وخاصة أن محفوظ كان حريصًا أن يحمل كل أبطال الرواية أسماء بمن فيهم تلك الشخصيات غير المؤثرة، التي لا تنطق. في المخطوط تحدث عن "المربية" المسئولة عن تربية ابنته الصغيرة جميلة.. لم تحمل المربية اسمًا في البروفة الأولي، ولكنه منحها في النص النهائي اسم "أم محمد"!
الحوار
في الشحاذ يتضاءل السرد، ليعتمد محفوظ بشكل أساسي علي الحوار بين أبطاله لعرض الأفكار والمواقف، عمر الحمزاوي طرف رئيس في كل حوارات الرواية. كما اعتمد بشكل أساسي علي حوار الذات أو التداعي الحر، كان محفوظ يهدف إلي تقديم المحتوي النفسي للشخصية الرئيسة داخل الرواية دون اعتبار لتسلسل الزمن الخارجي.
في كتابه: "طرائق تحليل السرد الأدبي".. ترجمة: (الحسين سحبان وفؤاد صفا) يري الناقد الفرنسي الشهير تزفيتان تودروف: أن هناك نمطين رئيسيين من أنماط السرد هما: التمثيل أو العرض والحكي، فالتمثيل أو العرض يتحققان بالحوار، أما الحكي فيتحقق بالقص والسرد: "نشعر بأننا أمام أفعال حينما يكون النمط المستخدم هو التمثيل أو العرض، بينما يختفي هذا الشعور حينما يكون المستخدم هو الحكي. وكلام الشخصيات الروائية يتمتع في عمل أدبي ما، بوضع خاص، إنه كلام يتصل كما هو شأن كل كلام، بالواقع الذي تتم الإشارة إليه".
من خلال الحوار يكسر المؤلف رتابة السرد، وهو ما يمنح الشخصية مجالًا للتعبير عن رؤيتها من خلال لغتها المباشرة، فتعكس وجهة نظرها من خلال حوارها مع الآخرين ومع الذات. وقد أدي تقليص دور السرد إلي ارتفاع أهمية الحوار في بناء الشخصية والتعبير عن أفكارها وتحديد علاقتها بغيرها من الشخصيات، ويؤدي ذلك أيضًا إلي دفع القارئ إلي المشاركة في التأويل. فعل ذلك محفوظ بدوافع عديدة وضحها في واحد من حواراته (المصور8 نوفمبر 1969): "المجتمع وتطوراته يقودنا إلي ما يمكن أن نسميه بالأدب الفكري حيث لا يكون البطل هو الشخص الخاص المحدد وإنما البطل هنا هو الشخص العام الذي هو الإنسان في قضاياه الكلية والرئيسية، وهذا الانسان العام لا يصلح للرواية التي تقوم علي الوصف والسرد وإنما يصلح للقصة التي تقوم علي التفكير والحوار، وهي ما أسميه بالقصة الحوارية". رغم اهتمام محفوظ بالحوار داخل العمل، إلا أنه يعي أنه يكتب عملًا روائيًّا، لذا يحاول إحداث توازن بين الحوار والسرد، لذا يحذف حوارات مطولة بين أبطاله كانت موجودة في المسودة الأولى للعمل.. واختفت في النص النهائي. ربما يكون الفصل السادس في الرواية أكثر الفصول التي تعرضت لتبديلات وتغييرات كثيرة، إذ حذف محفوظ حوارات مطولة بين عمر ومصطفي، حوارات عن المرض، والحب، والشعر، وزينب.. ولكن هذه الحوارات تسربت في السرد في فصول أخري!
وبخلاف الحوارات القصيرة، هناك علي الأقل ثلاثة حوارات طويلة حذفها.. مثلًا في نهاية الرواية يدور حوار طويل بين عمر وعثمان.. اختصره محفوظ إلي أقل من النصف في النص النهائي.. ومن أمثلة الحوارات المحذوفة:
- ماذا فعلت أنت بنفسك يا طفيلي؟
- ليكن من أمري ما يكون، لقد نذرت نفسي للهلاك، ولكن هل تترك بثينة؟ دعني أخبرك بما لم تعرف.. لقد أقنعت زينب ببيع أملاكك ورهن البعض.. لم آخذ لنفسي مليمًا، ولكني وهبت كل شيء للقضية.. إنهم في حاجة إليك.
- كل هذا كذب.
- إنه الصدق الأليم الجارح.
- كذب وتطفل.. ولكني سأصل ومت موتًا.
- أصغ إليَّ، يجب أن أهرب، ويجب أن تذهب.
- لن يخيفني رأسك ويحل محله رأس سمير.
- اللعنة.
- ثم يتضاءل جسمك وتحل فوقه رأسك.
- اللعنة.. لن يسعني أن أبقي أكثر من ذلك.
- اختفِ في السحاب وسوف يطلع علي وجهك مرة أخري ولكني سأنتصر.
- لست عدوك..
- كما انتصر الحلاج وهو يستشهد..
وهزه بعنف.. فقال:
- كما تشاء.. سوف أحلم غدًا دون أن أري منكم أحدًا..
- يالها من رحلة خائبة رحلتي إليك.
- وكل من يعبث بأحلامي ستخيب رحلته.
وقال متأوهًا في أسف:
- أنت الجاني علي نفسك!
- وأنت الجاني علي نفسك!
- من ذا يتصور أنك الأستاذ الكبير عمر الحمزاوي حتي ولو تكن مؤثرًا الثراء والسلام علي الجهاد القديم.
- ومن ذا يصدق أنك وجه الله!
- ألا تصدق من اخترق الفضاء وقال إن الله غير موجود؟!
- ومتى تصدق أنت أنك غير موجود؟
- ها نحن نهذي معًا وأهلك في أشد الحاجة إليك.
- لا أهل ولا وطن ولا دنيا لي.
- أشهد أنني يئست منك، وإن يكن اليأس ليس في قاموسي.
- إذا يئس الشيطان مني، فهذا إيذان بأن النور سوف يشرق.
ونهض الرجل في الظلام، وقال وهو يهم بالابتعاد:
- أستودعك الله يا أخا الجهاد القديم، يا جدَّ ابني، يا من ارتضيت الموت وأنت حي.
- اذهب، ولتطهر أحلامي منك ومن كل متطفل حتي يتجلي البهاء وحده!
الفهرست
كثيرًا ما تحدث محفوظ عن "فهرست" لروايات، قاصدًا تلك الملاحظات الجانبية الصغيرة التي يدونها عن العمل قبل الكتابة أو أثناءها لتذكيره ببعض الأشياء. في الشحاذ، الملاحظات قليلة. جملة واحدة فقط في الصفحة الأولي من الرواية كتبها قبل أن يبدأ في الكتابة: "ملحوظة: الإشارة إلى حبل زينب في بعض أحاديث مصطفي عنها عند الهجر". كأنه يريد أن يذكر نفسه بتلك المعلومة الهامة للسرد. على مدى الرواية، لا نعرف شيئًا عن حمل زينب إلا قرب النهاية، عندما تلد "ولي العهد" الذي أطلقت عليه اسم "سمير"، عسى ألا يكون مثل أبيه ملولًا قلقًا، ويحميه اسمه من الضجر. في صفحات أخري يحتار محفوظ في كتابة اسم يازبك "صاحب ملهي كابري الذي تعمل به وردة، ومن قبلها مارجريت"، يضع له تصورات عديدة لكتابة الاسم في هامش المسودة: (يزبك، أزبك) وكأنها محاولة لتهجي الاسم الأجنبي.. ثم يستقر في النهاية على "يازبك"!
وفي حوار بين وردة وعمر:
يقول عمر: أنا آسف علي جميع ما كان يا وردة.
فقالت بنبرة صادقة: أما أنا فلست آسفة..
ثم بامتعاض:
وإن تكن تجربة معادة!
يضع محفوظ خطًّا أسفل الجملة الأخيرة. ويكتب ملاحظة في الهامش: "ألا تحتاج إلي تعليق إذا قالت له أنت أول حب"..
في النص المنشور يتغير الحوار:
- الحق.. إني آسف يا وردة.
فقالت وهي تبتسم ابتسامة غامضة:
لا يجب أن تأسف علي ما فات..
ثم بنبرة ساخرة: وتجربة الحب ثمينة ولو بالعذاب.
7
في 8 يناير 1965، بدأت جريدة الأهرام نشر رواية "الشحاذ"، مصحوبة برسوم تعبيرية للفنان يوسف فرنسيس، ومسبوقة بتقديم احتفائي من الدكتور لويس عوض المستشار الثقافي للأهرام والمشرف علي الملحق الثقافي، وقال في تقديمه إن الرواية: "ثورة فنية كبري".. بلغ فيها محفوظ نهاية الطريق أو قمة الجبل (...) حيث لا أمل بعد ذلك إلا في الثبات كالنجم المتلألئ الذي يختلج مكانه عاليًا (...) ما إن فرغت من قراءة "الشحاذ" حتي اهتزت نفسي بمعني واحد خطير: لقد ولدت في مصر"الرواية الجديدة"، لا الرواية علي غرار بروست، ولكن الرواية الجديدة التي تمشي اليوم جنبًا إلي جنب مع الموجة الجديدة في الفنون الأخري، فـ"الشحاذ" شريط كأفلام أنطونيوني.. تمزق "الموضوع" مثل كادرات روب جرييه، وناتالي ساروت، ومارجريت دورا... الشحاذ ثورة فنية كبري في الرواية المصرية".
ولأكثر من أربعين عامًا، منذ 8 يناير 1965، ظل المتاح بين أيدي قراء محفوظ من "الشحاذ" هو ما نشر في طبعاتها المختلفة، ولدي ناشريها المختلفين، لكن ظهور هذه الأوراق الجديدة يكشف لنا مقدار العناء الذي كان يتكبده محفوظ وقت الكتابة، مئات التعديلات التي أدخلها علي مسوداته الأولي، بروفات تكاد تتمزق من فرط ما أدخله عليها من حذف وإضافة وتعديل، بروفة أولي، وثانية، وأحيانًا ثالثة.. قبل أن يصل إلي "النص النهائي". هذه الأوراق، والمسودات قد تكون بداية قراءة جديدة، قراءة يجريها الباحثون والروائيون، قراءة للروائي بقدر ما هي للرواية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق