ريحٌ كاملةٌ قصيدة: أوكتافيو باث

alrumi.com
By -
0
ترجمة وإعداد: قيصر عفيف

هذه قصيدة في كتابٍ نشره الشاعر المكسيكي أكتافيو باث عام ١٩٦٥ في نيودلهي على ورق مصنوع باليد وطبع منه فقط ١٩٧ نسخة وقّعها الشاعر. وفي ذكرى ولادته المئوية اختارت اللجنة المشرفة على تكريمه إعادة طبع الكتاب كنسخة مصوّرة عن الطبعة الأولى لأن هذه القصيدة تعتبر من قصائدة المركزية. ولهذا السبب اخترنا أن ننقلها للقارىء العربي.
في الكتاب جاءت المقدمة التي كتبها الشاعر بعد القصيدة. ربما قصد أن يؤكد على أولوية الشِعر على شرح المعاني والمحاور والأصداء والرؤى. لكني اخترت في الترجمة أن أبدأ بالمقدمة لأنها تُنير فضاء النص وتساعد على الغوص في أبعاده ومعانيه.
اختار الشاعر أن تكون القصيدة سبْكاً واحداً. أما في الترجمة فرأينا أن نبدأ مقطعاً جديداً مع تكرار اللازمة التي يستهل بها الشاعر قصيدته: "الزّمان قائم أبدا" لأن الفكرة المحورية للنص، كما جاء في مقدمة الشاعر، إنما هي التأكيد على أنّ الزمان لا يتبدّل، بينما لوحاتُ المكان في تحوّلٍ لا يعرف الوقوف. ورأينا أيضا أن نضيف بعض الفاصلات التي لا وجود لها في النص أصلاً في محاولة المساعدة لفهم النص.
المترجم 
*
ملاحظة عامة
"هذه القصيدة هي تتابُعُ مناظرَ طبيعية، حالاتٌ ولحظات على طريقة "الرنغا"،وريثِ الهايكو الياباني. يكمنُ إيقاع القصيدة العام في أن المكان يتحرك ويتبدّل. بينما الزمان هو نفسه دائما. هذا هو محور القصيدة وإيقاعها الأساسي. فالمناظر والحالات التي تتعاقب في القصيدة تلمّح إلى رحلة حقيقية قمتُ بها إلى شمال الهند وأفعانستان. كلّ مقطعٍ منظرٌ طبيعي، أو حالةٌ، أو لحظةٌ من هذه الرحلة. فالمقطع الأوّل يشير إلى السوق في كابول، وخلفه الجبال والنهر الذي يقطع المدينة. ويشير المقطع الثاني إلى اليوم نفسه في سنة أخرى ومكان آخر، باريس، بين شارعين. والمقطع الثالث يُشير إلى اليوم نفسه في غرفة فندق في كابول. وُيشير طيرانُ الغربان الكثيف إلى قصيدة روبن داريو ويعيد إلى الأذهان صورة ما يحصل اليوم في سانتو دومنغو، وبتداعي الأفكار يُذكّرنا بما حصل في الهند منذ قرنين عندما كانت يبو سلطان في نهاية القرن السابع عشر يناضل ضد الإنكليز. نرى في المقطع الرابع الغرفة نفسها واليوم نفسه، أن اسم ثمرة التمر"داتيل" يذكرنا باسم Datia وأظنني أخبرتك بان داتيا هو اسم القصر أو القلعة في ولاية ماديا برادش الهندية وهو بناء هندسي شُيّد على الصخر وفيه ممرات ومتاهات متشابكة لو عرفها الماركيز دو ساد لأعجب بها. هذا المقطع يُشير إلى زيارة قمتُ بها إلى هذه القلعة التي أراها ذات آلية شهوانية وسادية. والمقطع الخامس يلمّح إلى مضيق سالانغ في جبال هندو كوش وهذا تماثلٌ بين فعْل الحب وهذا المنظر الطبيعي. ويُشير المقطع السادس إلى منظر طبيعي آخر تبدو فيه، بين أمور عدة، ضفاف نهر أُكسوس وموسيقى تنبعث من ناي أحد أبناء أوزبكستان من البدو الرّحّل (انهمرتْ هذه الموسيقى كنهرٍ خفيّ أنقى من نهر أُكسوس).قوارب النهر، مناظر باكتريا وآثارها اليونانية - البوذية، الصحراءُ وَقَسَمُ الحُبّ هذا: حتى أصير غباراً وريحاً بين عظامك. ويحاول المقطعُ السابع، وهو رؤية مسائية، أن يصهر الليل، الأشجارَ والنّجوم، الحشراتِ والوحوشَ مع المرأة في ضربة حظّ من الاكتمال الكونيّ: مادة أمومية، أمُّ الزمان، أمّ الأنظمة الشمسية والناس، وسلالات الكون التائهة. ويشير المقطع الثامن إلى زمان الحُب. فعلى الصعيد الشخصي إن الحُب بين البشر كما الحُبّ بين الآلهة يستغرقُ الوقتَ نفسَهُ. وحالاً تأتي رؤية الفتاة الحافية بالقرب من لاهور، رؤية غير زمنية وخاطفة ترتبط بفكرة الزمان الذي لا يتبدّل بل ينصهر مع منظر عددٍ من أشجار الحور تبدو في الأفق كـأنها تصعد وتنزل. وفي المقطع التاسع رؤية من طفولتي حلم حُبي الطفولي الذي يختصر القصيدة: فكرة المرأة كاتّحاد بين الماء والنار. فكرة العلاقة المستمرة بين الأمكنة المتحركة والزمان الثابت".

***
الحاضرُ قائمٌ أبداً
الجبالُ من عظْمٍ وثلج
كانت هنا منذ البدء
الريح ولدتْ للتّو
وهي مثل النُور ومثل الغبار
لا عُمْر لها
طاحونةُ أصواتٍ
يتلألأ السوق
أجراسٌ، محرّكات، أصوات راديو
هرولة حجريةٌ لحميرٍ كئيبة
أغنياتٌ وشكاوى متشابكة
بين لحى التّجار
لمعانٌ باذخٌ منحوتٌ بمطارق
تنفجرُ صرخاتُ الأطفال،
الأمراء في الأسمال،
على ضفَّة النهر المعذَّب
يُصلّون، يَبولون، يتأمَّلون

الحاضر قائمٌ أبداً
تُفتحُ أبوابُ السّنة
يقفزُ النهار
عقيق
العصفور الساقط
بين شارع مونتلامبر وشارع باك
إنها صَبيّة
متوقفة
عند هاوية النظرات
نعم، الماءُ نار
شُعلةٌ برّاقةٌ
في منتصف الساعة الدائرية
مُهرةٌ شقراء
حزمةٌ من شرارات
صبيّةٌ حقيقيةٌ
بين المنازل والأشباح من الناس
حضورٌ، فيضٌ من وضوح
وأنا، من خلال أعمالي الخيالية، رأيتُ
أخذتُها مِن يدها
وقطعنا معاً
الأمكنةَ الأربعة والأزمنةَ الثلاثة
شعوبٌ للانعكاسات الهائمة

٢١ حزيران

الحاضر قائمٌ أبداً
اليوم يبدأ الصيف
عصفوران أو ثلاثة
تخترع الحديقة
وأنتَ تقرأ أو تأكل ثمرة درّاق
على الغطاء الأحمر للسرير
عاريةً
كالخمر في الإبريق الزجاجي
طيرانٌ كثيفٌ للغربان
في سانتو دومنغو يموت إخوتنا
لو كان ثمة حديقة عامة لما كنتم هنا
نحن نقضمُ أكواعنا
في حدائق قصره الصيفي
زَرَعَ تيبو سلطان شجرة اليعقوبيين
ثم نَثَرَ قِطَعَ الزجاج
بين العمال الإنكليز المسجونين
وأعطى أوامره بأن تُقطع قلفهم
وُتؤكل
اشتعل القرن في أراضينا
ومِن نيرانه
ستأخذ الأيدي التي حرقها
لتشيّد الكنائس والأهرامات
وبيوتها الشفَّافة

الحاضر قائمٌ أبداً
والشمس تنام بين صدرين
للسرير غطاءٌ أحمر، أسود وينبض
ليس نجماً ولا حلى
إنما فاكهة
أنت تسميها " داتيل" أي التّمر
"واسمها"داتيا
قلعةُ الملح إذا أمكن
لوثةٌ قرمزية
على الحجر الصلب
ممراتُ شرفاتٌ، أدراج
غرفة زفاف العقرب مبعثرة
أصداءٌ تتكرر
شهوانيةٌ موقوتة
وقتٌ غير مناسب
أنت تجول
في الممرات الساكتة تحت المساء الكافر
وعلى كتفيك السالمتين مِعطفٌ مِن الإبر
نعم، النارُ ماء
وأنت نقطةٌ شفّافة
الصّبية حقيقية
شفافيةُ العالم

الحاضر قائمٌ أبداً
الجبال
شموسٌ مذبوحة
عاصفة حجرية من تراب أحمر
الريح تخرق
مؤلمٌ أن ترى
السماء هاوية أخرى، لكنها أعلى
حنجرة سالانغ
الغيمة السوداء فوق الصخرة السوداء
قبْضةُ الدم تضرب
أبواباً من الحَجَر
وحدها المياه بشريّة
في هذه الوحدات* المرمية
عيناكَ وحدها هي المياه البشرية
تحت
في المكان المصدّع
تغمرك الرغبة بجناحيها الأسودين
عيناك تفتحان وتغمضان
حيواناتٌ فوسفورية
تحت
في الممرّ الساخن
تتمدَّد الموجةُ وتنكسر
رجلاكَ مفتوحتان
القفزةُ البيضاء
رغوةُ أجسادِنا المهجورة

الحاضر قائمٌ أبداً
الناسكُ يسقي ضريح القدّيس
لحية كلّ منهما أكثر بياضاً من الغيوم
في مواجهة الأخلاق
في خاصرة السّيل
كرّرتُ اسمي
بعثرةُ مقاطع
أهداكَ مُراهقٌ ذو عيون خضراء
رمّانةً
وفي الجانب الأخر من "آمو داريا"
يطلع الدخانُ من البيوت الروسية الصغيرة
وصوت الناي الأزبكستاني
كان نهراً آخر خفياً، كان أنقى
كان النّوتيُّ في العبَّارة يخنق الدّجاجات
البلد يدٌ مفتوحةٌ
خطوطها إشاراتُ أبجديّةٍ مكسورة
في السهل هياكلُ عظميةٌ لأبقار
تمثالٌ مسحوقٌ جرثوميّ
التقطتُ من التراب عدّة أسماء
لهذه المقاطع الساقطة
حبّاتُ رمّانةٍ رمادية
أُقسِم بأني أرضٌ ورياح
طاحونةٌ على عظامك

الحاضر قائمٌ أبداً
يدخل الليل بكل أشجاره
ليلٌ من الحشرات الكهربائية ووحوش من حرير
ليلٌ من العشب يركض فوق الأموات
التقاءُ المياه الآتية من بعيد
تَمْتَمَات
الأكوان تتفكَّك
عالمٌ يقع
بذرةٌ تُحرق
كلُّ كلمةٍ تنبضُ
أسمعُ نَبَضَك في الظلّ
لغزُ على شكل ساعةٍ شمسية
امرأة نائمة
مكان، أمكنة حيّة

Anima Mundiروح العالم** 
مادة أمومية
نفيٌ دائمٌ عن الذات
وسقوطٌ دائم في أحشائها الفارغة
رُوح العالم
أُمّ سُلالةِ التائهين
من شموس وبَشَر
تُهاجر الأمكنة
الحاضر قائمٌ أبداً
على رأس العالم يتداعب
شِيفا وَبْرفَاتي***
كلُّ مداعبة تطول مدى قرن
من زمان الآلهة وزمان الناس
الزمان نفسه
السقوط نفسه
لاهُورْ
نهرٌ أحمر
قواربُ سوداء
بين شجرتي التّمرهندي
تقف فتاة حافية
لا زمان لنظرتها
وبين السماء والأرض
تتعلّقُ بعض شجرات الحَور
تهتزُّ من النُور أكثر من حركة أوراقها
أتراها تصعد أم تنزل؟

الحاضر قائمٌ أبداً
تُمطر على طفولتي
تُمطر على حديقة الحمَّى
زهورٌ من صوّان، أشجارٌ من دخان
على ورقة تين
تُبحرين على جبهتي
لا يبلّلكِ المطر
أنتِ شعلةُ المياه
نقطةُ النارِ الشفَّافة
مسفوحةٌ على جفوني
وأنا من خلال أعمالي الخيالية أرى

النهار نفسه يبدأ
يدور المكان
يقتلعُ العالمُ جذورَه
وأجسادنا المُمَدَّدة لا تَزِنُ
أكثرَ من الفجر.

***
هوامش من المترجم:
* في العربية نادراً ما نجمع كلمة "الوحدة والعزلة" لكننا آثرنا هناأن نتركها بصيغةالجمع كما جاءت في الأصل.
** جاءتفي النصّباللاّتينية، وهي العودة إلى فكرة أفلوطين والتي كانت سائدة في الهند أيضاومفادها أنّ الكونَبرمّته كائن حيّ وله عقلٌ يدبّر الكائنات.
*** شيفاأحد الآلهة في الثالوث الهندي المؤلف من (بْراهما) أو القوة الخالقة و(فشنو) أو القوة الحافظة و(شيفا) أو القوّة المدمرة.
برفاتي هي الإلهةُ الهندوسية التي ترمز إلى المحبة والأمومة والإخلاص وفي أحد تجسّداتها كانت زوجة شيفا.
***

المترجم قيصر عفيف: شاعر لبناني مقيم في المكسيك

رئيس تحرير مجلة الحركة الشعرية– تصدر بالعربية في المكسيك. سبقَ وأصدر ترجمةً لمختارات من الشاعر المكسيكي من أصل عربي خايمي سابينس، كما أصدر عدداً من الكتب والمجموعات الشّعرية.
القصيدة نشرت على صفحات الفايسبوك

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)