رامبو «أنا الآخر» في أيّامه الأخيرة بقلم شقيقته إيزابيل

alrumi.com
By -
0

منصف الوهايبي

Nov 10, 2016
يحتفظ تاريخ الأدب الفرنسي من آرثر رامبو (1851 ـ 1891) لا بشعره فحسب، وإنّما بالرسائل المتبادلة بينه وبين أمّه وشقيقته إيزابيل وبين إيزابيل وأمّها. وإيزابيل هي صغرى أخواته التي سهرت عليه في مرضه عندما عاد إلى مرسيليا في 23 أغسطس/آب 1891 وظلّت برفقته حتى رحيله يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1891. وهي الشاهد على عذابه وآلامه المبرّحة واحتضاره، وما كان يرويه لها عن رحلاته إلى الحبشة وعدن وهرار. وفي هذه الرسالة المعقودة على شجن وضنى كبيرين، وقد نقلنا بعضها إلى العربيّة محاولين أن نحتفظ للنصّ المكتوب بفرنسيّة رائقة، بأكثر ما يمكن من طلاوة اللغة؛ تستوقفنا أكثر صورة عدن وهرار اللتين التهمتا لحم رامبو وعظامه. ونقدّر أنّها صورة قويّة مقتبسة من حديث رامبو إلى أخته، إذ يتعذّر أن تصف عدن وشمسها وهجيرها وحجارتها بهذه القوّة وهي التي لم تزرها.
تقول فرنسواز لالاند في كتابها الممتع «من الشمال أقبلا» (عن رامبو وفان غوغ) إنّ رامبو «الرجل المعطوب» وهو يحتضر كان يحلم بالرحيل إلى عدن وهرار، ويطالب بإعداد القافلة وتهيئة الحقائب. وكان عشيّة رحيله يملي هذا البيان العجيب في فحص البضائع: «سهم واحد سنّ واحدة.. سهم واحد سنّان اثنتان.. سهم واحد ثلاث أسنان…»، ويقول أشياء غريبة بصوت خفيض، ويهذي بإشراقات كأنّها لوحات إنكليزيّة.. «كلب سائب في الطريق سيقول لكم هذا.. قل في أيّ ساعة يمكن أن أصعد إلى متن السفينة..» ثمّ لزم الصمت الأبدي وحمل معه أسراره إلى القبر. وربّما لا غرابة، فقد كان رامبو تاجرا، ثمّ طلّق الشعر ثلاثا وهو في العشرين، وأصرّ على المغامرة في اليمن والحبشة، وكان يبيع أيّ خردة حتى البنادق الصدئة والخفاف ومحارات الحساء المنحوتة.. على أنّ رسائله تحتفظ بنبض الشعر، على نحو ما نجد في رسالته إلى أمّه، وهو يصف أجواء هرار حيث الجلود تنضج والمعدة تحمض والرؤوس تغلي والتجارة تنفق، وربّما لا أسرار أيضا، فقد كان لرامبو زوجة حبشيّة جميلة ببهاء ملكة وخنوع عبد، طردها بعد أن أنجبت له ولده دجامي، ولقد مات في إحدى المجاعات. 

كتب رامبو وهو في السابعة عشرة من عمره: «نحن في الحقيقة لا نرحل». وتقول إيزابيل في آخر رسالة كتبتها يوم 9 نوفمبر 1891:»لم يعد هذا الذي يموت بالقرب منّي، مسكينا منبوذا. إنّه عادل قدّيس شهيد مصطًفى».

روش، 28 أكتوبر 1892

رأيته هنا عندما جاء آخر مرّة إلى منزلنا. أيّام لن تُنسى، وسهرات وليال أبدا لن تعود، أبدا. كنت أسندُ جسده المترنّح. بين ذراعيّ أنا حملت هذا الجسد المتوجّع الخائر. كنت دليله في ذهابه وإيابه؛ أراقب كلّ خطوة يخطوها، وأرافقه حيثما شاء وأراد، وأساعده وهو يدخل ويصعد وينزل. كنت أذلّل طريقه، وأزيل كلّ عقبة تعترض ساقه الوحيدة. أنا التي كنت أهيّئ مقعده وسريره، ومائدته؛ وأطعمه بعض الطعام، لقمةَ.. لقمةَ، وأضع بين شفتيه كؤوس الشراب، وأسقيه حتّى أسكّن ظمأه. تابعتُ عن كثب تتالي الساعات والدقائق، وكنت أقدّم له، في الوقت المحدّد، الجرعات التي أمر بها الطبيب وما أكثرها. وأبذل جهدي كلّه، طوال النهار، وأنا أحاول أن أرفّه عنه، وأصرفه عن هواجسه وأحزانه وأسلّيه. سهرت الليالي عليه، وكنت أريد أن أنيمه، وأنا أعزف له الموسيقى، ولكنّ الموسيقى كانت تنشج دائما. طلب منّي مرّة في عزّ الليل، أن أذهب لأقطف له الخشخاش المهدّئ، ولقد فعلت. كنت خائفة وأنا وحيدة بعيدة عنه. قطعت الظلام بسرعة، ثمّ أعددت له المشروبات المسكّنة التي تجرّعها… ولكنّ الأرق يعاوده؛ فلا يغمض له جفن حتى الصباح؛ وإذ يخلد إلى النوم، أظلّ حذوه وأنا أتملّاه، وأتعلّق به أكثر فأكثر، وأصلّي، وأنشج في صمت. فجرا أتسلّل، دون نأمة أو صوت؛ فيستيقظ، ولكنّ صوته الأثير ينادي بي، فأهرع إليه سعيدة بأن أخدمه ثانية. كم مرّة في الصباحات، كنت ـ عندما ينال أخيرا قسطا من الراحة ـ أبقى ساعات وساعات، وأذني إلى ضياعه، أرقب استغاثته ونفَسه. أين من يديّ أنا، يدان عالجتاه، ولمستاه، وألبستاه ثيابه، وساعدتاه على أن يتحمّل. أين منّي أمّ استطاعت أن تحرص على العناية اليقظة بطفلها المريض، كما حرصتُ. كان يحدّثني عن البلاد التي غادرها حديثا، ويقصّ عليّ أعماله، ويستحضر آلاف الذكريات عن ماضيه وعن السعادة التي ضيّعها، وهو يذرف الدمع بمرارة. وكنت أحاول أن أخفّف من أحزانه، ولكن دون جدوى. وأعرف جيّدا أنا العاجزة عن تسليته، أنّ الحياة لن تبتسم له ثانية؛ فأنظر دون أن أنبس بكلمة، إلى دموعه تنهمر، وأرى في الآن نفسه، وجنتيه الشاحبتين، وهما تغوران يوما بعد يوم، ووجهه الجميل الرائع يتغيّر. كثيرا ما كان يسألني ـ هو الطيّب الرحيم النزيه ـ عوضا عمّن، كان يُطيق هذه الآلام المبرّحة. وأحَارُ جوابا، وأخاف، ويزداد خوفي من أن يكون عوضا عنّي أنا.
واحسرتاه. أخذت بيده في الموت، هو الذي أحبّ قبل أن يفارقني؛ أن يعلّمني فرحة الحياة الحقّ. ولقد ساعدني وهو يموت، على أن أعيش. كم عانى وكابد، هنالك بعيدا، وراء البحار، وفي جبال الحبشة، يتقلّب تحت الرمضاء؛ وفي الرياح اللافحة التي تيبّس العظام، وتتلف النخاع. لا أحد من الأوروبيّين حاول قبله أن ينجز الأعمال المتعبة التي ألزم نفسه إيّاها. كم من جهد لا ينقطع بذل. كم من مسيرة قطع. آه يا لتلك الرحلة المهلكة من تاجورةَ إلى شوا، ثمّ في الحبشة. أيّ نفس كريه تنفّس في تلك البلاد المشؤومة؟ أيّ ملاك شرّ أغواه؟ لقد عانى أكثر من سنة في جسمه وفي عقله، أجل أكثر من سنة؛ كلّ المحن والمكاره الممكنة. وما الذي ظفر به مقابل ذلك عند عودته؟ ليس غير خيبة الأمل: الطامّة الكبرى…
يا حبيبي، من هو الذي يستطيع أن يَكرهك؟ أنتَ الطيبةُ والإحسانُ نفْساهُما.. النزاهة والعدالة معدنك. فيك سحر لا يُدركُ، وأنت تنشر حواليك جوّا من السعادة لا يوصف. نتنفّس حيثما عبرت، عطرا طيّبا لطيفا نافذا. أيّ تعويذات تحمل؟ أساحر أنت؟ بأيّ أسرار تتوسّل لتغزوَ القلوب والعقول؟ وأيّ جناحيْن صنعتَ، لتحلّق بهما فوق الجميع؟ ولكن ما هذا الهراء الذي أقوله؟ أنت طيّب، وهذا هو كلّ سحرك، يا أعزّ مخلوق مختارٍ منذ الأزل؟ أسعيد أنت على الأقلّ؟ لا، فبلد أحلامك ليس على هذه الأرض. لقد طوّفتَ في الآفاق دون أن تجد المستقرّ الذي تَنشُدُ. في روحك وعقلك آفاق وأشواق أكثر سحرا من كلّ ما يمكن أن تمنحك أصقاع الأرض الأشدّ إغراءً.
بيْدَ أنّنا نتعلّق رغما عنّا بالبلد الذي تعبنا فيه أكثر وعانيْنا، ونحن مع ذلك لا نفعل فيه إلاّ الخير. لهذا فإنّ عدن وهرار اسمان منقوشان، من الآن فصاعدا، في شغاف قلبك. هما اللذان أضنيا جسمك. ولكن سيّان، فذكراك عنهما تريد أن تبقى إلى ما بعد الموت. ، عدن حيث ندى السماء لا يهبط إلاّ مرّة كلّ أربع سنوات. عدن حيث لا تنبت ذُرارَةُ عشبة، حيث لا نلتقي أبدا بفيءٍ. عدن الموقد حيث الدماغ يغلي في الجمجمة التي تنفجر، حيث الأجسام تجفّ. أوّاه، لِمَ أحببتها عدن هذه، أحببتها حدّ أنّك تمنّيت لو خُطّ لك فيها قبر؟
هرار امتداد جبال الحبشة: تلال ناضرة، ووديان خصبة، وطقس معتدل، وربيع دائم، ولكن ثمّة أيضا الرياح اللافحة الغادرة التي تنفذ حتى النخاع. هل سبرتها هرارك هذه؟ أثمّة ركن في كلّ هذه البلاد، لا تعرفه؟ على القدمين، فوق حصان، فوق بغل، ضربت في كلّ مكان. آه الفرسان الراكضون على غير هدى عبر الجبال والسهول. يا للبهجة عندما يطير الفؤاد فرحا كالريح عبر بيداء من الخضرة أو من الصخر، ونضرب في شعاب الغابات، أكثر خفّة من ظبي أو أيل؛ ونمسّ خفيفا مثل سِلْفٍ (كائن خرافي يرمز إلى الهواء في الأساطير السلتيّة) أرضَ سَبْخةٍ رجراجة خَسُوف. وخطواتك المقدامة تتحدّى أهالي البلاد، بجسارة، ولين ورشاقة. يا للبهجة عندما نندفع جبهةً مكشوفةً، وجسمًا يكاد يكون عاريا؛ في الوديان ذات النبات الغزير الأرهم، ونتسلّق وعْر الجبال. يا للنخوة عندما نقول في أنفسنا: «أنا وحدي الذي صعدت حتّى هنا، لا أحد قبلي وطئ هذه الأرض التي لم تُستكشف حتّى الآن». يا لسعادتنا ولذّتنا إذ نستشعر أنّنا أحرار، نقطع دون قيود، في الشمس والريح والمطر؛ الجبال والوديان والغابات والصحارى والبحار.. تكلّمي أيّتها الأقدام المسافرة: أَأجدُ آثارك في الرمل أم في الحجارة؟

٭ كاتب تونسي
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)