
(ملاحظة: أكثر من خمسة منابر ثقافية عربية امتنعت - بأدب كبير- عن نشر هذا المقال)
بمناسبة أيام قرطاج السينمائية استقبل وزير الثقافة التونسي الممثّل المصري عادل إمام استقبال الفاتحين. ربّما أفسِّرُ هذا الاستقبال الاحتفائي لعادل إمام بقدرة وزارة الثقافة التونسية على تحويل كلّ حَبّةٍ إلى قُبّةٍ تُزارُ وتفوح منها رائحة بخور أولياء الله الصالحين، والوزارة بارعة في هذه الصناعة الثقافية. بقي أني لا أستطيع أن أكبت سؤالا يلحّ عليَّ الآن وصورتُه: هل وعى عادل إمام حقيقةَ أنّ لجسده عُمُرًا فنيّا متى أجبرَه بسِيَاط الرغبة في الشهرة واللّهفة للمال استعصتْ سيطرتُه عليه، وقَلّتْ قدرتُه على جعله يذوب في تقمُّص الشخصية الدرامية؟ وكيف يغيب عن «الزعيم» أنّ الربيع العربي قد كشف بُطلانَ الزعامات الفردية وعَرَّى وَهْمَ قداسات أصحابها، وأكّد أن الزعيمَ الوحيدَ الخالدَ هو الشعب، وهو في الفنّ جمهورُ المشاهدين، وما عداه إلى زوالٍ؟
الفنان الذي كان
لا نشكّ في أن الفنان عادل إمام، المولود بالمنصورة في 17 مايو 1940، قد أحدث «انقلابا فنيا» أطاح فيه بجميع تصوّراتنا القديمة عن شخصية الممثّل الجماهيري الذي استقرّت له لدى المشاهدين صورةٌ وحيدةٌ يتجلّى فيها رجلا وسيما وجنتلمانًا من عُلِيَّة القوم، على غرار ما انطبع في أذهاننا من صُوَرٍ لرشدي أباظة وعمر الشريف وحسين فهمي وغيرهم.
وقد ظهرت بوادرُ هذا الانقلاب، منذ أعمال «الزعيم» الأولى المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، حيث بدا فيها مواطنا من عامّة الناس، بل ومِن مُهمَّشيهم الاجتماعيّين، يكشف بملامحه الجسدية المُنهَكة ما تعيشه الطبقة المصرية الفقيرة من غربة سياسية وفوضى اجتماعية وهوان فكري مثّلت جميعها محفّزات لأنْ يرتموا في أحضان الجريمة والدعارة والمخدِّرات مَرّة، ولأنْ يوغلوا في عالَم الشعوذة والجانّ مرات أخرى.
ولئن كنّا لا نُخفي حقيقةَ توفُّرِ عادل إمام على بداهةِ تنقيحِ جُملتَه الكوميدية، على الخشبة أو في «البلاتوه» بما يدغدغ مشاعر جمهوره ويُضحكه، بل إنه يُحوّل أحيانا نصوصا ضعيفةَ الحبكة الدرامية إلى أخرى تشدّ إليها المُشاهِدَ، وتقول ما كان يتمنى قولَه بلسانه، حتى صار أغلبُها أمثلةً تتداولها الألسنُ في مقامات اجتماعية مناسبة، فالواقع يشي بكون أعمال الزعيم الرمضانية الأخيرة، على غرار «فرقة ناجي عطالله» و«العرّاف» و«صاحب السعادة» و«أستاذ ورئيس قسم» و«مأمون وشركاه» تكشف بجلاء عن أنه لم يبق في سُلّم مشواره الفنّي سوى سرعةِ الانحدار إلى سَفيلِ الدرجات. وهو حُكمٌ، وإن بدا شخصيًا، فإنه يجد له ما يُبرِّره في المتابعات الصحفية وتعليقات مواقع التواصل الاجتماعي التي انصبّت بالنقد على هذه الأعمال وأشارت إلى تدنّي مستواها الفني وتهافت أمر «الإضحاك» فيها، وهو ما يُنبئ بكون عادل إمام قد فقد بريقَ المُمثِّلِ الكوميديِّ فيه، ذاك الذي كان يُضحك الحزانى، ويُصفِّق الجمهورُ لأيّ «خروج» له عن النصّ كما فعل في مسرحية «الزعيم».
ولعلّ من عيوب صناعة الزعيم الإضحاكية الأخيرة هو عدم خروجه من دائرة مجموعة من الثيمات لعلّ من أهمّها "الحكومة" التي أنهكها تمثيلا وأشبعها نقدا لطيفا وشبع من فيءِ ذلك مالا وحُسنَ أحوالٍ وظلّ على مدى تاريخه أمينا لكلّ نظام سياسيّ قائم وخادما له مطيعا؛ وهو ما نلفي له صورةً في مسلسله الرمضاني الأخير «مأمون وشركاه»، حيث بدا فيه مُؤدِّيًا أمينًا لنصٍّ خالٍ من كلّ حرارةٍ فنية، وليس فيه أيّ جهد تخييليّ يتوسّل النقدَ الاجتماعيَ والسياسي سبيلاً إلى الارتقاء بالموضوع المرجعيّ المتصل بمعيش الناس بعد الثورة إلى مراقي الجمال والفنّ، وهو ما نُعدُّه في كلّ عمل كوميديّ جوهرَ وظيفته، بل وسببًا من أسباب نجاحه وخلوده. وأغلب أعمال الزعيم تنهض على دعامة ثيمات تقليدية من قبيل «صراع الأجيال»، و«صراع الأجوار» و«صراع العائلات» و«صراع المصالح». وهي ثيمات مكرورة لا نراها تُخْلص لحقيقة هواجس المواطن المصري الحالي ولطبيعة أسئلته وهو يواجه بمرارة كبرى أحداثَ واقعه بإكراهاتها الاجتماعية والسياسية.
غروب شمس الزعامات
نزعم بأن عادل إمام واعٍ بتردّي مستوى منجزاته الفنية الأخيرة، ومُدرِكٌ لصوت خافت ينبعث من نفسه ويقول له: «كفى زعامةً فنيةً، فقد انتهى زمن الزعامات، ولا فائدة من الاستمرار في العناد وارتكاب الأخطاء القاتلة لمسيرتك الفنية»، إلاّ أن هذا الزعيم، على عادة كلّ زعمائنا العرب - جُدُدًا كانوا أو قدامى- لا يسمع صوت اليقين فيه، ولا يستمع لأصوات الناس، ولا يحفل بمطالبهم الحقيقية في أن يعبّرَ كلّ فعل فنيّ عن تفاصيل لحظتهم ويُجيب عن أسئلتها، وإنما هو يُداري كلّ ذلك بمراغبه الجمّة في الجلوس على رقاب المشاهدين لزمنٍ إضافيٍّ آخر، وفي التنعّم بعائدات الشهرةِ لسنواتٍ أُخَرٍ، وفي تصدُّرِ منابرِ أخبار الفنّ لأعدادٍ منها قادمةٍ.
ولا نخال عادل إمام يفعل ذلك للأسباب الشخصية التي ذكرنا فقط، وإنما أيضا تحت ضاغطة نفاق المحيطين به من الممثِّلين الذين انتهت صلاحياتهم الإبداعية الذين يزيِّنون له لعبه على ذقون الجماهير، ويَحْفِزونه للقيام ببطولات فنية دونكيشوتية، هي في الأصل «بزنس» فنيّ خالٍ من كلّ صنعةٍ، يفعلون ذلك لأنهم يَرَوْن فيها سبيلَهم إلى الانضمام إليه في خوض معاركها والتمتّع بفيئها الماليّ والإعلاميّ، دونما رأفةٍ منهم بتاريخ هذا الرجل الفنيّ وما يمكن أن يطوله، بسبب مثل هذه الأعمال الجديدة، من إسفافٍ ومحوٍ للنجاحات.
وفي المُحصِّلة نقول إنّ ما تكشّف من مسلسلات عادل إمام الأخيرة ينبئ بأنّ الزعيم أضحى الآن فارغًا من كلّ اجتهادٍ كوميديّ، وفَقَد الرّكنَ الأساسَ الذي تنهض عليه كلّ زعامة وهو إيمان الناس بأعماله. وهذا أمر إذا لم ينتبه إلى خطورته – ونزعم أنه الوقت لم يعد يسمح له بالانتباه - قد يُحوِّلُه إلى موضوع لسخرية المشاهدين، وينقلب عليه سحرُه، ويمحو تاريخه الفنيّ