"الغراب" لإدغار ألان بو: لتكن تلك الكلمة علامة افتراقنا

alrumi.com
By -
0


___ترجمة جهاد هديب
ما زالت القصيدة الشهيرة "الغراب" للشاعر الأميركي إدغار ألان بو تترك أثرها التأسيسي في الشعر الانجلوسكسوني ومنه الشعر الأميركي الراهن سواء في قصيدة النثر أو الشعر الحرّ. والأرجح أن ذلك ليس لأن هذه القصيدة باتت واحدة من الكلاسيكيات الشعرية الرائعة المكتوبة بالإنجليزية بل بسبب توفرّها على طاقة تخييلية وموسيقية هائلة مرتبطة بالمعنى على نحو مباشر بمستوياته المتعددة وطبقاته التأويلية المختلفة، و كذلك ببنيتها السردية المتماسكة والمشبعة بتكرارات تفيض بالإيقاع عن تلك البنية، وهذا أحد الأسباب المباشرة في استمرار تأثير هذه القصيدة على قارئها على الأرجح.

وبالمعنى الواسع للدلالة، تعاين القصيدة محْنَة الشقاء المعرفي لدى الشخص السارد في القصيدة أو لدى شخصيتيها الرئيستين: الغراب والسارد؛ حتى ان التأويل يتسع إلى أن كليهما روح للآخر وما حضور الشخصيات الأخرى المُتَحدَّث عنها سوى استكمال لبناء البنية السردية على نحو متماسك ومحكم. ومِحْنة الشقاء المعرفي هنا ليست حديثة العهد في الأدب الغربي الحديث. حتى لمّا كتبها ونشرها أول مرة إدغار ألان بو في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ يشعر القارئ بأنّ هذه القصيدة الرائعة هي امتداد للأثر الكبير الذي تركه العمل المسرحي الشهير "فاوست" للألماني يوهان غوته واستمر مؤثراً طيلة القرن الماضي، وكان الألماني ليركه واحداً من أبرز شعراء هذا التيار الروحي أو التأملي في الشعر الغربي خلال القرن ذاته؛ وذلك كلّه فضلا عن الحوار المأثورفي النصوص الدينية عن علاقة الشيطان بخالقه والذي يُعرف في الدراسات الدينية المقارنة بـ "محنة إبليس" .

بالنسبة لقارئ عربي يلاحظ المرء أن الشاعر قد استخدم في هذه القصيدة معاني عدة للكلمة الواحدة منها ما هو متناقض في دلالته ومنها ما هو متجاور. وهذا الأمر تكشف عنه محاولة السعي إلى القبض على بنية سردية للنص، الأمر الذي يجعل من أي محاولة لذلك مجرد قراءة تأويلية بالتأكيد يصل إلى سواها أي قارئ آخر إذا أراد للتأويل أن لا يخلو من حصافة. وباستثناءات نادرة؛ غالبا ما جاءت ترجمة "الغراب" إلى العربية مفتقرة إلى البنية النصية السردية المتكاملة التي توحي بمحنة الشخوص في القصيدة. ويلحظ المرء أنها ترجمات تفسيرية أكثر من كونها تأويلية ؛ بمعنى أن التمظهر السردي لحكاية القصيدة غير ناجز غالبا. 

وهذا ما تجد فيه القراءة التأويلية التالية للقصيدة مبررا في إشهارها مع أنّها بالضرورة ليست ترجمة مكتملة وبوسع آخرين أن يأتوا بما هو أفضل منها. لقد سعت هذه القراءة إلى تجاوز ما كانت تُحدِثُهُ الترجمات الأخرى غير الناجزة من اضطهاد للمخيلة القرائية. لقد التزمت الترجمة التالية، وبإيحاء من قصص إدغار ألان بو، بالنثر وبإيحاء من خصائص السرد عموما في إبداعه. وذلك مع المحافظة على البعض من التكرارات اللفظية الضرورية التي لا تعرقل أو تحدّ من المخيلة القرائية. وقد أعان على ذلك أن كل ما يسمّى (ف"َفَُّّ) في هذه القصيدة على وجه التعيين هي وحدة سردية وتخييلية قائمة بحدّ ذاتها في القصيدة ما كان سببا في محاولة كتابتها مثلما يُكتب النثر في جاري العادة، أي الالتزام بالبدء من أول السطر على بياض الصفحة حتى الهامش مثلما تُكتب قصيدة النثر أو القصة القصيرة أو الرواية، دون الالتزام بتقطيعات القول الشعري في النص الأصلي الذي قد يكون غير مفيد لدى نقل القصيدة إلى العربية على هذا النحو من جهة. ومن الجهة الأخرى فإن أول ظهور للقصيدة كان في التاسع والعشرين من تشرين الثاني من العام 1845 تحت عنوان "الغراب" قصة كتبها إدغار ألان بو في العام ذاته الذي رحل فيه صاحبها (في الخامسة مساء السابع من أكتوبر ـ تشرين الثاني) وكانت بالفعل مكتوبة على نحو ما يكتب النثر، أي أن الشاعر لم يعتنِ بتقطيع القصيدة وفقا للقوالب الوزنية بل يبدو أن آخرين، من الأكاديميين ربما، قد فعلوا ذلك لأسباب تتعلق بطرائق تدريس البنية الإيقاعية المدهشة التي تتوفر عليها القصيدة.

يبقى القول إن "الغراب"، بحسب قراءتها تأويليا هنا، لا تستدعي الهوامش الشارحة فلا ترد أسماء لأعلام باستثناء آلهة الحكمة لدى الإغريق التي هي "بالاس" والتي لعلّها الآلهة المقصودة بالخطاب الذي يتوجه به الغراب في القصيدة. أمّا الفعل "لَظَمَ" فربما يكون من العربية الفصيحة وهو يفيد بأن يقوم المرء بجمع حبات من البقول أو المعدن وسواها في خيط بواسطة الإبرة ثم يستخدم ما قد صارعِقْدا فيعلقه كخزين النبات صيفا أويحفظه من أجل حاجة الشتاء أو للزينة كما هي الحال عند لظم الريش مثلما يرد في القصيدة..

ما يلي الترجمة :

مرّةً ، عندما انتصفَ ليلٌ باعثٌ على الضجر، وفيما أتأمل واهنا وسَئِما وأكثرَ من غريب الكتابَ الغريب للمعرفة المنسية؛ بينما يدور نعاسٌ في رأسي، فجأة، تناهى طرقٌ، كما لو أن شخصا ينقر على باب حجرتي، بلطف. "إنه زائر غريب" غَمْغَمْتُ ، يقرع باب حجرتي؛ فقط لا أكثر.

أتذكّرُ بوضوحٍ، كان ذلك في كانون الثاني الأكثرَ عرضة للرياح، حيث كلُّ جمرةٍ مائتةٍ، وحدها، أحدَثتْ طيفا لها على الأرض.

بحماسةٍ عزَّ نظيرها، تُقْتُ إلى الصباح. عبثا حاولت اقتباس شيء من كتبي يضع حدّا للحزن، الحزن على "لينور" الضائعة؛ على البتول الفذّة والشفيفة التي سمَّتْها الملائكةُ لينور بلا اسم هنا أبد. 

وغموضٌ حريريٌّ كئيبٌ أحدثَ حفيفا في الستارة الأرجوانية كلّها أصابني برعشةٍ وأسقطني في رعبٍ لا يطاقُ ولم أشعر به من قبل؛ وظلّ ذلك خفقا لقلبي، وأفهم هذا الخفق: إنّه زائرٌ ما يستعطف الدخول، على باب حجرتي؛ زائرٌ متأخرٌ ما يستعطف الدخول، على باب حجرتي. 

هذا هو الأمر لا أكثر.

للتوّ، صارت روحي أقوى؛ مترددةً لا أكثر. "سيّدي" قلت ، أو "سيّدتي" حقا أنشدُ غفرانكِ، والحقيقةُ أنّي كنت في غفوة ثمّ ضعيفا جاء طرقٌ؛ طرقٌ على باب حجرتي وذلك ما أنا غير أكيدٍ من أنني قد سمعته. هنا، فتحْتُ الباب على سعته. الظلمةُ هناك ولا شيء أكثر. 

على نحو عميقٍ، حدّقْتُ في العتمة، وطويلا وقفتُ هناك. الفتنةُ والخوفُ والشكُّ وأحلامٌ تُحلَمُ ما جَرُؤَ امرؤ على الحلم بها من قبل. 

غير أنّ الصمتَ كان مصمتا ولم يُبْدِ السكونُ أمارةً. والكلمة الوحيدة التي كانت مهموسة: "لينور ؟" . 

هذا ما همَسْتُ، ورجعُ صدى الكلمة: "لينور ! " لا غير ولا شيء أكثر ".

رجعتُ خلف الباب وروحي كلّها تحترق في داخلي. حالا سمعتُ القرعَ ثانيةً؛ أعلى من السابق بعض الشيء. "بالتأكيد" قلتُ ، "ثمة شيء ما على نافذتي". وذهبتُ بعدئذٍ كي أرى سبب ذلك واستكشفَ هذي الأحجية. وكانت الريح، لا شيء أكثر. 

ليظلّ قلبي على عزمه ولأستكشف هذي الأحجية.

"إفتح هنا"، وأشرعْتُ النافذة على مصراعَيها، عندها بعنفٍ صفَّق بجناحيهِ وخطا قدّيس الأيام الخوالي الغرابُ المَهيب. ما أومأ بانحناءةٍ من رأسه، ولا للحظةٍ توقّف أو انتظر بل كما أميرٍ أو أميرةٍ حطّ على صدر "بالاس" فقط ، فوق باب حجرتي، حطّ ثمّ جلس. ولا شيء أكثر.

ثمّ أيُّ طائرٍ أسودَ يهزأ من مخيلتي الحزينة بابتسامةٍ جاءت من ذوقٍ وقورٍ ومتجَهِّم للَّياقةِ التي ارتداها وجهه. مع أنّ عُرْفُكَ أجرد وحليق. "أنتْ"، قلتُ، أأكيدٌ أنّكَ غيرُ جبانٍ ومروِّعٍ ومقيتٍ وغرابٍ عجوزٍ تطوفُ الشاطئ كلَّ ليلة ؟ " .

أخبِرْني، ما الاسم الجليل لليلةِ الشاطئِ الجحيميةِ هذه ؟ قال الغرابُ ، لا أكثر .

عجِبْتُ كثيرا من هذا الطائر ، يصغي بتذمرٍ مع أنّ سؤاله قليل المعنى وصِلَتُه بالأمر تبعثُ على الضجر. ولأننا غير قادرَيْنِ على عونٍ يقودُ إلى التسويةِ تلك ، لن يبقى جنسُ البشر.

أبدا كان مقدّسا بنظرة الطائرِ فوقَ بابِ حجرته. طائرٌ أم حيوانٌ بِدْئيٌ على التمثالِ النصفيِ فوقَ بابِ حجرته باسم كَمِثلِ "بعد اليوم أبدا ؟ " .

غيرَ أنَّ الغرابَ الجالسَ وحده على تمثاله النصفي الحصيف، قال تلك الكلمة الواحدةَ فقط. كما لو أنّ روحَه في تلك الكلمة الواحدة التي صبَّها. ما من شيءٍ آخرَ تفوّهَ به. ما من ريشةٍ حينَ ارتعد.

أخبَرَني بشقِّ الأنفسِ وبأكثر من غمغمةٍ : "الآخرون الذين هم أصدقاؤك من قبل طاروا". "وفي الصباح سوف يغادرني مثلما أمنياتي طارت من قبل"؛ بعدئذٍ قال الطائر "بعد اليوم أبدا " .

جفّل السكونَ المهشّم بَرَدٍّ نطَقَه على نحوٍ كافٍ. قال أنا : "من غير ريبٍ " ، "ما الألفاظ هذه ، إنهّا مألوفة ومُعَدَّةٌ فقط، تلَقَّيْتُها من معلم شقيٍّ ما، هو نكبة لا ترحم تابَعَ سريعا وتابع أسرع يتلو أغنياته الحزينة على أحدٍ هو عبءٌ يورِثُ الكآبةَ. تابع أغنياتُهُ عن "أبدا ... بعد اليوم أبدا".

غيرَ أنّ الغرابَ ظلّ يضلِّلُ كلّ رغبةٍ لي في أنْ أبتسم. أدَرْتُ وسادةَ المقعدِ نحو الطائر والتمثال النصفي والباب. ومن ثَمَّ، عند هبوطي المخملي جعلت نفسي تصِلُ خيالا بخيالٍ، أفكِّرُ: ما طائرُ الماضي هذا المنذرُ بشؤم؛ ما هذا الطائرُ المقيتُ الأخرقُ المروّعُ الكالحُ طائرُ الماضي المنذرُ بشؤم.

قصدت "بعد اليوم أبدا".

هكذا، جلستُ يشغلُني الظنّ. إنّما من غير أنْ أنطِقَ بقول إلى الطائر الذي أشعلت عيناه الملتهبتان لبَّ قلبي. هذا وأكثر وأنا جالسٌ أتأمّل. ورأسي على طمأنينةٍ انحنَتْ على وسادة محشوَّةٍ نعومةً هي مصباح الطاولة الذي يحدِّق في الأعلى. لكن لمَنْ البنفسجةُ، الناعمة المحشوة في مصباح الطاولة الذي يحدِّق في الأعلى، سوف تنطقُ بوضوحٍ:

آهٍ، " بعد اليوم أبدا" . 

ومن ثَمَّ خُيِّلَ إليَّ: نما الهواءُ كثيفا وعَطِرا تفوح به مبخرةٌ غير مرئيةٍ تؤرجحها ملائكةٌ وقعُ خطاها على الأرض المزينة بخيطٍ لُظِمَ فيه الريش.

"وغدٌ"، صرَخْتُ.

"آلهتُكَ هي التي نقلَتْ إليَّ المعرفة. أرسَلَتْها عبر هذي الملائكة".. برهةٌ من أجل رِقادٍ أو راحةٍ أبدية .. برهةٌ من أجل رِقادٍ أو راحةٍ أبديةٍ وشرابٌ يخلع "لينور" من الذاكرة. ـ شرابٌ.. شرابٌ فأنسى "لينور" الضائعة هذه.

قال الغراب "بعد اليوم أبدا" .

" إنّي نبي ـ !" قال ، "شيءٌ من إثمٍ" . ما أزال نبيا، أطائرا أم شيطانا كنْتُ ـ! وسواء أمِزاجُ رائقُ أرسلني أم عاصفة قذفتني هنا على الشاطئ. 

مهجورٌ بل باسلٌ فوق هذي الصحراء الفاتنة؛ فوق هذا البيت بأفكاري المروّعة.. أخبرْني، حقيقةً، إنني أتوسّلُ : أيوجد هناك أو هنا ما يحررني من الحزن ويهدِّئُ من الألم ؟ أخبرْني .. أخبرْني إنني أتوسّل !" .

قال الغراب " بعد اليوم أبدا " .

"إنّي نبيٌّ !" قال ، "شيءٌ من إثمٍ . نبيٌّ ما أزال أطائرا كنْتُ أم شيطانا !.

بحقِّ راية الجحيم التي تتلوّى فوقنا ؛ بحقِّ ذلك الإله الذي نعبدُ معا: أخبِرْ هذه الروح المُحمَّلةَ حزنا إنْ كان، في تلك الحديقة القصية حيث التقى آدمُ حوّاءَ أوّل مرة، سوف تُعانِقُ البتولَ المقدّسة التي سمّتْها الملائكة "لينور"؛ سوف تعانق البتولَ الفذّةَ المشرقةَ التي سمّتْها الملائكةُ : "لينور". 

قال الغرابُ "بعد اليوم أبدا" .

" لِتكنْ تلك الكلمةُ علامةَ افتراقنا، طائرا أم شيطانا كنتَ " صرخْتُ. ووثَبَ فجأةً . "تقدّمْ إلى العاصفة وليلةِ الشاطئ الجحيمية! غادرْ ، ما من بسالةٍ سوداءَ هي أمارةُ تلك الكذبةِ التي قالتْها روحي! غادر وحدتي المصمتة! أترُكْ التمثالَ النصفيَ فوقَ بابي! خذْ منقاري من قلبي وخذْ شكلك بعيدا عن بابي!" .

قال الغراب "بعد اليوم أبدا" .

والغرابُ لم يرفَّ بجناحيه أبدا. ظلّ جالسا. ظلَّ جالسا على التمثال النصفي الشاحب للآلهةِ "بالاس" فوق باب حجرتي وعيناهُ قد اتّخذتا الهيئة كلَّها التي لعَيْنَيْ شيطانٍ يحلمُ . والمصباح من فوقه سيّالٌ ينفثُ الظلالَ على الأرض.

وروحي ينبغي أن ترتفع بعيدا عن ذلك الظلّ والكذبِ الذي يتقَلَّبُ على الأرض.

Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)