ماياكوفسكي بتصوير ألكسندر رودينشكو د.محمد نصر الدين الجبالي(أخبار الادب) يقول شاعر روسيا الخالد ألكسندر بوشكين : والموت فكرة...
![]() |
ماياكوفسكي بتصوير ألكسندر رودينشكو |
يقول شاعر روسيا الخالد ألكسندر بوشكين:
والموت فكرة
أراها قريبة إلى نفسي
وإلى روحي.
كتب على أحد أقدم أوراق البردي المصرية حوارا شعريا دار بين رجل تعب من الحياة مع نفسه. وما لبث أن تحول الحوار إلى جدال ساخن. وكان السؤال الرئيس: هل يجب أن يتشبث الإنسان بالحياة، أو أنه من الأفضل أحيانا اختيار الموت. وتقدم القصيدة أفكارا قيمة للشاعر المصري القديم الذي يعاني من مشاعر الحزن واليأس والعجز. ويقول فيها "الموت... أضحى اليوم قريبا من بصري.. لكن روحي قالت لي: نح همومك جانبا.. يا أخي وصديقي وقدم قربانا للإله وتمسك بالحياة".
لا يختلف الروس كثيرا عن العرب في التعامل مع لفظة "انتحار" فعادة ما تنطق همسا، وتعتبر من التابوهات سواء بالنسبة للضحية أو من بقي علي قيد الحياة. وعادة ما يرتبط الانتحار بأمراض نفسية وشعور بالوحدة أو عدم الإيمان بما يجري في الحياة، أو بآلام روحية وعذابات نفسية. ويعد الأدباء سواء الكتاب أوالشعراء من أكثر الناس عرضة لمثل هذه الأمراض. حيث تصل بهم إلى درجة يصعب تحملها حيث يشعر الأديب بالألم والمعاناة، ليس فقط لكون هذه المشكلات قائمة من حوله، بل ولشعوره بمسؤوليته في حدوثها وفي تخليص المجتمع منها.
والمثير للاهتمام في الأدب الروسي أنه لا يوجد أديب روسي لم يتعرض لهذا الموضوع في أعماله، ولم يصور مشهد الانتحار. ولعل مشهد انتحار البطلة آنا كارينينا في رواية تولستوي التي تحمل الاسم نفسه من أهم المشاهد العالقة في عقول محبي الأدب العالمي. كما صورها بوشكين وغوغول وراديشيف وغيرهم. وينتمي الأدباء خاصة والمبدعون بصفة عامة إلي قائمة الناس الأكثر عرضة لخطر الانتحار. ويرجع ذلك لهشاشتهم العاطفية وتعري مشاعرهم وحالة الصراع مع الثوابت التي تغلب على حياة معظمهم. ويعتقد علماء النفس أن كل إنسان لا تقتصر حياته علي المتعة الجسدية بل يعمل على تغذية عقله قبل جسده، قد فكر ولو مرة واحدة في الانتحار. أما المبدع والأديب خاصة فيستشعر قرب هذه الفكرة منه طوال الوقت. وهي تغويه من آن لآخر.
ويعد ألكسندر راديشيف (1749- 1802- ) أول الأدباء الروس الكبار الذي أنهة حياته بنفسه. حكم عليه بالإعدام وسجن في سجن بتروبافلوفسكايا ؛ بسبب قصيدته الثورية "رحلة من بطرسبورغ إلى موسكو" ولكن الحكم خفف إلي النفي لعشر سنوات قضاها في المنفي السيبيري (إيليمسك) وهناك كتب رسالة فلسفية بعنوان "في الإنسان: فناؤه وخلوده". وقد عانى الشاعر مما سماه شعور الاستهانة بالقيمة الإنسانية. وقد حاول كثيرا الدفاع عن هذه القيمة ودفع ثمنا لذلك من حريته وثروته، وأخيرا حياته.
يقول راديشيف في إحدى قصائده:
هل تود معرفة من أنا؟
ما أنا؟ إلى أين أسير؟
سأظل كما كنت طوال حياتي
لست قطيعا ولا شجرة ولا عبدا
أنا إنسان!
أشق طريقي في دروب
لم يعهدها أحد قبلي

وشهدت الفترة من تسعينيات القرن التاسع عشر إلى العقد الثالث من القرن العشرين أكبر عدد من حالات الإنهاء الطوعي للحياة من قبل الأدباء الروس، حتى أطلق عليها فتره انتشار وباء الانتحار بين الأدباء. فقد شهدت تلك الفترة انتحار كل من: فيكتور جوفمان عن 27 عاما، وإيفان إيغناتيف عن 33 عاما، وفسيفولود كنيازيف عن 22 عاما، وفاسيلي كوماروفسكي عن 33 عاما، وأندريه لوزيتسكي عن30 عاما، وآنا مار عن 28 عاما وغيرهم. ولم تشهد فتره في تاريخ روسيا قبلها أو بعدها عدداً مماثلاً. وقد رأي الأدباء المنتحرون في الكاتب ليونيد أندرييف ( 1874 -1919) ملهما لهم. وهو الذي تناول موضوع الموت بكثافة في أعماله، وسحر به كثيرا. وتزخر كتاباته بالتشاؤم والقنوط المفرط ولكنه لم يشتهر في حياته باضطرابات نفسيه أو جنون الرغبة في الانتحار.
وقد تحول الانتحار إلى ظاهرة في تلك الفترة التي شهدت تحولات سياسية وثورية كبيرة في روسيا في بداية القرن العشرين. وكان كثير من المقدمين على الانتحار يرسلون بخطاب إلي أندرييف بوصفه زعيما وملهما بدا وكأنه أنار لهم الطريق في إبداعاته بأن، في الموت الخلاص من الآلام والعذابات الروحية. وجمع أندرييف مجموعة كبيرة من الرسائل الأخيرة التي كتبها هؤلاء الأدباء في اللحظات الأخيرة قبل إقدامهم على الانتحار، حتى أنها أصبحت عادة عند كل من يريد الانتحار من الأدباء الروس أن يكتب رسالة إلى أندرييف.
ونتوقف سويا عند أشهر ثلاث حالات انتحار بين الأدباء الروس:
مارينا تسفيتايفا (1892 - 1941) قضت نصف حياتها بعيدة عن وطنها حيث اضطرت إلي الهجرة؛ لموقفها المعارض من الثورة الاشتراكية وعاشت في عوز شديد خلال تلك الفترة وكان زوجها معدما؛ ولذا اضطرت للعمل ومحاولة كسب المال من الكتابة، وأحيانا من الترجمة. عانت كثيرا في المهجر واضطرت للعودة إلى الوطن أثناء الحرب وتنقلت مع ابنها بين المدن الروسية حتي استقرت في تتارستان. وهناك قامت بشنق نفسها وتركت ابنها وحيدا وأوصت زملاءها الأدباء برعايته. وحتى الآن لم يتم التعرف على قبرها. وقد تركت تسفيتايفا لابنها ورقة كتبت فيها "سامحني يا بني! لو انتظرت أكثر لساء الوضع أكثر. أنا مريضة بمرض خطير. أشعر بأنني لست أنا. أحبك بجنون. أرجو أن تفهم أنني لم يعد بإمكاني البقاء. أبلغ أباك وأختك إذا رأيتهما أنني أحببتهما حتي آخر لحظة في حياتي، وقل لهما إنني وصلت إلي طريق مسدود".
كما كتبت في وصيتها إلي زملائها الأدباء ليتعهدوا ابنها برعايتهم: " عزيزي نيقولاي نيقولايفيش! أعزائي بنات عائلة سينياكوفي! أتوسل إليكم أن تأخذوا ابني "مورا" وتتبنوه وتساعدوه أن يكمل دراسته. لم أعد أستطيع تقديم شئ له وبقائي سوف يقضي عليه. تركت لكم في الحقيبة 450 روبل، كما يمكنكم بيع كل أغراضي. كما تركت بضع دفاتر بها أشعار وعدة قصص أتركها لكم. حافظوا علي ابني مورا العزيز؛ فصحته ليست على ما يرام، وأحبوه كابن لكم فهو يستحق. وسامحوني فلم أعد أحتمل. لا تتركوه أبدا. سأشعر بالارتياح والسعادة في قبري لو عاش معكم، وإذا سافرتم خذوه معكم. لا تهملوه!"
كتبت الشاعرة أبياتا قبل انتحارها بعامين. ويمكن وصف هذه الأبيات بنشيد المنتحرين:
لا حاجة لي لأذن تسمع
لا حاجة لي لعين ترى
لا حاجة لي
لعالمك المجنون هذا!
فلاديمير ماياكوفسكي (1893 - 1930)
عاش الشاعر الشهير ماياكوفسكي حياة غير مستقرة. وقد لاقت كتاباته رفضا شديدا من قبل السلطات السوفيتية، وتعرض للهجوم من جانب القراء والنقاد الموالين للثورة البلشفية. إلا أن ذلك لم يكن السبب الرئيس في إقدامه على الانتحار، بل رفض حبيبته فيرونيكا بولونسكويا العيش معه. وقد أطلق النار على نفسه بعد لقاء أخير جمع بينهما. وكان قد ترك قبلها بيومين ورقة كتب فيها: "لو مت فلا تتهموا أحدا، ورجاءً لا تغتابوني. فالميت يكره الغيبة بشدة. أمي وأخواتي وزملائي. أرجوكم التمسوا لي العذر فلم يكن لدي خيار آخر...." وقد تحالف الشاعر في البداية مع الشيوعيين، ثم ما لبث أن تراجع وندم على فعلته. ولذا هناك رأي قوي يقول إن الشاعر قد وعي بذنبه كشاعر باع موهبته في البداية ثم استيقظ وندم.
قالت الشاعرة ماريا تسفيتايفا عن ماياكوفسكي "عاش ماياكوفسكي12 عاما كاملة تحت وطأة الشعور بأنه يقتل الشاعر الذي في داخله، وفي العام الثالث عشر استيقظ الشاعر وقتل الإنسان. إذا كان من وجود هنا لما يسمي الانتحار في هذه الحياة، فإنه ليس حيث يراه الناس، بل استمر كامنا في أعماقه لاثني عشر عاما"
سيرغي يسنين (1895 - 1925) كثيرون لا يصدقون حتي يومنا هذا أن يسنين قد انتحر. فلا توجد أدلة على موته انتحارا. والجدير بالذكر أنه كان مدمنا على الشراب حتى إنه تعرض للاعتقال كثيرا بسبب ذلك. كما حاول الشاعر مرات عديدة الانتحار . وكان زملاؤه والمحيطون به ينقذونه في اللحظات الأخيرة. وليس من المعروف حتى الآن الحالة العقلية التي كان عليها الشاعر صاحب الثلاثين عاما،عندما شنق نفسه بأن ربط عنقه في أنبوب التدفئة في فندق "انترناشيونال" مستخدما حزام حقيبته. وقد كتب أشعارا في وداع أصدقائه ومحبيه قال فيها: "إلى اللقاء. يا صديقي. إلي اللقاء. .. فالموت في هذه الحياة ليس بأمر جديد والحياة بالطبع ليست أجدد...لا أري أي فرصة للاستمرار في الحياة. فالفن الذي منحته جل حياتي يخضع لسيطرة قيادة حزب جاهلة مغرورة... حياتي ككاتب لم يعد لها معني . وأنا أغادرها الآن بكل سعادة لأتخلص وأنجو من البقاء العفن،حيث يتم وصمك بكل أصناف القذارة والكذب والوشاية"...
وشهد القرن العشرون العديد من حالات الانتحار بين الأدباء الروس نذكر منهم الشاعر ليونيد أرونزون(1939 - 1970)، وماكس باتورين، ودميتري جولوبكوف وألكسندر باناموريوف، وليونيد سوبوليوف وغيرهم كثيرون. ولعل التحولات السياسية والاجتماعية الحادة التي شهدتها روسيا في العقود الثلاثة والقيود التي فرضت على الإبداع كانت السبب الرئيس في وقوع معظمها، بالإضافة إلي ما سبقت الإشارة إليه، من دوافع وأسباب خاصة بالمبدع والأديب.
هناك مقولة شهيرة بين الشعراء في روسيا: هؤلاء الذين أنهوا حياتهم بطريقة مأساوية... أولئك هم الشعراء الحقيقيون. بالطبع لا يمكن القطع بصحتها تماما، ولكن لا شك أنها تعبر وبصدق عن حالة وظاهرة روسية فريدة.
ليست هناك تعليقات