عن جريدة المستقبل الشاعر اللبناني الكبير امين نخلة رحل قبل أربعين عاماً (1976)، ومنذ رحيله كأن صمتاً صفيقاً أطبق عليه، وعلى شعره ودوره، ...

الشاعر اللبناني الكبير امين نخلة رحل قبل أربعين عاماً (1976)، ومنذ رحيله كأن صمتاً صفيقاً أطبق عليه، وعلى شعره ودوره، ربما لأن أي مرجعية طائفية أو سياسية أو حزبية أو قبلية لم تتبنّه، أو لأن شعره المرهف لم يصل إلى الأجيال الجديدة. في هذه المناسبة، مقاربة لبعض جوانب شعره ونثره.
أمين نخلة، في الحركة الأدبية اللبنانية والعربية، له موقعه المتفرد، ووقعه الخاص، وعالمه تتنسمه ولو من بعيد، وتستشفه من فضاء «صاح»، ومن ذهن منقشع، ومن لغة صافية مصفّاة مطهرة مقطّرة كأنما من انبيق هنا. منحوتة كأنما بإزميل خفي، دقيق هناك. يعرف كيف يحذف بقدر ما يعرف كيف يقطف، ويختار، بإرهاف شعري قلما وقعنا على مثيله في الموزون العربي، وربما في غير الموزون.
إنه وارث اللحظات «اللغوية» العالية في الشعر. وارث مخزون «عبيد الشعر»، في التراث العربي، من أيام زهير المتأمل في اللغة وفي العالم، ولبيد ذي المناخات المظللة في المجاز، وأبي تمام ذي الضربة المفردة، والصيغ المفاجئة، والمتنبي ذي القصيدة المنسوجة، المركبة، المجدولة بوشائجها الداخلية، وإيحاءاتها الخفية؛ وهو وارث النثر العربي في قطوفه الأبهى والأصعب منذ «نهج البلاغة» الى عبدالحميد الكاتب والجاحظ.. وعبدالله بن المقفع.
فهو من إلفة ذلك الخزين، ومن وريفه، يستل «ديباجته»، وينحت حجارته من مقالعه، ويصوغ جواهره من ذهبه وفضته.
على أن «الأمين» وبقدرة الشاعر على تفتحات أوسع، وعلى مهارات وتجارب أعم، عرف كيف يفتح عينيه وقلبه وذهنه على الخزين الغربي ولا سيما الفرنسي، فأصابه منه هبوب ولفح من بودلير (القصيدة السوداء)، الى ألفونس دوديه (المفكرة الريفية)، وإلى البرناسيين أمثال لوكونت دي ليل وهيريديا وفرانسوا كوبي، من دون أن ننسى بعض الرومانطيقيين والرمزيين.
لكن أمين نخلة، على الرغم من أن البعض ومنه صلاح لبكي وأنطون قازان رأيا أنه متأثر بالبرناسية، والبعض الآخر أنه متأثر بالمسحة البودليرية (وإن ملتبسة)، فإنه، في العمق، بقي خارج المدارس المقننة ذات المواصفات والقوانين والتحديات المرسومة، حتى عندما احتدمت «المعارك» بين ذوي الاتجاهات الرومانطيقية كالياس أبو شبكة والرمزية متمثلة بأديب مظهر (كرائد لها قصفه الموت قبل إتمام تجربته) ويوسف غصوب وخصوصاً سعيد عقل، بقي هو على الهامش. فهؤلاء وهم من كبار الرواد، حاولوا تبنّي بعض المناخات والتنظيرات المتصلة بمفاهيم الشعر الرومانطيقي والرمزي، فصنف بعضهم في الخانتين: سعيد عقل في الرمزية وإن كانت نسبته الى الرمزية في حاجة الى مراجعة، وأبو شبكة في الرومانطيقية. وهنا برزت الاختلافات في النظر الى القصيدة، لتعكس الاختلافات الفرنسية والأوروبية حولها، فالرومانطيقيون (وخصوصاً أبو شبكة) يرون أن الشاعر مجرد وسيط يتلقى القصيدة (بالوحي) كاملة ناجزة تماماً كما يخرج الوليد من أحشاء أمه، وليس على الشاعر أن يتدخل في عملية «الخلق» التامة هذه. «فالوحي» الآتي من «ربات الشعر» ومن ملائكته ومن «شياطينه» أيضاً، لا يحتاج الى «أي» اعتداء يقوم به الشاعر عبر الصنعة أو الشغل أو التعديل أو التغيير، وكلنا يعرف أن الياس أبو شبكة هاجم بول فاليري واتهم بعض الرمزيين وكان يقصد تحديداً سعيد عقل، بالتقليد وباستيراد الأفكار والتجارب، وفي هذا الإطار وصف سعيد عقل، ومن يسعى الى صناعة القصيدة أو صوغها أو نحتها.. بالنجارين.
[ الرمزيون
الرمزيون، في المقابل، أطلوا من الضفة الأخرى، أي من ضفة فاليري وفرلين مع سعيد عقل ومن ضفة ألبير سان وبودلير مع أديب مظهر ويوسف غصوب.. ومارسوا عملية «ذهنية» أو فكرية، أو واعية على القصيدة، باعتبار أن «العفوية» غير موجودة، وأن على الشاعر أن يزيل عامل الصدفة (ولو موضوعية)، فتكون القصيدة منتوجاً مادياً أو نحيتة أو «جوهرة» تلمع في كل أطرافها؛ أما الناحية الأخرى المهمة التي اكتسبها رمزيونا من الفرنسيين فهي التعبير بالإيحاء، وبخلق مناخات دالة وموحية تشير الى الحالات التي تكوّنها كيمياء اللغة بطريقة غير مباشرة. وهنا إحالة على رامبو حيث الإيحاء عنده بالصورة، وكذلك الى مالارمه حيث الإيحاء يتم عبر صهر الصورة بكيميائية لغوية مكثفة، وإلى فاليري حيث يتم ذلك عبر «اللغة داخل اللغة»، خصوصاً أن شاعر الفرنسيين استفاد من مختلف التجاربالمذكورة ولا سيما من مالارمه وفرلين.
فأين نضع أمين نخلة من هذه المعمعة، وهذا التصادم بين المفاهيم واللغات، وهذه الخصومات «الجمالية» في التعاطي مع القصيدة؟ إن وضع البعض أمين نخلة في لائحة البرناسيين غير دقيق، ومن دون أي انتماء البرناسيين في بعض جوانب التعاطي مع لغة مشغولة، مادية (وهذا من ارث الكلاسيكيين الفرنسيين)، موضوعية، واضحة، إلا إنه يختلف معهم عميقاً من حيث غنائيته العالية والحميمة معاً. ومن حيث تجاوز اللغة الدقيقة عنده إلى ما يشبه كيميائية مظللة مفتوحة على دلالات نفسية وشعورية وكذلك ذهنية غير محددة. وهنا بالذات يلتقي «رمزية» بودلير الموشحة بمناخات ووريف، ورمزية فرلين «المائية» الملتبسة، لكن من دون التوصل الى مجاراة مالارمه في لعبته «الصعبة» والمركبة، ولا فاليري في ملحميته الداخلية التراجيدية.
فأمين نخلة قابل هذه التجارب الغربية (الفرنسية) بانفتاح محسوب، معتدل، كمن يقطف من الحديقة من خارج سياجها، أو كمن يتنشق عبقها من بعيد، فلهذا نجد عنده التماعات من بودلير، وأجواء من فرلين، وآثاراً من البرناسيين، لكن من دون أن يشكل أي منها في شاعرنا «نصاً» كاملاً، أو نموذجاً يحتذيه، او فكرة جاهزة يحاول أن يجسدها في القصيدة.
[ الموروث
لهذا قال عنه صلاح لبكي في كتابه المهم «لبنان الشاعر» في سياق كلامه على شعراء تلك الاتجاهات، انه «على حدة«.
ونعتقد ان تشرب أمين نخلة من الموروث العربي القديم، وعلاقته العضوية به، وقراءاته الواعية المختزلة لمتونه، جعلت شاعرنا يميل الى ذلك الموروث ميلاناً راجحاً من دون أن يفقد صلاته «بالجديد» الفرنسي (الذي كان في الاربعينات من قديمه خصوصاً عندما نعرف أن السوريالية وقبلها الدادائية كانتا سلمتا كل مفاتيحهما وشحبتا...) في نهاية العشرينات، فجديدنا في تلك المرحلة كان من قديم الفرنسيين أو على الأقل من متاعهم «المضبوب» في الخزائن امام هجمة الدادائية والسوريالية.
وعلينا هنا الا نعتبر هذا الميلان الى الماضي وكأنه انتساب كلي اليه، او تماه عمومي به، فأمين نخلة يبقى من كبار المجددين في القصيدة العربية الحديثة، ومن كبار صائغي مقولة «الفن الصعب» و»الغموض الضروري في الشعر«. وإعادة قراءته بتأن تكشف الى أي مدى نفخ في «الديباجة» القديمة روحاً جديدة، مطلة على اللغة كمعطى اولي لا بد للشاعر من أن يعجنه من جديد، ويصوغ علاقات غير مألوفة في نسائجه وعلاقاته، ولهذا يمكن التمييز بوضوح مثلاً بين لعبة البحتري الجمالية وبين ضربة أمين نخلة، لا للمفاضلة ولكن للتمييز، تماماً كما يمكن التمييز بوضوح بين لعبة أبي تمام وضربة سعيد عقل. اذاً هناك مسافة ما بين القديم كمخزون، هي مقطوف وبين الجديد كصائغ لهذا المخزون صوغاً «مختلفاً» ومضيفاً اليه شيئاً من إرهاف آخر هو في النهاية ارهاف الشاعر الثري والشفيف.
من هذه الشفافية المتعددة صاغ أمين نخلة شعره ونثره معاً اللذين منحاه صفة «الجوهرجي» والصائغ، الذي ينحت المفردة ويُطرب الايقاع، ويشرع المتن على التباس حي، وأحياناً على غموض غير مركب أو معقد أو لغوي بارد، أو تجريدي «عقلاني». كما نجد أحياناً كثيرة عند سعيد عقل.
هذا الجوهرجي البارع، والماهر، مروّض اللغة، يعرف كيف يشتغل في دقائق العلاقات، «بصحو لامع»:
«كأن الصحو يلمع في ظنوني ويخفق في ضلوعي ألف غصن» ومن هذا «الصحو» يدقق في تتبع التفاصيل لكن على اقتصاد في العناصر: «آمنت بالتدقيق والضبط يا واضع الخط على الخط»، وهي تفاصيل يومية معيشة، ولعله بحق شاعر تفاصيل اتبعه نزار قباني ولكن على غير لغة وعلى غير معدن، ومن عناوين قصائده «العقد الطويل»، «المشط»، «الأظافر»، «المناديل»، «الشفة»...
لكن هذه التفاصيل كسواها، تكتنز تلك الكيمائية التي توحي بها كحالات أو كأجواء: «وعلى مسقط القميص إلى الخصر وعند انفلاته جهد مجهد»، أو: «ألف غصن في ألف غصة غصن وقيام على الغصون ومعقد».
من هنا يمكن القول إن التعبير المادي الملموس الموروث عن (البرناسيين) يتجاوز ماديته إلى إشارات تثير مكامن أو إيماءات. وأحياناً يطل على التجريدي: «ان الظلام المرتمي لجة أعمق غوراً من ضمير الفناء». وأحياناً يكون طقساً خاصاً من الحالات: «ما أكثر الدمع والعويل في دوحة خلفها الهديل، يا أمة الشوق: أي فقد قام به حزنك الطويل». كأن هذه القصيدة من أحزان فرلين.
على أن أمين نخلة الذي لا يغرق في الرمزية ولا يبالغ في التأويل، يعتمد البوحية أحياناً ولكن برشاقة وأناقة وجمالية قريبة، أي بوحية بلا تبسيط: «كأن في دله ومشيته غصنين جاءا وثالثاً قصر»، أو «في شفتيه من وهم عضهما ورد يعرى وفستق يقشر»، أو «أمشي وتمشي جدتي في ثقلو مهلة، أنا أجاري ضعفها وهي تجاري قوتي».
من هذه البوحية القريبة يمكن أن نقارب عدداً لا بأس به من قصائد المناسبات عنه وهي موفورة بالنسبة إلى مجموع قصائده التي جمعها في «الديوان الجديد» (الصادر عن منشورات الكتاب اللبناني في بيروت العام 1962). وفي هذه القصائد المناسبية تزدوج لغة أمين نخلة بين خضوع لمتطلبات هذا النوع، وبين تفرّد خاص به، إذ ينزع عنها المواصفات الخطابية الفضفاضة، ويمتهن في صوغها براعة مبتكرة.
وكما برز نخلة في القصيدة الموزونة برز في نثره العالي، المتجدد، الذي يعتبره البعض أفضل ناثري العربية منذ الجاحظ، بل ويرى البعض أن شعرية أمين نخلة مكتنزة، معبّرة في نثره أكثر مما هي في موزونه (تماماً كما قيل عن جبران مثلاً). فمن «المفكرة الريفية» إلى «في الهواء الطلق» إلى «ذات العماد»... تطلع كتابة نثرية لا تختلف كثيراً في تقنياتها عن قصائده، من حيث التطرّف اللغوي، والصفاء، والتقطير، والنحت، والجمالية التي تدهش. فكأن أمين نخلة واحد في شعره وفي نثره وفي مقالاته، صائغ واحد يصوغ بأصابع مرهفة ودقيقة وحيّة وأنيقة.
إنه من كبار شعرائنا.. ومن أكثر المغبونين.
مختارات من شعره
[ الشفة
في «الأشرفية« يوم جئت وجئتها،
نفسي على شفتيك قد جمعتها!
ذقت الثمار، ونكهة إن لم تكن
هي نكهة العنب الشهي فأختها
الكرم اورق يوم جئت عريشه،
أروي عن الشفة التي قبلتها،
وترنح العنقود، يقطر لذة،
لما انثنيت فقلت: اني ذقتها..
ياقوتة حمراء غاصت في فمي،
وشقيقة النعمان قد نولتها.
لولا نعومة من بها وحنو ما
بي في الهوى للقمتها وللكتها!
ملساء مرّ بها اللسان، فما درى!
لولا تتبع طعمها لأضعتها،
وكأنما بخلت علي بلفظة،
وهناك في كتب العبير قرأتها...
❊❊❊
من مُرقص الغزل ارتجلت قصيدتي،
وبكل واد للهوى رددتها
أفرغت من شم ومن ضم ومن
متعات ثغرك في الحروف وصغتها
شعر بأشهى الطعم من أشهى فم،
طابت قوافيه وأسعد بختها
والذ تأدية وافصح منطقاً:
إغضاء عينك، يومذاك وصمتها
[ الحبيب الأول
أحبك في القنوط، وفي التمني،
كأني منك صرت، وصرت مني!
أحبك فوق ما وسعت ضلوعي،
وفوق مدى يدي، وبلوغ ظني.
هوى مترنح الاعطاف، طلق،
على سهل الشباب المطمئن.
❊❊❊
أبوح إذن، فكل هبوب ريح
حديث عنك في الدنيا، وعني.
سينشرنا الصباح على الروابي،
على الوادي، على الشجر الأغن.
أبوح إذن، فهل تدري الدوالي
بأنك أنت أقداحي، ودني؟!
أتمتم باسم ثغرك فوق كأسي،
وأرشفها، كأنك، أو كأني...
[ طيب الشوق
بيني وبينك ما لا تحمل الرسل
والشوق أطيب مما تطعم القبل
قد هوّن البعد أن الشوق يدركه
والظن من زعمات الوهم والأمل
أقول للهاتف المشتاق في سَحَر
يا مالئ الدن دمعاً إنني ثمل
من كان في الحب يسلو بعد صاحبه
معزز الدمع، هذي أدمعي ذُلل
حلت على صور التذكار لي شفة
مبتلة، وهي تحت الورد تشتعل!
فم يحف فمي من طيب قبلته
بأحمر من عقيق طعمه عسل
مزودي الريق: أذني فيك سائلة
أين الفرائد أخت الشهد، والجمل
ومن مصيري استجابات لما سألت،
إن كان في الحب لا يعطى الذي يسل
[ دفتر الغزل
أنا لا أصدق أن هذا
الأحمر المشقوق فم!
بل وردة مبتلة
حمراء، من لحم ودم
أكمامها شفتان – خذ
روحي وعللني بشم
أن الشفاه أحبها
كم مرة قالت: نعم..
ليست هناك تعليقات