Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

سرياليون مصريون «صنعوا» المستقبل

 سمير غريب (جريدة الحياة) هي المرة الأولى التي يقام فيها معرض شامل ضخم لإحدى الحركات الفنية في مصر منذ فترة طويلة. فما بالنا وهذه الحركة ه...

 سمير غريب (جريدة الحياة)
هي المرة الأولى التي يقام فيها معرض شامل ضخم لإحدى الحركات الفنية في مصر منذ فترة طويلة. فما بالنا وهذه الحركة هي التي أدخلت الفن الثوري إلى المنطقة العربية كلها؟ إنها جماعة «الفن والحرية»، والمعرض هو «حين يصبح الفن حرية... السرياليون المصريون - 1938 - 1965». نظمت المعرض الكبير المقام في قصر الفنون في القاهرة، ثلاث جهات: مؤسسة الشارقة للفنون بدولة الإمارات العربية، والجامعة الأميركية في القاهرة، وقطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية. ليس ذلك فحسب، بل سينتقل المعرض وأيضاً للمرة الأولى، إلى أميركا والإمارات. هذا يعني عرضاً دولياً لتاريخ الحركة السريالية في مصر وإبداعها. فالمعرض لا يقتصر فقط على 147 عملاً فنياً، بل يضم أيضاً وثائق مهمة وكتباً عن الحركة السريالية. والفضل في هذا لقوميسيري المعرض: الشيخة حور القاسمي والدكتور صلاح حسن اللذين بذلا جهداً غير عادي في جمع المقتنيات وتنظيم المعرض بمستوى عرض رائع.
من هذه الوثائق مثلاً: صورة للغلاف الداخلي لمجلة «المجلة الجديدة» عدد 14 كانون الأول (ديسمبر) 1941، عندما كانت الحركة تتولى تحريرها، وصورة فوتوغرافية نادرة تجمع بين الفنان سمير رافع والكاتب كامل زهيري جالسين على سلالم داخلية لمتحف اللوفر في باريس، ونسخة من كتابي أنور كامل: «الكتاب المنبوذ» و»الطبقات»، وأصل رسالة روبرت التمان الرسام والشاعر والكاتب الألماني، إلى رمسيس يونان وبوستر معرض السريالية في مصر الذي أقيم في كانون الأول (ديسمبر) 1986 في القاهرة، وهو مصغَّر المعرض الحالي، فقد احتوى أيضاً على لوحات عدد من مؤسسي «الفن والحرية» وبعض المتعلقات الشخصية لهم وكذلك وثائق. جمع المعرض عدداً من كتب مؤسس «الفن والحرية»، جورج حنين، وعنه باللغة الفرنسية، وهي كتب تعود إلى أربعينات القرن الماضي وخمسيناته. فضلاً عن كتب لجورج حنين وعنه وللفنان فؤاد كامل.

كما ضمَّ المعرض نسخة من الطبعة الأولى لكتابي «السريالية في مصر» الصادر عام 1986، وكتابي الثاني عن الحركة السريالية العالمية بعنوان «راية الخيال». الأعمال المعروضة هي لمعظم أعضاء جماعة «الفن والحرية» من مصريين وأجانب ومتمصّرين مثل: رمسيس يونان وفؤاد كامل وكامل التلمساني وإيمي نمر وسمير رافع وابراهيم مسعودة وباروخ. كما نرى أيضاً أعمالاً لأعضاء جماعة الفن المعاصر التي تأثَّرت بجماعة «الفن والحرية» وأتت بعدها مثل: عبدالهادي الجزار وحامد ندا وكمال يوسف. سعدتُ بحضور الفنان الكبير أحمد مرسي الافتتاح بنفسه وهو من رواد السريالية في مصر، وبعرض أعمال له. أعاد المعرض الوهج للحركة السريالية المصرية عرضاً وجدلاً ونقاشات حادة، وهذا تحتاجه بالطبع الحركة الفنية المصرية والعربية بعامة. أعاد طرح الأسئلة الأساسية مثل: ما هي السريالية؟ وهل كانت هناك سريالية مصرية؟ وأسئلة فرعية مثل هل كانت جماعة الفن المعاصر سريالية؟ وهل هناك أعمال ليست سريالية ضمَّها المعرض حتى لو كانت لفناني «الفن والحرية»، أو لجماعة «الفن المعاصر» أو لغيرهم؟ ولماذا عرضت أعمال تالية لنهاية الفترة الزمنية المحددة (1965)؟

نعم، وهذا من فوائد المعرض، أعاد التذكير بجماعة «الفن والحرية» السريالية بعد مرور 78 عاماً على تأسيسها. ففي 9 كانون الثاني (يناير) 1939، تكوَّنت الجماعة وجاء في قانونها الأساسي أن أغراضها هي: «الدفاع عن حرية الفن والثقافة ونشر المؤلفات الحديثة وإلقاء المحاضرات وكتابة خلاصات عن كبار المفكرين في العصر الحديث وإيقاف الشباب المصري على الحركات الأدبية والفنية والاجتماعية في العالم». نلاحظ أنه لم يأت تعبير «سريالية» في القانون الأساس للجماعة. لكن إنتاج أعضائها الفني والفكري كان كذلك. كانت أغراضهم أوسع وأرحب من حصرها في الحركة السريالية، إذ كان لهم نشاطهم الفكري والسياسي الثوري للدفاع عن حرية الفن والثقافة. دفع البعض منهم ثمناً من حرياتهم الشخصية بسبب معتقداتهم ونشاطهم، ومنهم مؤسس الجماعة جورج حنين الذي أمَّم نظام الرئيس عبدالناصر ممتلكات أسرته واضطر للهجرة من مصر وعاش بعدها في فرنسا ومات، وأنور كامل رئيس تحرير مجلة «التطور» الذي سُجن مرات عدة، ورمسيس يونان الذي اعتقل في تموز (يوليو) 1946، وكان ذلك سبباً في هجرته أيضاً من مصر إلى فرنسا.

وعلى ذكر فرنسا، انخرط المهاجران المصريان السرياليان هناك في النشاط الدولي للحركة السريالية التي أسَّسها أندريه بريتون. كان جورج حنين تعرَّف إليه في الثلاثينات من القرن الماضي أثناء دراسته الجامعية في باريس. وبفضلهما، جورج ورمسيس، تمكن فنانون مصريون من المشاركة في معارض الحركة السريالية الدولية ونشاطاتها. حركة «الفن والحرية»، ابنة عصرها: مصر في الثلاثينات من القرن العشرين. كانت مصر مستعمرة بريطانية، ومع ذلك كانت جزءاً من الحيوية الثقافية العالمية قبل اختراع الإنترنت والهواتف المحمولة بل والفاكس. كانت مصر تموج بحركات ثقافية حية من اتجاهات مختلفة على رغم نسبة الأمية المتفشية وقتها (ما زالت هناك أمية في مصر ولكن أقل). تجمع المتمردون والمجددون في جماعة «الفن والحرية»، بينما كان المحافظون والكلاسيكيون من الفنانين يتجمعون في «صالون القاهرة». كانت مجلة «آن إيفور» المصرية بالفرنسية تنشر رسائل من بول فاليري إلى جماعة «المحاولين»، وكان طه حسين ينشر في مجلة «الكاتب المصري» رسائل من أندريه جيد، وكان جورج حنين ينشر رسائل من أندريه بريتون في صحف الحركة السريالية.
كان في مصر أجانب ويهود يعادون الصهيونية شاركوا في بناء تلك الحيوية الثقافية والفنية في تلك الفترة، وكانت وثيقة الصلة بالحيوية الثقافية والفنية التي كانت في أوروبا في الفترة نفسها.
كانت السريالية عالمياً ثورة على الكلاسيكية وسجن الواقعية الكئيب، فعملت على تغيير الواقع وبنَت سلماً ضخماً صعدت عليه الثقافة والفن، مثلما شاركت الحركة السريالية في مصر في تغيير الثقافة والفن، فإنها أدخلتهما إلى عالم المعاصرة والحداثة. لذلك واجهت معارضة وعداءً من كثر من الفنانين والكتاب المحافظين، مثل حامد سعيد الذي وصف السريالية بأنها «التعثر في أذيال النفس عند محاولة الخروج من ظلمة الشك»، وعباس محمود العقاد الذي وصفها بأنها «تشويه للذوق السليم في الأدب والفن، وتجعل الذوق المريض هو القاعدة والهذيان هو المنطق، والجنون هو العبقرية».
أعاد هذا المعرض الاعتبار الى جورج حنين، مؤسس جماعة «الفن والحرية»، والذي لم يكتب عنه في مصر عند وفاته سوى سطرين في جريدة «الأهرام»، ولم تحتف به بعد وفاته سوى مجموعة من أصدقائه عبر كتاب متواضع الطباعة باللغتين العربية والفرنسية، أشرف عليه الدكتور مجدي وهبة. كما أعاد الاعتبار إلى رمسيس يونان، الذي رفضت لجنة التفرغ في وزارة الثقافة الموافقة على تفرّغه، فكتب لويس عوض: «هنيئاً للجنة التفرغ بتيجان العار لا تيجان الغار». كان هناك لويس عوض، أما اليوم فليس هناك أحد. سلَّط المعرض الضوء على لوحات قديمة طوَتها ظلمات ما يسمى بمتحف الفن الحديث بالقاهرة. فهو متحف مغلق معظم سنواته منذ افتتح بجوار دار الأوبرا المصرية. وأتمنى أن أعرف سر هذا الإغلاق المتقطع والمتواصل، على رغم أن المبنى حديث. حتى وإن كان تصميمه الداخلي لا علاقة له بتصميم المتاحف. فلماذا لم يحاسبوا من وافق على التصميم وكلف الدولة ملايين الجنيهات؟ إنه واحد من ألغاز مصر المعروفة حلولها والمستمرة في الوقت نفسه!
كما كشف، المعرض، عن ثروة فنية لم أكن أعرف أنها بهذا الحجم من المقتنيات الخاصة لمصريين وغير مصريين لأعمال فنية، إذ إن عدداً كبيراً من الأعمال المعروضة من هذه المقتنيات، والباقي من متاحف تابعة لوزارة الثقافة وبخاصة متحف الفن الحديث ومتحف محمود سعيد في الإسكندرية. محمود سعيد أكبر فنان مصري اعتبره السرياليون المصريون رائداً لهم، ووضعوا صورة لوحته «ذات الجدائل الذهبية» على غلاف كتالوغ معرضهم الجماعي الأول الذي أطلقوا عليه «الفن الحر» عام 1940، وعرضوا اللوحة الأصلية. وقد شارك في هذا المعرض فنانون طواهم النسيان مثل صادق محمد وعايدة شحاتة. وقد أقامت الجماعة خمسة معارض جماعية لها حتى عام 1945، بعنوان «الفن الحر». سعدت في شكل خاص بعرض لوحات عدة لكامل التلمساني، فلوحاته المتبقية قليلة جداً وكانت أكثر أعماله رسوماً تم نشرها في صحف الجماعة العربية والفرنسية، وهو أحد عباقرة «الفن والحرية»، هجر الرسم إلى السينما. كما هجر أهم مصورين في الجماعة، رمسيس يونان وفؤاد كامل، السريالية إلى التجريدية في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وكانا رائدي التجريدية في مصر أيضاً... لماذ؟ الأمر يحتاج إلى دراسة مستقلة. حاول السرياليون المصريون، كل على طريقته، رسم أحلام نومهم وأحلام يقظتهم والإمساك بتيارات لا وعيهم، حتى «التعبير عن مشاعر كرسي». غامروا في مجتمع القاهرة وساروا عكس التيارات السائدة. لكنهم «صنعوا المستقبل»، كما كتب أنور كامل.

ليست هناك تعليقات