Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

د.عبدالدائم السلامي... الاستيلاءُ على الجحيم

أثار حرق الطيار الأردني معاذ صافي الكساسبة يوم 3 يناير 2015 من قبل عناصر "داعش" موجة عاتية من السّخط العربي والعالمي سرع...




أثار حرق الطيار الأردني معاذ صافي الكساسبة يوم 3 يناير 2015 من قبل عناصر "داعش" موجة عاتية من السّخط العربي والعالمي سرعان ما تكسَّرت على صخرة العادةِ كغيرها من أمواج العنف الماديّ والرمزيّ التي أغرقت أيّامَنا الراهنةَ في عُباب إرهابها. غير أن النظر إلى هذه الحادثةِ الأليمةِ بوصفها فعلا إرهابيا فحسب قد لا يُحيط بكل أبعادها الخطيرة، ذلك أن حرقَ الآدميَّ ليس إلاّ وجها من وجوه محاكاة فكرة نار جهنّم. وهذا وحده كفيل بأن يثير فينا أسئلة نُجمِلُها في ثلاثة: كيف تَمَثّل الفكرُ البشريُّ النارَ؟ وما هي الإبدالات الرمزية التي أجراها عليها في خلال تاريخه معها؟ وما أسباب رغبته في استجلاب جهنّم من عالَم الغيبِ إلى عالَمه الأرضيّ.

مَسيرةُ النّار
الحق نقول إن النارَ ظلّت، منذ اكتشافها قبل ما يناهز أربعَ مئة ألف سنة، تتوهّج في المتخيَّل البشريّ أكثرَ ممّا تتوهَّجِ في الواقع، بل قُل إنّ تأثيرَها الخياليّ في الناس أعمق من حضورها الماديّ عندهم. والظاهر أن علاقة الإنسان بالنار تكشف عن كون تاريخها معه سار وفق خطٍّ تصاعديّ ابتدأ بتعامله معها في حالتها الأرضية التي اكتفى فيها من وظائفها بطهي الطعام والتدفئة والإنارة وإخافة الحيوانات ومداواة الجروح حتى قيل "آخر الطبّ الكيُّ"، ونزع في مرحلة ثانية إلى التعامل معها بوصفها قوّة سماوية جبّارة لها وظائف رمزية متعالية عن معيشه ومؤثّرة فيه، وهو ما جعل النار ترتقي لدى كثرة من الشعوب القديمة إلى مرقى القداسة كما هي حالها لدى الهندوس، فعَبَدَها قومٌ وصلّوا لها مُوَحِّدينَ وأوّل هؤلاء هو قابيلُ بن آدم على حدّ ما نقرأ في "نهاية الإرب في فنون الأدب" للنويري، ثم الزرادشتيّين، وسرقها آخرون من عرشها الإلهي ووزعوها على البشر على حدّ ما فعل بروميثيوس بجُرأة ميثولوجية كبيرة، ولم يُخفِ إبليس تباهيه على آدم بأصله النّاري حيث" قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"، وهنالك مَن نظر إليها من جهة وظيفتها الإيمانية والترهيبية، فخافها، وخَوَّف بها الناسَ، لأنها تأكُل العِبادَ والجَمادَ و(وقودُها الناسُ والحجارةُ) كما ورد في النص القرآني، وظهرت في ذلك كتبٌ عديدة على غرار ما نُلفي في كتاب "التخويفُ من النَّارِ والتعريفُ بحال دار البَوَارِ" لابن رجب الحنبلي.

إنّي آنستُ نارًا
من روعة نار الأرض اختلاف الناس في توظيفها حتى صار لكلّ عصر ناره، ولكلّ شعب ناره، ولكلّ فردٍ ناره الحميمة التي يُقلِّبُ على جمر إيحائها يَديْه وأحوالَه ليدفئَ جسدَه ويُطَرِّي خيالَه وِفْقَ ما صوّر لنا الإيطالي غابريال داننزو في حكايته الشعرية "كنز الفقراء" التي ظلّ فيها زوجان فقيران يفركان أيديهما على جمرتيْن تلمعان في ظلمة الكوخ ويشعران بلذّة الدفء وبانهمار الحبّ بينهما، ليكتشفا في الصباح أن الجمرتيْن ليستا سوى عينيْ قِطٍّ جوعانٍ كانا قد أطعماه قبل أن يجنّ ليلُهما بكلّ ما لديهما من أكل.

وقد مثّلت النار في مدوّنة الشعر العربيّ القديم علامة من علامات جُود الإنسان وكرمه حتى وصفت الخنساءُ أخاه صخرًا بكونه "كثير الرّماد" في إحالة منها على كثرة إيقاده نيران الولائم لإقراء الضيوف النازلين برَبْعِه، وقد لخّص السموأل هذه الشيمة بقوله "وَما أُخمِدَت نارٌ لَنا دونَ طارِقٍ*وَلا ذَمَّنا في النازِلينَ نَزيلُ.

كما تفيد الدراسات السوسيولوجية أنّ بعضَ الشعوب القديمة لاذت بالنار سبيلا إلى حماية جُثث موتاها من التعفّن والضياع، فحَرْقُ الجثث - على حدِّ زعمِها- يُمَكِّن الموتى من الانتصار على ماضيهم وتاريخهم الشخصيّ، ذلك أنه حين تذرو الرياح رمادَ أجسادهم في الجهات الأربع يحلّون في "الكوسموس" على حدّ عبارة غاستون باشلار الذي يرى في كتابه "التحليل النفسي للنار" أنّ الموتَ في اللَّهيب يجعل المَيْتَ أقلّ شعورًا بالوِحْدةِ من الأموات الآخرين، لأنه يختلط بالعالَم ولا يبقى وحيدا، بل لا يبقى منه في الأرض ما يدلّ عليه أو ما يُشعر أقرباءه بخسارتهم له، ومن ثمة يكون حرق الجثث انتصارا للحياة، بل هو مرتبة "فوق الحياة"، وتكون النار ضدّ الوجع الإنساني (آخر الطبّ الكيّ) و"نفيٌ للموت" الأرضيّ الماديّ والمعنويّ الذي يمتلئ فيه الإنسان بشعور المذلّة والحيف الاجتماعيَيْن وبِعَار التاريخ. ومن صُوَر ذلك أنّ عليسة، ملكة قرطاج، عندما حاصرها الرومان وخيّروها بين النّار والعار، اختارت النار وقالت: "النار ولا العار"، ثم أحرقت نفسها. وهي صورة نلفيها تتكرّر في ما أقدم عليه محمد البوعزيزي من حرق لجسده مدفوعا برغبة في تطهير تاريخه الشخصي من مذلّة صفعة تلقّاها من شرطيّة تونسية، فتحوّل من صاحب عربة خضار إلى رمز ثوريّ ثرِّ الإيحاءات الوطنية، وأشعل باشتعال جسده "نيران" الثورات العربية.


ونزعم أنّ تنامي حضور النار في الدراسات الفلسفية والنفسية والدينية والأدبية وغيرها، لم يَخْرُج بمفهومِها عن مجال الحُدوس والتجريد. وهو مجال تُؤطّره دائرةُ المتخيَّل البشريّ الفِطريّ الذي حازت فيه النار صفةَ الرُّعب السماويّ والرحمة الإلهية معا، ومن ثمة صارت مهرَبَ الآدميّ الأخيرَ ليتخفّف من خطايا ماضيه ويتحرّر من آلام تاريخه أو هي سبيله إلى دخول عرش السماء طمعا في خلود نبويٍّ هنيء. من ذلك أنّ النار كانت قادحَ نبوّة موسى، "إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون، فلما جاءها نُودي أنْ بورك مَن في النار ومَن حولها وسبحان الله رب العالمين"، وقد حاول المفسِّرون شرح عبارة "أنْ بوركك مَن في النار" بالقول إن "مَن" تُحيل على موسى والملائكة، ولكننا نزعم أن الآية تقبل تأويلات أخرى مُحايثة ليس هذا مجال الخوض فيها.


كما  تخلّت النار عن صفة الإحراق فيها عندما أمر نمرود بابل بحرق إبراهيم، إذْ يذكر ابنُ كثير أنه "لما أُلقي إبراهيمُ (في النار) جعل خازنُ المطر يقول: متى أُومَرُ بالمطر فأُرْسِله، قال: فكان أمرُ اللّه أسرعَ من أمره، قال اللّه: "يا نارُ كوني بردا وسلاما على إبراهيم". قال: لم يبق نارٌ في الأرض إلا طُفئت، وقال كعب الأحبار: لم تَحرق النارُ من إبراهيم سوى وثاقِه، وقال ابن عباس: لولا أن اللّه عزَّ وجلَّ قال: "وسلاما" لآذى إبراهيمَ بردُها، وقال أبو هريرة: إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطَّبَق وهو في النار وجده يرشح جبينه قال عند ذلك: نِعْمَ الربُّ ربُك يا إبراهيم".


ويتأكّد مما سبق أنّ المُتخيَّلَ البشريّ والنصوصَ الدينية ومدوّنات التفسير تَرَحَّلت جميعها بمفهوم النار من طبيعتها المادية التي تختصّ فيها بفعل الإحراق إلى طبيعة لها ثانية صارت فيها قوّةً مقدَّسة تموج بالرّموز المتصلة برغائب الإنسان في التطهّر من سوءات دنياه والدخول إلى فضاء النبوّة. غير أن هذه القوّة المقدَّسة تعرّضت في بداية هذه الألفية الثالثة إلى أخطر إبدال رمزيّ في تاريخها، حيث تمّ انتهاكُ مفهومها الغيبيّ وتنزيلُها منزلةً أرضيّةً فجّةً.


انتهاكُ الجَحِيم
ممّا لا شكّ فيه هو أنّ فكرة َنار الآخرة –جهنّم/الجحيم- هي بالتوصيف الماديّ مؤسّسةٌ رَقَابيّةٌ وتخويفية ذات وظائف إيمانية وسياسية واجتماعية تتكئ عليها المجتمعاتُ الدينيةُ لتمنع أفرادَها من ارتكاب الأخطاء وإدمان الآثام والخروج عن المِلّة، وهي مؤسّسة لها موظَّفون من الأبالسةِ تكفّلوا أمام الله بغواية عباده وإخراجهم عن سَنَنِهم القِيَميِّ وشرائعِهم الدّينيةِ، ولها أعوانٌ آخرون من الملائكة لا يَسْهُون عن تسجيل أدقّ الآثام ونواياها ليُحَاسَب عليها مُقترِفُها يوم الحساب. وقد تكفّلت الديانات السماويّة بتأكيد هذا الأمر؛ حيث جاء في الكتاب المقدّس القول إنّ "طريق الخُطاة مفروشٌ بالبلاط، وفي منتهاه حُفْرَةُ الجَحيم"، ونقرأ في القرآن " يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا"، أيْ: يُدفعون إليها دفعًا. وقد اختصّ الله، في إطار هذا التصوّر المؤسّساتي للنار، بفعلِ تعذيب الضالّين والأشرار بها. فهو وحده مَن يعرفُ المؤمنَ وغير المؤمن، والخيِّرَ والمخطئ، وهو وحده مَن يقرِّرُ نوعَ الحسابِ ويأمرُ بتحقيقه وِفقَ ما نقرأ في الحديث النبوي: "إن النارَ لا يُعذِّبُ بها إلا اللَّهُ".


ولنا أن نسأل: ما الذي تغيّر الآن من أمرِ النار؟ نقول: إنّها تتعرّض اليوم إلى عملية انتهاك. وصورةُ ذلك أنّ فئةً استولت على الله باسم الدّفاعِ عن دينه واحتكرته، بل وافتكّت منه جوهرَ صلاحياته، وأنزلت الجحيمَ عنوةً من عالَم الغيبِ إلى عالَم الناسِ، وشرَّعت لنفسها محاكمةَ ضمائر هؤلاء ونواياهم، واختارت نوعَ العقاب: الحرق بالنار تماهيًا بما يحدث في الجحيم. فانتصرت الإبليسيّةُ، وانهزمت الآدميّةُ، وما حرق "داعش" للطيّار الأردني في مشهد هوليوديّ إلا صورةٌ أولى نزعم أنها ستكون متبوعة بصور أخرى أكثر منها إيلاما للوعي.


وما يمكن أن نخلص إليه من هذا الاستيلاء "الديني" على مهامّ الإله وصفاته هو تأكيد حقيقة ثقافية صورتُها أنه لمّا نظر الفكر الغربي، بعَلْمَانِيِّيه ومُتَدَيِّنيه، في أمرِ السماء أنزل منها جنَّتَها: حريّةً وتسامحًا ومحبّةً وكرامةً وعدلاً، بينما اكتفى الفكر العربي الإسلامي من شأن سمائه بإنزال جحيمها إلى الأرض: حروبًا وطوائف وتكفيرا وإحراقا.



ليست هناك تعليقات