كان عليه ان يتخلى عن ذلك الوهم، أن تصير له حياة خاصة لا تتدخل بها جدته. في الصباح يفتح عينيه على عالم لا يجد نفسه فيه، وهو الذي ظن أن أمه، ملاكه الذي سيحميه ورفيقته الأجمل هي أول من شيء يراه، كل ما ظنه كان خيبة خلفها غياب أمه حين تركته وحيدا يصارع أيامه الموحشة ولياليه الثقيلة.
يعيش جمال مع جدته ينتظر أمه، ينتظر ذلك الحنان الذي يحتاجه ويصعب الحصول عليه، هكذا ببساطة كما يعيشه الأولاد والبنات من حوله.
كان جمال طفلاً في الحادية عشرة من عمره عندما دخلت دلال حياته وجعلت منه يعرف الفرح. معلمة جمال اسمها دلال، تعلق بها وناداها ماما في أكثر من مرة، شابة جميلة الوجه رفيعة القوام، شعرها ناعم تتركه ينسدل على كتفيها . يتخيلها جمال قريبة منه، وجهها يصير وجه أمه، وحين تلامس شفتيه خدها، يطبع قبلة ويبتسم في سره.
صار للمدرسة طعم البيت و للحياة وجه الطمأنينة.
حين طلبت دلال من تلاميذ الصف أن يكتبوا قصة، كتب عن طيور تعيش فوق جزيرة مهجورة، لا تعرف عن الحياة سوى هذا المحيط العظيم من الماء ورقعة صغيرة من يابسة تتوالى عليها الفصول. طعامها الأسماك أو ما علق حول الصخور من كائنات بحرية أخرى. كانت الطيور محبة لبعضها ومتعاونة إذ أن المد غالبا ما كان يطيح بأعشاشها التي كانت تبنيها بين أكمام العشب والنباتات التي لا ترتفع ما يكفي حتى تحميها من الموج وضرباته. كانت أعداد هذه الطيور تزيد أو تقل تبعا للمواسم ولفصل الشتاء الذي لا يرحم. ذات صباح ربيعي مشمس كانت الطيور سعيدة بهذا النهار الذي يهيئ لتدريب الفراخ التي اكتمل نمو ريشها على الطيران. حدث ما لم يكن في حسبان أحد. ظهر شيء ضخم في البحر مصدرا صوتا عاليا رجفت له قلوب الأمهات وتفتحت له عيون الآباء. كان شيئا متحركاً سبب اضطرابا في حركة المياه. وحدث هرج ومرج و تصايحت الأمهات واجتمع الآباء والكل في حال من الرعب. كان ذلك الشيء الضخم يقترب من جزيرتهم ما أدى إلى تسارع حركة الموج وارتفاعه على نحو لم يسبق للطيور أن واجهت مثله. لم تكن فراخ الطيور تعي ما يجري، لكنها هاجت هي الأخرى مما زاد من صياحها. وارتفت موجة عالية حجبت السماء ثم غطت كل شيء. وجدت الطيور أنفسها معلقة في الهواء تنوح وتزعق. رويدا رويدا انحسر الماء عن اليابسة. الطيور المحلقة في الفضاء تنظر بعيون مفتوحة على الموت. لم يعد هناك من فراخ ولا أعشاش. كان ذلك الشيء الضخم الذي مر قريبا من الجزيرة وسبب الخراب قد ابتعد آخذا معه أرواح الفراخ التي ملأت المياه أفواهها وأسكتتها.
وعادت السماء كما كانت بهاءً ازرق تسبح فيه شمس وحيدة، وعادت الحياة إلى سابقها وعادت الجزيرة بقعة آمنة لا تعرف شيئا عن حياة الناس خلف البحر ...
كانت فرصته أن يكتب قصته ويقدمها للمعلمة عند نهاية دوام الدراسة.
لم ينم ليلته تلك. انتظر الصباح التالي حتى يسمع منها شيئا عن قصته، لكنها لم تفعل، علل هذا بانشغالها بأعمال الصف اليومية. ومر اسبوع و لم تلتفت إليه ولو بإشارة حول موضوع قصته. خفتت لهفته ثم قرر أن يتخلى عن انتظاره. تناسى قصته وما حل بالفراخ التي ابتلعت الماء وماتت وحيدة.
كان نهارا مشمسا وربيعيا وكانت الشمس كما يحب أن يراها جمال طليقة حرة تسبح في أزرق السماء حين دخل الطلاب الصف. استقبلتهم المعلمة على غير عادتها وقد رفعت شعرها، ارتدت ثوبا زاهيا جعل الطلبة يثنون عليها ويعبرون عن إعجابهم بمظهرها الجميل.
" اليوم سنستمتع بالطقس الجميل وسنذهب إلى الملعب وهناك سنتخيل أننا في جزيرة وسط المحيط حولنا الماء ولا نعرف شيئا عن هذا العالم على الأرض ." قالت دلال. خرجت الأسئلة من أفواه الطلاب سريعة وانطلقت ضحكاتهم عالية ولمعت الدهشة في عيونهم الصغيرة. وهكذا وجد الطلاب أنفسهم وسط الملعب وقد سكنوا جزيرتهم الصغيرة ثم أخذوا ينظمون حياتهم التي رسمتها لهم دلال.
وقبل نهاية الوقت تجمع الطلاب في دائرة لتخبرهم المعلمة بأن موجة هائلة سترتفع وتغطي جزيرتهم وعليهم أن يفكروا كيف يضمن كل واحد منهم سلامته وسلامة الآخرين. أخذوا يتشاورن وجمال بينهم يفكر بتلك الموجة التي علت حياته وحياة الفراخ آخذة كل روح صغيرة لا تقدر على المواجهة وحيدة. كان زملاؤه أكثر تفاؤلا حين فكروا وتصارخوا وهم يبحثون عن باب للنجاة لكل سكان الجزيرة قبل أن يدهمهم الوقت ويقرع الجرس معلنا نهاية الحصة.