محمد شوقي الزين... عن بوئثيوس

alrumi.com
By -
0
في زنزانته قبل الحكم عليه بالإعدام، في مونولوج عميق، يتوسَّل فيه عزاء الفلسفة، كتب بوئثيوس 460-524م (Boethius, Boèce) هذه الكلمات في حوار خلَّده الزمن بأنه أروع رواية أو مونولوج في التاريخ البشري:
"هل هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الحكمة للخطر وتتهددها قوى الشر؟ فقديماً أيضاً، قبل عهد خادمي أفلاطون، كم خضتُ من معارك كبيرة ضد قوى الغباء الطائشة. ثم في حياة أفلاطون انتصر أستاذه سقراط على الموت الظالم بوقوفه إلى جانبي. وبعدها بذلت جموع الأبيقرويين والرواقيين وغيرهم كل ما بوسعهم لكي يقبضوا على ميراث الحكمة الذي تركه لهم. حاول كل منهم أن ينتزعني بالقوة كجزء من غنيمته. ولكني كافحتُ وقاومتُ، وخلال ذلك تمزَّق ردائي الذي نسجته بيدي. لقد انتزعوا نتفاً من الرداء وذهبوا يباهون بأنهم استحوذوا على الفلسفة كلها. وإذ احتفظوا بمزق من ثيابي فقد أسبغ عليهم ذلك شهرة بين الجُهال بأنهم أهلي وذوي، ومن ثم فإن كثيراً منهم قد أضلَّته جهالة الجموع الحمقى" (عزاء الفلسفة، الكتاب الأول).
بالقياس مع الفلسفة، يمكن للإسلام أن يغضب الغضبة نفسها بأن رداءه مزقته طوائف ومذاهب، وكل طائفة أو مذهب يأخذ "الجزء المنتوف" على أنه "الكل"، يتباهى به بين الجموع الغفيرة والمخدَّرة، ويتحدث باسمه على أنه الوريث الشرعي لحكمته. هذا ما دفعني لأن أكتب في خاتمة "الثقاف في الأزمنة العجاف" أن المقولات الكبرى التي لها تمثُّل خاص مثل الفلسفة أو الدين أو السياسة أو الأخلاق أو الحق أو التراث، إذا أينعت وترعرعت بمعزل عن الاستعمالات الذرائعية فهي "سيادة"، تسود بالجوهر الذي تحمله في ذاتها، جوهر خالص لا تشوبه صراعات أو إرادات في الهيمنة؛ وإذا تجزَّأت نتفاً في مذاهب أو طوائف، فإنها تتحول إلى "سلطة"، يتسلَّط بها المذهب ويتخذها وسيلة في تبرير غايات أو هدم أحلام أو حتف أشخاص... كل واحد منا "بوئثيوس" زمانه، عاين اختطاف إرث جماعي، إرث تمزَّق إلى نُتف احتكرتها مذاهب أو طوائف متصارعة، لأن بتعميم مجازي عجيب (synecdoque) حل الجزء محل الكل، انقلب عليه وصار يتاجر به، يتحدث باسمه وهو الصامت والمكبَّل. قيل تحرير الوعي؟ الأجدى أن نقول: التحرُّر من الوعي. كلما "وعى" الوعي كلما حوَّل السيادة إلى سلطة. ينبغي أن نكون من طينة جون جاك روسو لفهم المسألة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)