محمد شوقي الزين عن حنة ارندت

alrumi.com
By -
0

بمناسبة الذكرى العاشرة بعد المئة لميلاد الفيلسوفة الألمانية-الأميركية حنه أرنت Hannah Arendt (1906-1975).

هناك شيء عبقري في نظرياتها السياسية ما يثير الاهتمام، وأخص بالذكر ثلاثية قامت بتفصيلها في كتابها العمدة "الشرط البشري" (The Human Condition)، وهي "العمل" Labor (الاشتغال البيولوجي للحياة)، "الأثر" Work (الاشتغال الصنائعي لليدين)، "الفعل" Action (الاشتغال الأدائي للحرية في العالم). عندما نتأمل جيداً في هذه الثلاثية (المفصولة ابستمولوجياً، لأن في حقيقة الأمر تشتغل بوتيرة واحدة في النوع البشري، وبدرجات متفاوتة حسب غلبة أحد الحدود: العمل أو الأثر أو الفعل)، يمكن بسهولة تصنيف الأمم على أساس هذه الثلاثية. 1- هناك أمم لا تزال في عتبة الاشتغال البيولوجي للأجهزة الهضمية والتناسلية، همها بيولوجي قبل كل شيء في إشباع رغبات استهلاكية وتكاثر ديموغرافي. ربما الأمة التي ننتمي إليها لم تتجاوز هذه العتبة بالمقارنة مع الأثر في صناعة شيء (كمبيوتر أو طائرة) وبالمقارنة مع فعل شيء (استحداث نظام سياسي متكامل وعادل)؛ 2- ثم هناك أمم ارتقت إلى الصناعة الشيئية باختراع آلات وأجهزة ووسائل سهلت مسار الإنسان في الكوكب من حيث الاتصال والتواصل، ويمكن حشر أمم في هذا الصنف الصنائعي، لأنها موهوبة فيه مثل اليابان والصين؛ 3- أخيراً، هناك أمم ارتقت إلى الفعل التأسيسي للسياسة والاجتماع البشري، بناءً على نظريات قديمة (يونانية وحديثة: عصر الأنوار) قامت بإعادة الاشتغال عليها وأقلمتها وتأويلها للوصول إلى نظام سياسي مكتمل الأركان، حيث حدَّده البعض (مثلا فوكوياما) في الديمقراطية الليبرالية بوصفها سقف ما يصل إليه نظام سياسي في التاريخ.

هذه التقسيمات الثلاثة، التي ينبغي أخذها بحذر ونسبية، لها مزيَّة في تبيان الموقع الذي نشغله بالمقارنة مع الأمم الأخرى. إذا ثبت أن "الأثر" ليس سمتنا الرئيسية، لأننا لم ننتج أشياءً يمكنها أن تنافس الصنائع الأخرى مثل الحواسيب ووسائل النقل الحديثة (أقول صناعتها بتكنولوجيا متطورة، وليس فقط تركيب أجزائها في مصانع)؛ وإذا ثبت أن "الفعل" ليس سمتنا البديهية، لأن التنظيم السياسي في ديارنا لا يقوم على قواعد كونية في إدراك الوجود البشري في العالم: حقوق الإنسان، المواطنة، الحريات الفردية والجماعية، أشكال التمثيل السياسي والعناية الاجتماعية، إلخ؛ فإن سمتنا الأساسية، الناصعة والمنكشفة بذاتها، أصبحت إذن العمل أي اشتغال الوظائف الحيوية للحفاظ على النوع البشري: أكل، شرب، سكن للاحتماء من الحر والبرد، إنجاب. وجودنا مختزَل اليوم في هذا العمل البيولوجي، الضرورة العضوية المنهمكة في استهلاك ذاتها؛ وصعُب علينا الانتقال إلى الأثر باختراع شيء مذهل ومنافس. أما الانتقال إلى الفعل، أي إلى الحرية بالتحرُّر من الضرورة العضوية وإنتاج أشكال الفكر وأساليب السلوك، فهذا أضحى، باختصار، الحلم وربما الكابوس. الظاهرة الصوتية هي أيضاً ظاهرة طبيعية. متى يحمل الصوت فكرةً أو فعلاً؟ هذا ما سيجيب عنه التاريخ.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)