أحدث المنشورات

الإرث البعثي والتخندق العبثي


  سلام الكواكبي(موقع جيرون)
في مؤتمر دولي “رفيع المستوى”، في سنوات ما قبل “الربيع العربي”، أصرّ صديقٌ كرديٌ من العراق، وكان حينها يشغل منصبًا وزاريًا رفيعًا، وهو يطلب مني الالتحاق بحلقة نقاش حول المسألة الكردية في الدول المعنية عربيًا، وهي سورية والعراق، على أنني كردي. وقد أفصحت له عن سعادتي البالغة بثقته ودعوته لي؛ للحديث في المسألة الكردية على الرغم من كوني غير كردي؛ فغضب قليلًا، وبمحبة، مستغربًا “تنكري” لأصولي. فحاولت أن أشرح له أصل اللغط الذي ارتبط بهذه “الحدوتة” التاريخية، والذي يعدّ أن مرور أسرة الكواكبي من مدينة “أردبيل”، في شمال بلاد فارس، منذ نيف وستة قرون، بعد خروجها من الحجاز، وقبل حلولها في حلب، قد أعطى لبعض الباحثين، ومنهم “ألبيرت حوراني”، صاحب الكتاب المهم (الفكر العربي في عصر النهضة)، الاعتقاد بأن الأصول كردية، بما أن أغلبية سكان هذه المنطقة -في القرن العشرين- هم من الأكراد.

وبعيدًا عن أصلي وفصلي، فلقد كنت، وما زلت، أؤمن بأن الالتزام بالدفاع عن كل القضايا التي حلّ من خلالها الظلم والعسف والاستبداد على أفراد أو مجموعات أو شعوب، هو من أسس التزام أي إنسان سوي بالشأن العام على مستوى البشرية، دون تمييز البتة. وبما أن المسألة الكردية، في المنطقة عمومًا، وفي سورية خصوصًا، قد نابها من الظلم ومن الاستبداد ومن “التهجير” ومن الحرمان ما نابها، فهي من باب أولى أن تكون في مقدمة القضايا المطروحة في ساحة “إعادة” البناء الوطني والإنساني.

وفي المقابل، فإنه من الملائم الاعتراف بأن الموضوع الكردي قد جرّ سوريات وسوريين إلى نقاشات متوترة، ومهاترات كادت أن تقارب الشتائم، إن هي لم تتبناها، وقد أدى هذا المناخ غير السوي إلى أن يكون طرح الموضوعات الحساسة، والهموم المشتركة، بشكل عقلاني من سابع المستحيلات، لمن يسعى إلى حوارٍ هادئ ومنتج من مختلف الأطراف، إن صحّ توزيع المشاركين في هذا الحوار على أطراف متمايزة.

هذه الحساسية عالية المستوى، المحيطة بالمسألة عمومًا، دفعت كثيرين، ومنهم كاتب هذه السطور، إلى التخوّف والرهبة من الخوض في عباب أمواج متكسّرة، يمكنها أن تصنّفه ذات اليمين وذات اليسار، ويمكنها -أيضًا- أن تُغرقه في تفاصيل العبارات وشرح المفردات، وهي أمور يُبدع فيها متصيدو الهنّة، والباحثون عن الشياطين في التفاصيل، ولو غابت؛ ويمكن أن يترجَم هذا “الترفّع” عن الخوض في المهاترات على أنه “عجز” بنيوي عن التمكن من تفاصيل المسألة وأبعادها؛ وهذا يؤدي، تحديدًا، إلى رغبة خجولة في طرح أهم ما يمكن اعتقاده -تواضعًا- بأنه الموقف الملائم نسبيًا، وغير المُرضي لأي طرف أو جماعة.

في لقاء دولي مهم آخر، جرى الحديث مع زميل كردي بصراحة وشفافية، وقد وضعت على الطاولة، إن صح التعبير، مسألة “حق تقرير المصير” كقناعة راسخة لديّ، لا لبس فيها لكل الشعوب، وما تستوجبه من حرية الاستقلال بالإرادة السياسية؛ وبالتالي، فقد فوجئ زملائي من هذا الطرح الجريء، والذي اتبعته بالقول: إن المسألة -إذن- ليست الاعتراف بحق من عدمه، بل هي تتشكل من إمكانية تحقيق هذا التصور من عدم إمكانيته؛ أي: أننا لنكون واقعيين ولننتهي من اللف والدوران اللذين لا طائل منهما، إلا فقدان الأعصاب والدخول في جدل سفسطائي، وفي تحديد جنس الملائكة، فمن الواجب علينا أن نعترف جميعًا بهذا الحق، والذي لا يعني فيما يعنيه رغبة انفصالية، كما يُؤثر بعض ضيّقي النظر القول، أو كما يتبناه بعضهم الآخر، تقيّةً أو جهرًا، وننطلق منه لبحث إمكانيات تحققه العملية والواقعية.

انطلاقًا من هذا الموقف، يمكن أن تُقارب الأمور الأخرى بتعمق وانفتاح، خصوصًا لدى من يؤمن بأن مسعاه هو الحرية والكرامة والعدالة؛ فلا انتقائية في تبني هذه المبادئ التي يمكن أن تصلح لي ولا تصلح لغيري؛ فهذا عبثٌ مستورد أو مورّث، وكم عانت أجيال من مواطنينا من هذا الترسيخ الإقصائي في ممارساتها الاجتماعية والسياسية، بل حتى الرياضية؛ فإن كانت تميل إلى السلطة، قناعةً، وهذا من النادر، أو انتفاعًا أو خوفًا، وهذا هو المهيمن، أم أنها كانت تميل إلى معارضة السلطة، بناءً على تاريخٍ نضاليٍ، أو على خيارٍ متأخرٍ مرتبط بالتغيرات، أو على بناء فكري راسخ، أو حتى على نزقٍ فكريٍ، فالحديث لديها عن المسألة الكردية يتّسم بالمحظورات من الموضوعات، وبالتخوفات من فتح الملفات، وبالرهاب حتى من التوصيف أو من التصنيف.

وقد بيّنت السنوات الأخيرة، إبان الحَراك الشعبي السوري، وقيام الثورة، والانتقال إلى العمل العسكري، بأن السعي إلى التحرر من الاستبداد، ومقارعة الطغيان، لم يترافق عند بعضهم بالاعتراف الصريح بما وقع ويقع من استبداد صارخ بـ”حق الأكراد”، وكأن في الأمر أحجية ما، تمنع اجتياز هذا الحاجز النفسي، الناتج عن عقود من العمل الممنهج على تصحير الأداء السياسي، وتمزيق “الوفاق” الوطني، ونزع أي ميول إلى تبني قضايا “الآخر”، بعد أن “انهكتنا” أساليب التبني المواربة لقضايا حق أُريد بها باطل. تُضاف إلى البعد الموضوعي أبعاد ذاتية متعددة ومتشابكة، وقد تكون متناقضة أيضًا، في نظرة الجانبين -إن صح الوصف- إلى بعضهما بعضًا.

والذين تجرؤوا ووجدوا أن التصدي لهذا الموضوع في صلب انخراطهم في الشأن العام، كما يجب أن يكون في عمق قناعاتهم الإنسانية والحقوقية؛ فهم -مع ذلك- يخشون من الانزلاق بعبارة لم يقصدوها، أو بتعبيرٍ لم يتمحصوه قبل إيراده؛ ليصيروا مادةً للهجوم والتنديد وربما، التهديد. حتى أنني اعترف بأن الخشية والوجل يبدوان في هذه الكلمات التي أمامكم، حيث أكاد أن أشعر وكأنني أحمل ميزان صانع الحلي، لكي أحافظ على توازنات هشّة، وبالكاد تكون منظورة، ولكنها تكفي لتضعني في موقع “إدانة” من هذا الطرف أو ذاك الطرف.

هناك مشكلة بنيوية واضحة، وتكاد تكون متسرطنة، التأقلم مع كياناتنا القبلية والمذهبية والمناطقة والأيديولوجية والشعبوية…إلخ، نتحمل مسؤوليتنا في هذا، على الرغم من سعينا دائمًا، عن حق، إلى تحميل الاستبداد السياسي الراسخ، وثقافة الخوف الممتدة -منذ عقود خمسة- لمسؤولية واضحة وتدميرية فيها.

لن تدعي هذه العجالة الخوض في المسألة الكردية، ليس عن خوف وترهب، بل عن اعتراف صريح بأن المقالة لن تكون كافية للإحاطة بمثل هذا الموضوع، وستكون حمّالة أوجه، وربما أقنعة أيضًا. في المقابل، صار من الضروري طرح المسألة بعيدًا عن التخندق، وعن الأحكام المسبقة/ القطعية، وعن عبارات الإقصاء، كوصف مجموعة سكانية أساسية بالضيوف أو بالمهاجرين من جهة، أو كإشارة إلى أصول قومية غالبة وتسميات شاملة لا تستثني تاريخًا ولا مكوّنًا.

قال الكاتب الفرنسي إيميل زولا في نهاية القرن التاسع عشر: “إنني أتهم!” وكانت جملته هذه عنوانًا لمقالة أدان فيها صمت أغلبية مجتمعه عما حصل من ظلم قائم على تمييز ديني بحق الضابط “دريفوس” لأنه يهودي؛ وعلى كل عربيٍ وكرديٍ، ومن لا يبحث عن تعريفٍ قومي ولا مذهبي، بل عن انتماءٍ وطني، أن يقف مع نفسه اليوم ويقول: إنني أتهم كل من وصل بنا إلى هذا الدمار الانتمائي، وهذا الضياع الهوياتي، وهذه الضحالة التاريخية. المتهم ليس واحدًا، ولكنه ليس الآخر وحسب وحتمًا. الكل متهم، وابتداءً من هذه القناعة، يمكن أن تنطلق عملية المراجعة. هي طوباوية لن تحلو لكثيرين، ولكن لا مناص منها في السعي إلى تجاوز الإرث البعثي، وتجنّب التخندق العبثي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads