محمود جديد(عن الحياة) نشرت «الحياة» في ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠١٦ مقالاً للسيد خالد الدخيل بعنوان « من صلاح جديد إلى بشار الأسد» ، يزجّ فيه نف...
محمود جديد(عن الحياة)
نشرت «الحياة» في ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠١٦ مقالاً للسيد خالد الدخيل بعنوان «من صلاح جديد إلى بشار الأسد»، يزجّ فيه نفسه في ظاهرة يتعدّى عمرها العقود الأربعة وتتمثّل في توجيه الأسهم الظالمة إلى المرحوم الشهيد صلاح جديد كلما مرّت سورية بمنعطف حاد، علماً أنّ الرجل رحل في عام ١٩٩٣، وكان رهن اعتقال دام ٢٣ سنة لم يتعرض خلالها لمحاكمة أو حتى لاتهام، وأنّه لم يتسلّم قطّ منصباً تنفيذياً يمكّنه من اتخاذ قرارات فردية تتعلّق بالشأن العام، ولا أعني بكلامي هذا القفز عن دوره المهم في الحياة السياسية السورية منذ عام ١٩٦٣ وحتى عام ١٩٧٠ والذي مارسه من خلال قيادة جماعية، بعيداً من أضواء السلطة.
تتّسم الظاهرة المذكورة بلجوء المستهدِفين إلى القيل والقال، والتلفيق والتزوير، فلا نجد إشارة إلى قرار مكتوب اتخذه الرجل، أو كلمة تفوّه بها أمام ملأ، أو إلى تصريح إعلامي، أو ممارسة بعينها. ولا يخرج الدخيل عن هذا، إذ يعتمد في محاولته تشويه سمعة اللواء صلاح على ما ذكره سامي الجندي في كتابه «البعث» وعلى جملة واحدة لباتريك سيل.
يقول الجندي عن صلاح جديد في تلفيقٍ أول يورده الدخيل أنّه كان معروفاً عنه أنّه «يكره الوساطات والشفاعات والتدخّل في القضايا الفردية، ولكنّك تلمس أثره في كل قضية فردية. عُرف عنه أنّه ضدّ العائلية، وبحثت في الأمر فلم أجد أحداً من عائلته بلغ الـ١٨ إلّا وعُيّن في وظيفة». والحال، إنَّ كثيراً من المحترمين الذين اختلفوا سياسياً مع اللواء صلاح، أنصفوا أخلاقه ومناقبيته وسلوكه، منهم منيف الرزاز، الأمين العام لحزب البعث قبل ٢٣ شباط (فبراير) ١٩٦٦، في كتابه «التجربة المرّة»، والوزير اللواء غسان حدّاد الذي كان رئيسه في إدارة شؤون الضباط (لا يزال على قيد الحياة) في كتابه «أوراق شامية». لكنّ الجندي وجّه اتهامه من دون أن يعرض اسماً أو وظيفة بعينها، ومن دون أن يوضح كيف أجرى بحثه المزعوم، ومتى، ومع من؟ وهنا أناشد كلّ مهتمّ، صديقاً أم خصماً لصلاح جديد، أنّ يحدد، خلال سبع سنوات من مشاركته في السلطة، أيّ اسم من أفراد أسرته الصغيرة والكبيرة تسلّم منصباً يُذكَر أو لعب دوراً بارزاً في الاقتصاد والمجتمع؟ (في المناسبة، المرحوم العقيد عزت جديد ليس قريبه)، مع أنّه لم يكن مطلوباً، بالطبع، أن يسعى الى تجريد أفراد أسرته من مواطنتهم وحقوقهم المدنية.
يمكنني أن أؤكد شخصياً أنّ صلاح جديد، فضلاً عن دوره البارز في الأوامر الحزبية التي تضع حدّاً لتجاوزات الضباط والمسؤولين وتدخلاتهم (مع أن هذه الأخيرة كانت محدودة جدّاً)، لم يتدخّل لتوظيف أيّ فرد من أسرته في وظائف الدولة البسيطة التي شغلها بعضهم، في حين كان كثيرون منهم خارج الوظائف مقيمين في قريتهم. بل إنّه حاسب قريباً له حاول التوسط لدى أطباء عسكريين لإعفائه من الخدمة الوطنية، وطلب إحضاره فوراً واقتياده مخفوراً إلى أبعد مركز تدريب عسكري. وأذكر أنّه كلّفني أثناء إجازة لي في اللاذقية وكنتُ ضابطاً، بأن أزور ابنَي دورتي، رئيسي فرع الاستخبارات العسكرية والشعبة السياسية هناك، وأطلب منهما باسمه عدم إفساح المجال لأي مخلوق أن يستغل اسمه، ومحاسبته على ذلك. وحين سعى أخوه الأصغر، المنتسب حديثاً إلى كلية الحقوق في جامعة دمشق والمقيم في منزله، إلى العمل، وعُيّن في وظيفة صغيرة في الإذاعة والتلفزيون، وكان مديرها آنذاك المرحوم الشاعر علي الجندي، أخو سامي الجندي، وعلم صلاح بذلك اتصل بعليّ طالباً تسريح أخيه لأنه لا يحتاج هذه الوظيفة التي يمكن أن تنقذ أسرة محتاجة إذا كانت ضرورية وشاغرة. وهذا ما رواه علي الجندي نفسه بحضور ممدوح عدوان في منزل إبراهيم ماخوس، عندما كانا في زيارته أثناء وجودهما في الجزائر للمشاركة في مؤتمر الأدباء العرب، وقد كتبتُ ذلك عندما كانوا جميعهم أحياء. ولعلّ سامي الجندي سمع ذلك من أخيه، من دون أن يمنعه ذلك من تشويه صورة صلاح جديد الناصعة بعد خلافه مع قيادة الحزب وعزله من منصبه الديبلوماسي.
لم يمتلك صلاح جديد سيارةً قطّ، لا هو ولا أي فرد في أسرته حتى عام١٩٧٠. ولم تستخدم أسرته سيارات الدولة، ولم تُخصَّص حراسات لأولاده. وكان ممن وقفوا وراء إصدار قرار حزبي يُحْرَم فيه أي موظّف أو ضابط حزبي يُرَفّع ترفيعاً استثنائياً في عمله أو رتبته من أيّ زيادة مادية في مرتّبه الشهري، وكان أوّل مَن طبّق ذلك على نفسه، فبقي يأخذ مرتّب عقيد عندما بات لواءً. وعندما أحيل على التقاعد وتفرّغ للعمل الحزبي، أميناً قطرياً مساعداً ثم أميناً عاماً مساعداً للحزب، بقي يتقاضى راتبه التقاعدي فحسب (ألف ليرة سورية).
يجنّد الدخيل ضدّ صلاح جديد عبارةً عامة لباتريك سيل عن الطائفية والعلويين، لكنه يتجاهل شهادة سيل التي تقول: «كان صلاح جديد ذكيّاً ذا مبادئ وله آراء واضحة اليسارية، وكان معروفاً بأنّ له أخلاقاً شخصية عالية، ولم يكن مهتماً بالثروة، ولا حتى بالراحة والتنعّم، بل كان يعيش في شقة بسيطة قيل أنّ أثاثها كانت قيمته تعادل أقل من مائة جنيه استرليني. هذا الزعيم الجديد لم يشاهده أحد يلعب النرد، أو يرتشف فنجاناً من القهوة التركية في مقاهي دمشق الظليلة في الهواء الطلق كبعض زملائه. كان يأتي إلى مكتبه مبكّراً ويغادره في وقت متأخّر. كان طبع حكومة جديد وشعورها الوطني والقومي محمومَين ساخنَين، وكان إحساسها بالقضية الفلسطينية عميقاً، وقد احتلّت تلك القضية مكاناً مركزيّاً في عقيدة البعث، وعندما ظهر المقاومون الفلسطينيون رأى فيهم نظام جديد رجالاً ثوريين ورحّب بهم، فصلاح جديد وفريقه كانوا على وجه العموم شرفاء نزيهين، ولم تكن منجزاتهم سيئّة أو ضارّة بالسمعة».
يبدو أنّ الدخيل لا يفرّق، ولا يجد تناقضاً، بين أن تكون يسارياً ذا أخلاق عالية ووطنياً وقومياً وبين أن تكون طائفياً. وهو يشير أيضاً إلى بعض «حواديت» عن الطائفية يوردها الجندي على أساس أنّها جرت بينه وبين اللواء صلاح. لكن العلاقة الشخصية بين الرجلين لم تكن على مستوى يتيح تمرير مثل تلك العبارات حتى ولو مزاحاً. وفي المقابل، فإنَّ المرحوم عبد الكريم الجندي- قريب سامي الذي كان أشدّ حزماً حيال ممارسات هذا الأخير حين عمل سفيراً في باريس، وكان من أعزّ أصدقاء صلاح وأقربهم إليه وأكثرهم معرفة به، فضلاً عمّا كان يتيحه عمله مديراً للاستخبارات من جمع كثير من المعلومات- لم يمسّ صلاحاً بحرفٍ في وصيته الشهيرة التي كتبها حين قرّر الانتحار كي لا يقع بيد من كانوا يحاصرون منزله بأمر من رفعت الأسد.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّه ما من أحد عرف اللواء صلاح جديد عن قرب إلا ويعرف أنّ هذا اليساري الثوري لا يمكن أن يقبل أن يكون ممثّلاً لطائفة، أو أن يسمح بوصفه بهذا الدور، أو أن يتقبّل ولو بدء نقاش حول ذلك. وكان أوّل من أشار، في اجتماع لقيادة الحزب في عام ١٩٦٩، إلى ظهور ممارسات طائفية في الجيش. ذلك أنّ حقيقة الرجل كانت تتمثّل في سعيه إلى مشروع قومي عربي يتخطّى كلّ طائفية ومذهبية وعشائرية وقبلية وإقليمية.
يورد الدخيل من عند الجندي أيضاً دسّةً تقول: «كان صلاح جديد يكره عبد الناصر حتى الموت، ويتهمه بأنّه كان وراء مقتل أخيه». وهنا يُلاحَظ أنّ الجندي لم ينتبه في دسّته إلى أنّ اغتيال المرحوم غسان جديد كان في بيروت يوم ١٩- ٢- ١٩٥٧، قبل عام من قيام الوحدة بين مصر وسورية. وهو لا يذكر أي برهان على الكره المزعوم تصرّفاً أو حديثاً أو موقفاً (كيف يمكن توصيف شعور الكراهية من دون ذلك؟!). كما أنّه يتجاهل التغيّر الجذري في العلاقة بين عبد الناصر و «البعث» بعد قيام حركة ٢٣ شباط في سورية عام ١٩٦٦، إذ عادت تلك العلاقة إلى مسارها الصحيح، فتتالت زيارات قادة البعث إلى القاهرة وتفاعلهم المباشر مع عبد الناصر، الأمر الذي توضّحه الصور المفعمة بالدفء والمحبّة والاحترام المتبادل الملتقطة لعبدالناصر مع نور الدين الأتاسي وصلاح جديد ويوسف زعيّن وإبراهيم ماخوس ومحمد رباح الطويل. وكان عبد الناصر يصرّ في كثير من الأحيان على استقبالهم في منزله، تعبيراً منه عن مزيد من الاحترام والتقدير. وتطوّرت العلاقات بين القاهرة ودمشق الى درجة التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك، وطرح القيادة السورية مشاريع وحدوية تضم مصر وسورية والعراق والجزائر. ومن أبلغ البراهين على تلك العلاقة الطيّب، ما أفضى به عبد الناصر لجمال الأتاسي وسامي الدروبي (سفير سوريّة في القاهرة) من انتقاده للقيادة الناصرية التي تحالفت مع أكرم الحوراني ضدّ قيادة بعث ٢٣ شباط، وطلبه من الأتاسي العودة إلى دمشق والتعاون معهم لأنّهم «أشرف وأنظف طاقم سياسي حكَم دمشق» وفق قوله. وقد قدّم الدكتور الدروبي تقريراً بذلك إلى وزارة الخارجية السورية، كما سمعتُ ذلك أيضاً من كادرين من حزب الاتحاد الاشتراكي وهما حيّان.
أخيراً، كان حريّاً بالسيّد خالد الدخيل أن لا يضع الجاني والمجني عليه في سلّة واحدة وكأنّهما ظاهرة واحدة متكاملة من دون تفريق بينهما، وأن يعالج الأمر بموضوعية وإنصاف بدلاً من المشاركة في التشهير الظالم بحقّ أناس شرفاء لا يعرفهم جيّداً.
* قيادي في «حزب البعث الديموقراطي»
ليست هناك تعليقات