تحقيقات وتقارير سياسية جيرون- آلاء عوض
أثار تماسك الجيش الأسدي النسبي لما يزيد على خمس سنوات، تساؤلات لدى الشارع السوري المؤيد والمعارض على حد سواء، الذي بات يعتقد أن قوة الجيش هي التي ساهمت في صموده، والنظام معًا، بحسبان أن الجيش مؤسسة مرتبطة بالنظام ارتباطًا وثيقًا، ولا تملك كيانًا مستقلًّا، وباتت تتردّد عبارات، من قبيل أن الجيش، وبمساعدة الميليشيات الأخرى، يمتلك زمام الأمور، ولكن المحللين والمفكرين كان لهم رأي آخر، وبحسب تقرير صادر عن “مركز كارنيغي للشرق الأوسط”، جاء فيه عن مواطن القوة والضعف في الجيش الأسدي، فإن “الجيش (السوري) لم يكن مُهيئًا قتاليًا عندما اندلعت (الأزمة) الحالية في البلاد، في ربيع العام 2011، فعقودٌ من الفساد جرّدت الجيش (العربي السوري) من احترافه القتالي والعمليّاتي، ومع ذلك، استطاع أن يصمد بعد خمس سنوات في وجه ثورةٍ شعبيةٍ حاشدة، وحربٍ متعدّدة الجبهات، وعشرات آلاف الانشقاقات”.
يفسّر كاتب التقرير، خضر خضور، أن العوامل التي سلبت الجيش قدرته القتالية في حقبة السلم، صارت قوّته الرئيسة في الحرب، حيث تحوّلت شبكات الزبائنية والمحسوبية في الجيش، والتي تعود إلى ما قبل الحرب، إلى سلسلةٍ موازيةٍ من القيادة تشدّ عضد النظام وتقوّيه.
الفساد أتاح للنظام اختراق المؤسسة العسكرية بكل سلاسة
استطاع حافظ الأسد منذ تسلّمه منصب القائد العام للجيش والقوات المسلحة في العام 1970، أن يبني شبكة متراصّة من الضباط، الذين منحوه ولاءهم؛ للحصول على الترقيات والمنافع المادية، وعامًا تلو الآخر تفشّت حالة الفساد هذه، وأصبحت السياسة العامة لمؤسسات الجيش، التي انشغل ضباطها بالحصول على الترقيات المادية والاجتماعية، أما عملية التطوير للهيكليّات، فصارت من المنسيّات، وبحسب التقرير الصادر عن (كارنيغي)، منتصف آذار من العام الحالي، فإن ” المزايا الاجتماعية والمالية لضباط الجيش كانت أمرًا شائعًا، وعلى وجه الخصوص، عزّزت البرامج الاقتصادية النيوليبرالية التي وضعها الأسد طبقةً جديدةً من شخصيات النظام ومستثمري القطاع الخاص، وشجّعت الروابط بينهم، ما أثرى بعض الضباط من ذوي الرتب العالية”.
تؤكد العديد من المشروعات التجارية، الصلات القوية بين عناصر مؤسسات الجيش والدولة، ومنها مشروعات شراء السيارات التي كانت متاحة للضباط بلا ضريبة، وبالتعاون مع رجال أعمال أثرياء، وتحت غطاء الدولة، الأمر الذي أتاح للضباط استفادتهم من شراء سيارات بلا ضريبة، ومن ثم عرضها للبيع بأضعاف سعرها الحقيقي.
مع الوقت، تراجع الجيش السوري وأصبح يشبه أي مؤسسة بيروقراطية حكومية أخرى، حيث أمسى الطموح الأول للعاملين فيه تحسين مواقعهم لتحقيق الكسب الشخصي، ولا سيما أن رواتبهم كانت متدنّية، فصاروا يسمحون للمجنّدين الأثرياء بالتملّص من الخدمة الإلزامية لأشهر طويلة مقابل رشاوى، وقد أصبحت هذه الممارسة شائعةً، إلى حدّ أنها سُمِّيَت بالعامية بـ”التفييش”، دلالةً على الملف الرسمي الذي يفتحه ضابط في ما يتعلّق بشخص معيّن، إضافة إلى قبولهم الهدايا الثمينة، واستخدامهم المجنّدين للقيام بإصلاحات في منازلهم مجانًا، ويحصل الأخيرين على إجازات وهروب من التدريبات العسكرية الواجبة مقابل ذلك.
بحسب تقرير (كارنيغي)، فإن هذا التراجع ساهم في بناء شبكات وخلايا للنظام داخل المؤسسات العسكرية، فاستطاع أن يسيطر على أقسام سلك الضباط التي عارضت قمع الجيش للمعارضة، وأفاد التقرير: “لم يكن لانشقاق أكثر من 3000 ضابط، معظمهم من السنّة، خلال العام 2011، تأثيرٌ ضارٌّ يُذكَر على تماسك الجيش وقدرته العملياتية، بما أن الهياكل الرسمية التي عمل فيها هؤلاء الضباط سابقًا لم تكن أساسيةً لأداء الجيش، وهكذا برزت شبكات المحسوبية، بصفتها سلسلة القيادة غير الرسمية للنظام بحكم الواقع، حالما تعسكرت الأزمة في العام 2012 كان في مقدور النظام أن يصدر الأوامر عبر نظام فعّال قائم على شخصيات موثوقة، ترتبط ببعضها بعضًا -بشكلٍ وثيق- عبر صلات عائلية وطائفية، وبمصالح تجارية ومالية مشتركة”.
الاعتماد على جماعات شبه عسكرية والتدخّل الخارجي
ساعد اعتماد الجيش على مجموعات (شبه عسكرية)، والمقصود بها المجموعات التي لا تخضع للخدمة الإلزامية، ولا ترتبط بشكل مباشر بالمؤسسة العسكرية، لكنها تحت نظرها، كـ “قوات الدفاع المدني” في حمص، بقيادة صقر رستم، على بقائه وصموده، وتفاديه خساراتٍ كبرى، حيث كان يعتمد على هذه الجماعات للقتال في الصفوف الأمامية، بينما كان هو يدعمها من الخلف، وعلى استعداد لبسط سيطرته عند توقّف القتال، ولمّا كانت المجموعات شبه العسكرية تدير إجمالًا العملية البريّة، استطاع النظام التركيز أكثر على تسلّحه وقوته الجوية المتفوّقَين.
في البداية لم يكن الجيش يسمح لهذه المجموعات باقتناء الأسلحة الثقيلة، فقد كانت تُعطى أسلحة خفيفة ومتوسطة، ليبقى هو الأقوى والمسيطر، ولكن مع الوقت وعندما اكتشف أن هذه المجموعات تحميه من الخسارات، أمدّها بالأسلحة الثقيلة منذ العام 2012، وأفاد تقرير (كارنيغي) “أنه يُسمح للقوات الفرعية والقوات الأخرى التي تقتضي الضرورةُ إنشاءها، بالقتال إلى جانب الجيش، وتقع الميليشيات في الفئة الأخيرة، لأنها تُعدّ مجموعات مسلحةً مستقلةً، تعمل في إطار الجيش، ويُذكَر أن الجيش عبّأ مجنّدين؛ لإنشاء مجموعات شبه عسكرية، بدت مستقلة ولكنها في الواقع كانت تعمل تحت إشرافه”.
في سياق متصل، كان النظام يُسارع إلى التدخّل في الحالات التي شهدت نشوب نزاع بين المجموعات شبه العسكرية وبين الجيش، فكان يحلّ الخلاف العالق بينهما لصالح الجيش؛ لتجنب استطرادها بالقوة؛ وبالتالي، تشكيلها خطرًا عليه، وعندما كان يشعر أن هناك مجموعة ازدادت قوتها بالعدد والعتاد، يقوم بتشتيتها وتفرقتها؛ ليُضعف نفوذها.
من جهة أخرى، شكّلت المساندة الخارجية من داعمي النظام الدوليّين والإقليميين، روسيا وإيران، عاملاً أساسيًا في تمكين الجيش من التأقلم طوال الصراع، ولا سيما المساعدة المالية والموارد البشرية، فقد زوّد كلٌّ من الحليفين الجيش بالدعم اللوجستي، إضافة إلى تشكيل أسلاك شبه عسكرية جديدة لا تُحصى، تقوّي الجيش ولا تحلّ محلّه، وتواصل دعم روسيا للجيش الأسدي في الصراع الحالي، ففي شهر كانون الثاني/ يناير 2012 وحده، تلقّى النظام 60 طنًّا من الذخيرة من موسكو.
كان لتدخّل هذين الحليفين أثرٌ بارزٌ أيضًا في تفكيك هوية الجيش (السوري)، وتقديمه المصلحة على الثوابت الوطنية، فحلّت الانتهازية محلّ الاحترافية والعقيدة العسكرية، وبحسب تقرير (كارنيغي)، “غالبًا ما غيّر الضباط السوريون حلّتهم وسلوكهم وفقًا للجيش الخارجي الذين يعملون معه، فالضباط الذين يخدمون في الفرق التي تتلقّى مساعدةً عسكريةً روسية، يستخدمون المصطلحات العسكرية الروسية، في حين من الشائع أن يزرّر أولئك الذين ينسّقون مع مستشارين إيرانيين ياقات قمصانهم، كما في اللباس المعتمد للحرس الثوري الإيراني”.
نظام (القطع) والصلاحيات الكبرى
قُسِّم الجيش إلى قطعٍ عسكرية متعددة، ومُنحت كل قطعة صلاحيات تفوق المعتاد، مقابل منافع كثيرة، وجرى تقسيمها بشكل يضمن السيطرة على كل المحافظات السورية، فيمتدّ نفوذ كل واحدة منها في منطقة، ولا تتقاطع إلا نادرًا، وفي هذا السياق أورد التقرير ما يلي “صمد الجيش في بقاع أساسية من الأراضي في وجه تقدّم المعارضة منذ العام 2012، وذلك جزئيًا، بفضل تنظيمه المناطقي للفرق القتالية، فكانت كل فرقة تُعيّن في منطقة محدّدة، وفي قسمٍ من الأراضي المحيطة، تقع قيادة الفرقة، كما منشآت التدريب، ومخازن الوقود، ومستودعات الذخيرة والمعدات، والمساكن العسكرية وتشكّل هذه المنشآت، إلى جانب أي مراكز سكانية ومنشآت مدنية مجاورة تقع ضمن منطقة عمليات الفرقة، وحدةً إداريةً معقّدةً تُعرَف بالقطّاع، ومن خلال تَحصّن كل فرقة في قطّاع ما، تصبح مهنة الضابط وحياته متشابكتَين مع فرقة الجيش المحدّدة والقطاع حيث يوجد الضابط والفرقة، وهذا الأمر حال دون انشقاق الضباط، وفي المقابل، يمنح الجيش قائد الفرقة تفويضًا مطلقًا للتصرّف بالمنطقة التي يُشرف عليها، وقد أُضفي الطابع الرسمي على هذه الصلاحية في باب القانون العسكري السوري، المتعلّق بمسؤوليات الضباط، وينصّ على أن القائد يستطيع التعامل مع أي حدثْ ضمن قطاعه، من دون طلب إذن القيادة (وزارة الدفاع في دمشق)، إن لم يكن ثمة تواصل أو في الحالات الطارئة”.
ضاحية الأسد أنموذجًا
أورد تقرير صادر عن مؤسسة “غيتو”، بعنوان “ضبّاط الأسد: لماذا لايزال الجيش السوري مواليًا؟”، الأسباب والدوافع الكامنة وراء موقف الضباط الإيجابي إلى الآن من النظام، وبيّن أن جزءًا من الأسباب مرتبط بالطائفة، بحقيقة أن أغلبهم من الطائفة العلوية، ولكنه خلُص إلى وجود أسباب أخرى، كالمنافع المادية والمكانة الاجتماعية التي استطاع الضباط كسبها من النظام وشخوصه ومؤسساته، وفي هذا المعنى، أفاد التقرير: “تكشف ضاحية الأسد في شمال شرق دمشق، وهي أكبر مجمّع سكن عسكري، كيف يعمل النظام، فهذا المجمّع الذي يُعرف باللغة المحكية السورية بـ (الضاحية) يوفّر للضباط فرصة تملُّك عقار في دمشق، وبما أن العديد من الضباط يتحدّرون من خلفيات ريفية مُفقَرَة، فإن تملُّك منزل في العاصمة يتجاوز إمكانياتهم المالية، ومشاريع السكن العسكري منحتهم فرصة الترقي الاجتماعي أيضًا”.
لقد فهم الضباط أن حياتهم في دمشق مشروطة ببقاء النظام، فعدّوا الثورة تهديدًا شخصيًا لأصولهم المادية ونمط حياتهم، وما جعل سلك الضباط متماسكًا، هو -إلى حدٍّ بعيد- مسألة حماية نظام النفعيات، لا الالتزام بولاء أيديولوجي صارم، وبحسب تقرير (غيتو)، فإنه على الرغم من حدوث انشقاقات فردية في صفوف الضباط الذين يعيشون خارج نظام السكن العسكري، إلا أنه لم تُسجَّل، منذ أواسط 2015، سوى حادثة واحدة، ترك فيها ضابط ضاحية الأسد؛ كي ينضم إلى المعارضة، وهذا الضابط كان متقاعدًا.
من الواضح أن النظام لم يخطّط لجعل (ضاحية الأسد) ثكنة عسكرية، ولكن أسلوبه الفوضوي، والقائم على زرع الفتن بين الضباط والمحسوبية والزبائنية، جعلت من هذه المنطقة مرتعًا لمؤيديه، ليس حبًا به، وإنما لحماية مصالحهم، ومستقبل أولادهم الذي أصبح مرهونًا بوجودهم في العاصمة دمشق، وعدم عودتهم إلى قراهم الفقيرة.
لقد بات الجيش خلال سنوات الثورة أكثر فسادًا وانعزالًا عن المجتمع، وأدّى تجريده من الاحترافية والمهنية إلى اعتماد ضباطه عليه وليس العكس، فلم يبقَ أمام الضباط خيار إلا التواطؤ مع شبكات النظام، واستغلال الفساد؛ للتعويض عن رواتبهم المنخفضة.
لفت تقرير(كارنيغي) الأنظار إلى أنه في السنوات الأخيرة، لم يعد يستطيع الانتساب إلى الكلية الحربية إلا أشخاص من الطائفة العلوية؛ وبالتالي، سيكون هؤلاء ضباط الجيش (السوري) المستقبلي، وأشار إلى أن “من شأن هذا التطور أن يوجّه مستقبل الجيش (السوري) بشكلٍ يشغل صفوفَه العليا علويون من الساحل، بغضّ النظر عما إذا كان النظام سيبقى أم لا”.