بكر صدقي
Sep 22, 2016
أثار الاعتداء على سيدة داخل حافلة مترو في اسطنبول، بسبب ارتدائها شورت، ردود فعل واسعة في الرأي العام التركي، معيداً إلى الأذهان ما أسماه عالم الاجتماع شريف ماردين بـ»ضغط العامل المحلي». وقصد به ذلك الضغط غير المنظور الذي يمارسه المجتمع التقليدي المحافظ ويؤدي إلى استسلام العناصر «المارقة» عليه. كأن تتحرج المرأة من ارتداء ملابس كاشفة، فتمارس بذلك رقابة ذاتية خضوعاً للضغط المذكور. بيد أن الحادثة تتجاوز مجرد الضغط المعنوي المحافظ إلى تجرؤ على الاعتداء المباشر، مقابل عدم امتثال الضحية للضغط المعنوي المحافظ.
ليس هناك ما يشير، في المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام، إلى صدور المعتدي عن نزعة محافظة أو دوافع دينية أو أخلاقية أياً تكن، بقدر ما تُجمِع على أن فعلته هي نوع من التحرش العنيف الصادر عن استهتار بحياة الناس. فقد قال في إفادته: «لو أنها لبست بنطالاً، لما تسببت بإثارتي»!
مع ذلك، يمكن الافتراض أن هذا الرجل -وهو نموذج قابل للتكرار- ما كان تجرأ على فعل ما فعل لولا عوامل مشجعة وجدها في بيئة المجتمع التركي الذي يتواتر، في الدراسات السوسيولوجية، أنه يزداد محافظةً باطراد. وهناك ارتباط لا يمكن تجاهله بين صعود حزب العدالة والتنمية واتساع رقعة المحافظة الاجتماعية، في غضون سنوات الألفية الجديدة المنصرمة. ولا أدل على ذلك من التحالف المديد الذي قام بين حزب السلطة ذي الخلفية الإسلامية وجماعة فتح الله غولن، قبل انفراط عقده وتحول العلاقة إلى حرب ضروس وجدت ذروتها في المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز/يوليو الماضي.
فما أعقب المحاولة الانقلابية من تصفيات مهولة في أجهزة الدولة ومؤسساتها، تجاوزت أعداد ضحاياها مئة ألف من المواطنين الأتراك، يكشف حجم تغلغل الجماعة الدينية في بنية الدولة، إضافة إلى المجتمع المدني. هذا إذا لم نذكر وجود عشرات الجماعات الدينية الأخرى الأصغر حجماً، يدور بعض النقاش اليوم حول مصيرها وكيفية تجنب مخاطرها المحتملة في المستقبل، ويقترح البعض انتقالها من الغُفلة إلى العلنية تحت رقابة الدولة على مثال النموذج المصري.
تذكرنا حادثة الاعتداء على المرأة ذات الشورت، بالمقابل، بالحجاب الذي كُبِتَ، طوال عقود، من الظهور في الفضاء العام، ومنع قانوناً من دخول مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجامعات. وشكل النضال ضد هذا الحرمان التعسفي أحد أبرز وجوه النضال الديمقراطي العام. ويسجل لحزب العدالة والتنمية، بدعم من حلفائه الليبراليين آنذاك، نجاحه في رفع هذه المظلمة بحق النساء المحجبات.
ولكن بدلاً من أن يشكل هذا النجاح حافزاً للسلطة لتحقيق مزيد من التحولات الديمقراطية، في مختلف المجالات، كان منطلقاً لتكريس نزعات اجتماعية محافظة في مجتمع اخترقته الحداثة، بمختلف تجلياتها، على مدى تاريخ الجمهورية، بل منذ عصر التنظيمات. وهكذا تحولت إصلاحات العدالة والتنمية، في عهدها المبكر، إلى ما يشبه النزعة الثأرية من الإيديولوجيا الكمالية. إلى درجة أن علمانية النظام السياسي باتت محل تساؤل ومراجعة على ألسنة بعض أركان النظام الجديد.
الطريف في الأمر أن «الدولة» اليوم، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة بصورة خاصة، أصبحت وكأنها تستأنف حرباً قديمة سبق وخاضها أتاتورك، في مطلع عهده، ضد الجماعات والزوايا والطرق الدينية. وذلك بعد صراعها المديد ضد التيار العلماني والوصاية العسكرية على الحياة السياسية، وانتصارها الكامل عليهما. المؤسسة العسكرية التي من المفترض أنه تم تطهيرها من أتباع فتح الله غولن، فقدت الكثير من اعتبارها لدى الرأي العام، وكذا هي حال حزب الشعب الجمهوري، وريث التركة الكمالية، الذي بدا، بمسلكه السياسي بعد الانقلاب الفاشل، مثل أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» في نظام الأسد في سوريا، مجرد تابع ملتحق بسلطة خصمه السياسي.
ذات مرة، قبل بضع سنوات، قال بولند أرنج، من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، إن على النساء التركيات أن يمتنعن عن القهقهة علناً بصوت مرتفع، ويلتزمن حدود الحشمة بما يتسق مع القيم الاجتماعية التركية. وجاء الرد عليه بطرافة كثير من الوقائع في الحياة العامة في تركيا: تجمعات نسائية في الشارع تطلق قهقهات صاخبة!
ترى هل يمكن توقع مظاهرات نسائية بالشورت احتجاجاً على الحادثة موضوع المقال، أم أن ارتداء الشورت والثياب الكاشفة عموماً سيلاقي تراجعاً تحت وطأة الخوف؟ ذلك لأن الضغط الاجتماعي المحافظ يثير الخوف أكثر من «تعليمات» رجل السياسة الذي طرده الزمن خارج حلبة السلطة منذ سنوات.
ليس هناك ما يشير، في المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام، إلى صدور المعتدي عن نزعة محافظة أو دوافع دينية أو أخلاقية أياً تكن، بقدر ما تُجمِع على أن فعلته هي نوع من التحرش العنيف الصادر عن استهتار بحياة الناس. فقد قال في إفادته: «لو أنها لبست بنطالاً، لما تسببت بإثارتي»!
مع ذلك، يمكن الافتراض أن هذا الرجل -وهو نموذج قابل للتكرار- ما كان تجرأ على فعل ما فعل لولا عوامل مشجعة وجدها في بيئة المجتمع التركي الذي يتواتر، في الدراسات السوسيولوجية، أنه يزداد محافظةً باطراد. وهناك ارتباط لا يمكن تجاهله بين صعود حزب العدالة والتنمية واتساع رقعة المحافظة الاجتماعية، في غضون سنوات الألفية الجديدة المنصرمة. ولا أدل على ذلك من التحالف المديد الذي قام بين حزب السلطة ذي الخلفية الإسلامية وجماعة فتح الله غولن، قبل انفراط عقده وتحول العلاقة إلى حرب ضروس وجدت ذروتها في المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز/يوليو الماضي.
فما أعقب المحاولة الانقلابية من تصفيات مهولة في أجهزة الدولة ومؤسساتها، تجاوزت أعداد ضحاياها مئة ألف من المواطنين الأتراك، يكشف حجم تغلغل الجماعة الدينية في بنية الدولة، إضافة إلى المجتمع المدني. هذا إذا لم نذكر وجود عشرات الجماعات الدينية الأخرى الأصغر حجماً، يدور بعض النقاش اليوم حول مصيرها وكيفية تجنب مخاطرها المحتملة في المستقبل، ويقترح البعض انتقالها من الغُفلة إلى العلنية تحت رقابة الدولة على مثال النموذج المصري.
تذكرنا حادثة الاعتداء على المرأة ذات الشورت، بالمقابل، بالحجاب الذي كُبِتَ، طوال عقود، من الظهور في الفضاء العام، ومنع قانوناً من دخول مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجامعات. وشكل النضال ضد هذا الحرمان التعسفي أحد أبرز وجوه النضال الديمقراطي العام. ويسجل لحزب العدالة والتنمية، بدعم من حلفائه الليبراليين آنذاك، نجاحه في رفع هذه المظلمة بحق النساء المحجبات.
ولكن بدلاً من أن يشكل هذا النجاح حافزاً للسلطة لتحقيق مزيد من التحولات الديمقراطية، في مختلف المجالات، كان منطلقاً لتكريس نزعات اجتماعية محافظة في مجتمع اخترقته الحداثة، بمختلف تجلياتها، على مدى تاريخ الجمهورية، بل منذ عصر التنظيمات. وهكذا تحولت إصلاحات العدالة والتنمية، في عهدها المبكر، إلى ما يشبه النزعة الثأرية من الإيديولوجيا الكمالية. إلى درجة أن علمانية النظام السياسي باتت محل تساؤل ومراجعة على ألسنة بعض أركان النظام الجديد.
الطريف في الأمر أن «الدولة» اليوم، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة بصورة خاصة، أصبحت وكأنها تستأنف حرباً قديمة سبق وخاضها أتاتورك، في مطلع عهده، ضد الجماعات والزوايا والطرق الدينية. وذلك بعد صراعها المديد ضد التيار العلماني والوصاية العسكرية على الحياة السياسية، وانتصارها الكامل عليهما. المؤسسة العسكرية التي من المفترض أنه تم تطهيرها من أتباع فتح الله غولن، فقدت الكثير من اعتبارها لدى الرأي العام، وكذا هي حال حزب الشعب الجمهوري، وريث التركة الكمالية، الذي بدا، بمسلكه السياسي بعد الانقلاب الفاشل، مثل أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» في نظام الأسد في سوريا، مجرد تابع ملتحق بسلطة خصمه السياسي.
ذات مرة، قبل بضع سنوات، قال بولند أرنج، من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، إن على النساء التركيات أن يمتنعن عن القهقهة علناً بصوت مرتفع، ويلتزمن حدود الحشمة بما يتسق مع القيم الاجتماعية التركية. وجاء الرد عليه بطرافة كثير من الوقائع في الحياة العامة في تركيا: تجمعات نسائية في الشارع تطلق قهقهات صاخبة!
ترى هل يمكن توقع مظاهرات نسائية بالشورت احتجاجاً على الحادثة موضوع المقال، أم أن ارتداء الشورت والثياب الكاشفة عموماً سيلاقي تراجعاً تحت وطأة الخوف؟ ذلك لأن الضغط الاجتماعي المحافظ يثير الخوف أكثر من «تعليمات» رجل السياسة الذي طرده الزمن خارج حلبة السلطة منذ سنوات.
٭ كاتب سوري
القدس العربي