في 1909، توجه الشيخ أحمد طبارة، وهو أحد علماء بيروت ومشايخها المعروفين، إلى مسؤولي الولاية العثمانية الساحلية، ونبههم الى "حوادث( ساحة )عالصّور في أيام العيد] عيد الفطر وعيد الأضحى[ ومخالفتها الشرع والقانون"، ويحصي الشيخ – وهو أحد ضحايا مشانق قائد الجيش العثماني الرابع جمال باشا في 1915 بساحة البرج( الشهداء)على بعد مئة متر من عصّور، أو( على )السور – ما ينكره على المعيِّدين من "مخالفات" الشرع. فهؤلاء، على قوله، يقامرون، وينتهكون تحريم الميسر وألعابه. والنساء والبنات على وجه الخصوص، يتبرجن ويظهرن زينتهنّ ووجوههن للرجال، و"يتهتكن". فالاحتفال بالعيدين في الساحة، وهي كانت، الى 1850، فسحة رملية يغطي معظمها شجر الجميز الكبير والغليظ وتقوم على طرف المدينة القديمة الجنوبي بين جبانة الباشورة وبين حارات السكن المتصلة بالجامع العمري الكبير، كان لا يتم إلا بنصب الأراجيح والقلابات. ويركب الأولاد، البنات والذكور، والفتيان والفتيات، الآلات هذه فترفعهم وتهوي بهم وتدور، وتبعث الدوخة في رؤوسهم والحمى في أجسادهم. فلا مناص، على ما ذهبت إليه صحيفة "ثمرات الفنون" البيروتية، من أن "تفسد الأخلاق وتنافي الحشمة"، وقد "تكسر بعض الأعضاء". ويتخلل ركوب "المراجيح" و"الدويخات"، على ما يسميها سواد الناس وعامتهم، فنون لعب واستعراض وترفيه كثيرة تشترك في الخروج عن (وعلى) مألوف الحياة اليومية، التزمت الشرع أم لم تلتزمه. فساحة التعييد مسرح "أرباب التمثيل"، المشخصاتية والمسخراتية، ومحاكاتهم غرام الأمير والعامي، وانتقام الحاكم العادل من اللصوص والموظفين الفاسدين، وحكايات القراقوز الأخرى. ولا يقتصر الأمر على تجريد القراقوز. فينصب في الساحة سرداق كبير ترفع في صدره دكة من خشب خلفها ستارة، ويتولى عوّاد وقانونجي وطبّال توقيع رقص شرقي يؤديه فتى مموه. وينشد آخر أغاني شعبية معروفة بعضها استحدثه مسرح الريحاني المصري. ويعرض أهل الحرفة على المعيِّدين، وكثرتهم من الأولاد والنساء المختلطين المجتمعين والمتدافعين، رقص القردة والدببة والماعز. ويدعون المشاهدين المتحفزين إلى الشخوص إلى الحيوانات وهي تقلّد البشر، وتؤدي غير أدوار السخرة والخدمة التي "خلقت" لها، وجرت عادةً على أدائها. ويعرض صندوق الفرجة، وهو من جَهاز العيد، على الأعين وفضولها ورغبتها صور "العجايب والغرايب"، الأميرة بنت السلطان الآتية من القراقوز الغريب، وعنتر أبو الفوارس. وسيرته طوال رمضان القريب أفيون العشايا، والحلوة عبلة "ليتها عيونها ما تبلى" على ما يقال للعرائس من البنات والأخوات وبنات العم، و"شفافها"، على قول الأراجيز الغزلة أو الفاحشة في (البنت) الشامية المتخيلة في "خدرها" أو قصرها و"برجها" وهودجها، بنت مدن وحضر تجري في عروقها دماء بداوة حرة.
وعلى شاكلة الألعاب والعروض والمشاهد، وهي لا غاية عملية تقصد إليها وتنضبط عليها، يقترح العيد على خليط المعيدين وجماعاتهم المرتجلة، بنت لحظتها ووقتها، أكلاً لا يسد جوعاً، ولا يلبي حاجة، بل يقتصر على متعة الفم واللسان والحلق. فيجول بين الجموع باعة المخلل والكبيس والنقولات، في باب الحوامض والمملحات الطرية أو الجافة، وباعة الـ"فريسكو" وغزل البنات والمعلل، في باب السكاكر المثلجة والهوائية والممضوغة. فيأكل المعيّدون أو يمضغون ويتذوقون ما لا يقوم مقام طعام أو قوت يغذي، ويقطع حاجة الجسم إلى أود، ويترجح بين حدي الذوق، المملح والسكري ويقتصر عليهما، ويتخفف من مادة الطعام نفسها. ويختم "جحش العيد"، وهو يوم يتمم أيام الشعيرة ومعانيها المعتقدة، الاحتفال، ويمضي على المقام نفسه. فيطوف "رجل سخرة" يجر حماراً مدرَّعاً بالودع والخرز الملوَّن والأجراس، الأسواق والساحات والفسحات، ويستعطي بالرقص والغناء والإضحاك، عطاء الناس وبقية جودهم وذات يدهم، غداة طيهم تبديد العيد وقبضهم اليد المبسوطة. ويوكل إلى رجل من غير حرفة أو صناعة (توقيع موسيقى أو تدريب) ولا عوض (مأكل أو آلة) يكافئ به ما ينقده المعيِّدون، ختم اللعب المحموم والفرجة المشدودة والجياشة من غير مشاركة المشاهدين أو اجتماعهم ولا انخراطهم أو انفعالهم. فهم يدعون الى فرجة خالصة لا تخرجهم من بيوتهم ودورهم، ولا من جلودهم وأطوارهم، وتذكرهم بذكرى باردة ورخوة بالعيد وانحرافه عن جادة أو سِمْت حياة المعاملات والاعتقاد العادية والسائرة.
الداخل والخارج
والاحتفال البيروتي بالعيد على الشاكلة المادية والعملية هذه كان يقتضي الخروج من بيروت القديمة، والمسوَّرة الى خارجها القريب وظواهرها وخلائها غير المعمور. فداخل المدينة، على ما يصف بعض أهلها يومها أو يروون، "طرق ضيقة ومعوجة، عرضها نصف متر، والعريضة منها عرضها متر ونصف متر". وبعضها "مغطاة بالأقبية والقناطر، فلا يتجدد الهواء، ولا ينفذ الضياء، وتتصاعد رائحة العفونة، (فيقاسي) المارة الملاكمة والملاطمة، ولا يعدمون دابةً ترش (المار) بالوحل... أو حمالاً يلطمه بما يحمل فيرميه، أو سائق مركبة…أو قطاراً من الجمال أو قطيعاً من حمير الحجارة وأتن الطحانة...". وكانت آراء الأجانب، من رحالة وموظفين ديبلوماسيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر أو غداته بقليل، وأحكامُهم في دواخل بيروت، لا تقل قسوتها عن قسوة أهلها أو المتحدرين منهم. فإذا نحّى الزائر رأيه في الألوان والأشكال وأغفل بناء "واجهات البيوت... بحجر غير منحوت، (فـ)أخذت الأيام على عاتقها مهمة تلوينها، يعاونها في ذلك الدخان والمطر والغبار"، واستعمال "الأخشاب... كما أوجدتها الطبيعة، أي بلا صقل، (فكانت) الأبواب والنوافذ في أغلب الأحيان من لون الجدران" – إذا نحّى مرأى الأبنية والجدران، وانقيادها الى عوامل الطبيعة القاهرة، والتفت الى "تنسيق البيوت وترتيبها" وعمارتها، لاحظ ان "على من يريد ان يلجها ان يحني رأسه قليلاً أو كثيراً تبعاً لقامته". ويذهب آخر إلى أنه لم ير "غرابة وشذوذاً أكثر مما (رأى) في مدينة بيروت العربية. فمنازلها المبنية بالحجارة عالية أكثر منها في أي مدينة من مدن سوريا. وقبابها وسراديبها السرية وممراتها المظلمة، وشوارعها الضيقة الملتوية تبعث، لأول وهلة، نوعاً من الهلع في نفس السائح الذي يريد أن يطوف في أنحائها. وكل بيت هو مخبأ لا يقتحم. والحي الإسلامي على الخصوص يبدو كأنه مأهول بجماعة من المساجين (...) ويمكن القول ان كل واحد من (بيوت بيروت) يصلح أن يكون مركز دفاع".
وعلى هذا، لا يستقيم الاحتفال العامي أو "الشعبي" بعيد الفطر في أسواق المدينة وطرقها الداخلية وزواريبها وأزقتها الضيقة والمتعرجة والواطئة والقذرة، على ما يصفها أهلها المولودون فيها وأولادهم وأولاد أولادهم إلى يومنا، وعلى ما كتب فيها زوار عابرون وآخرون مقيمون أشهراً أو أعواماً، شأن بعض القناصل والتجار ربما. فضيقها لا يتسع لنصب السرادق ولا للأراجيح والقلاّبات وهي قلب الاحتفال والتعييد. وهو كان بقي، في 1908 وإلى 1914 - 1918 يشبه صورته في 1840. ولكن علةً أخرى، أقوى اعتباراً وترجيحاً وإكراهاً، حالت دون الاحتفال بالعيد على النحو الذي تقدم وصفه داخل المدينة القديمة. وهذه العلة هي وجوب بقاء دواخل المدينة، المأهولة والمعمورة، براءً من الاختلاط و"المفاسد" والانتهاكات التي لا بد من ملابستها التعييد وراء السور المتهدم وبواباته المندثرة منذ سبعة عقود (يومها). فرسوم العيد في الساحة المتطرفة، وهي متطرفة قياساً على الساحة "الرسمية"، تخالف مخالفة صريحة المعايير التي تحتكم إليها أفعال الحياة العادية وسكناتها وتزن بها أحكامها المضمرة والمعلنة. فرسوم العيد تماشي "عقول" الأولاد والنساء، ورغبات الصبيان والبنات، قبل بلوغهم الرشد والحلم. ويحمل هذا على اختلاط الذكور والإناث، من غير حرمة ولا قرابة ولا معرفة. ويدعو إلى التحلق القريب والحشرة، وتصفّح الوجوه والأجساد. ولا يستحيل في الهرج والمرج الكلام واللمس والتعقب، في غفلة عن أعين الأوصياء ورقابتهم، إذا هم كذلك لم تغلب عليهم الغفلة، ولم ينقادوا شأن أولادهم، أو أولادهن، الى هوى اللعب والنظر وإلى فورة مشاعرهما وزيغها. وإلى خلط الإناث والذكور والأولاد والبالغين والراشدين، يمزج عيد ساحة السور الجماعات، مراتبها وطبقاتها، عاليها وسافلها، خواصها وعوامها، خليطاً لا يتميز، على نقيض استقامة لا يتماسك اجتماع سوي، ديناً وأخلاقاً، إلا بها. ولا يؤمن، في ساحة مشرعة على نواح كانت لا تزال غير مأهولة في العقد الأول من القرن العشرين، تسلل الغرباء والأجانب وأهل الملل والنحل الأخرى من النواحي القريبة المسيحية، مثل الصيفي والأشرفية والرميل والقيراط (ساحة الدباس من بعد) والدحداح( جنوب هذه) ورأس النبع الشرقي. وبعض هذه النواحي مثل الصيفي والقيراط والدحداح ومحلة الدباغة (بطرف ساحة البرج الشمالي الغربي) والميناء (المرفأ) تعج بالخانات ومنازل العابرين، مثل خان الأمير أمين وخان الشرتوني وخان الكنفاني وخان الوحوش، وغيرها كثير. وشيد معظمها في دائرة تحف كالسوار ببيروت القديمة، من زقاق البلاط - الباشورة جنوباً وغرباً، والبرج (برج فخرالدين الكشّاف) والجميزة والصيفي، جنوباً فشرقاً، إلى باب الدباغة ومحلة الميناء ومقبرة الغرباء شمالاً.
عيب "العلم"
وفي وقت قريب من أواخر العقد الأول من القرن العشرين، غداة الحرب الأولى مباشرة، انتسبت سنية حبّوب، الشابة البيروتية المسلمة وبنت مصطفى حبوب، تاجر حبوب معروف و"من الوجوه البيروتية"، الى الجونيور كولدج )مدرسة بيروت الجامعية الأميركية) ثم الى مدرسة الطب في الجامعة الأميركية ببيروت. و"كانت تلبس الملاءة والحجاب"، وتذهب "وحد)ها) مستقلة الترام الى الجامعة الأميركية"، وتعود الى المنزل بعين المريسة وحدها. فعاد عليها ذهابها إلى الجامعة وعودتها منها من غير رقيب، واختلاطها بركاب الحافلة والمارة الغفل وبزملاء دراستها بـ"الانتقادات العائلية" أولاً، ثم بـ"إهانات الرجال"، وببصاقهم "في وجهـ(ـها)". وعاد على والدها بتحريم الصلاة في المسجد. واضطرها هي الى السفر الى الولايات المتحدة الأميركية ودراسة الطب هناك. وفي الأثناء، أي بين 1908 و1918، كانت شركة الترام الكهربائي سيّرت أول حافلاتها على خط باب ادريس - المنارة في 1909، وشهدت بيروت انقلابات في السكن والعمران والتعليم نتناولها من بعد. فلا ريب، والحال هذه ان الاحتفال بالعيد بساحة السور، على نحو ما مرَّ وصفه، وفي ضوء ما نال الدكتورة سنية مصطفى حبوب، على رغم أسرتها ووالدها وحجابها وملاءتها وسكنها "ضاحية" جديدة وميسورة، انتهك (الاحتفال) اعرافاً وسنناً وتقاليد راسخة فوق ما "انتهكت"، دارسة الطب المبتدئة، بعد نيف وعشرة أعوام من الاحتفال، بما لا يقاس.
وقد لا تجيز المقارنةُ بين أحوال التعييد في ساحة السور (عصّور) الطرفية، عشية اضطلاعها بوظائف اجتماعية ومكانية جديدة، وبين إقامة حسبة أهلية وجماعية على ثمرة ناضجة من ثمرات حداثة بيروت، لا تجيز الاستنتاج أن التعييد على الشاكلة التي تقدم وصفها كان يحظى برضا الأهل والجماعة، أو أنه استقر عرفاً أو أعرافاً وسنناً مقبولة. والأرجح ان تنبيه الشيخ احمد طبارة "المسؤولين"، والشيخ من نخب بيروت الإسلامية المتنورة والمنخرطة في معارضة السلطة العثمانية (وشُنق فيمن شُنقوا في ساحة البرج - الشهداء في 1915 - 1916)، وتنديد "ثمرات الفنون"، ليسا رأيين منفردين. وتسوغ الرأيين المجتمعين على الإدانة علل وحجج يتقاسمها صاحباهما مع سواد "الأهل". فليس في الأهل من يدعو علناً إلى إباحة القمار، ولو في أيام معدودة هي أيام عيد الفطر، غداة الخروج من إمساك الصوم، أو من يفتي بجواز تبرج "نسائه" وظهورهن على الناس وهن في زينة وقفها الشرع على "رجالهن"، وتشددت التقاليد العائلية والعشيرية في وقفها، وعلى الأخص في المدن والحضر عموماً. ولكن احتفال السور بطرف الأحياء والحارات، وعلى حدة من المدينة القديمة والقريبة، لم يكن، بديهة، ابتكاراً ولا ارتجالاً. و"انتهاكاته" الكثيرة، وانحراف المحتفلين الكثر عن معايير عمل مستقرة وغالبة، استوت بدورها تقاليد وأعرافاً مقيدة وقتاً (أيام عيد الفطر) ومحلاً أو مكاناً (السور القديم المندثر والفاصل بين الداخل المعمور وبين البرية الخلاء – على سبيل المثال الذهني والمعياري).
والتقييد المزدوج هذا هو ربما قرينة على "حل" النزاع بين عادات وسنن وتقاليد رائجة وشائعة، على رغم مخالفتها الشرع وأهله، وبين أحكام الشرع والأهل)" الجماعة ”(السائدة في سائر الأحوال والأيام وعمومها. و"الحل" هو نفي المخالفة والانتهاكات الى محل أو مكان غير مأهول ولا معمور، وقصرها على أيام معدودة لا يتعداها. فالمحل غير المأهول والمتطرف يخرج من سلطان الجماعة، ومن أحكامها وأعرافها "السوية". ويحل الجماعة، ومن ينوب عنها ويتولى أمرها، من المسؤولية أو التبعة عن أفعال الفاعلين. والقول أن وصف ساحة عصّور، في 1908 أو قبلها في 1880 أو حواليها على ما نرى من بعد، بالمحل غير المأهول غير صحيح ولا يصدق على الحال، قول واقعي وفقهي قياسي. وهو يُغفل قوةَ الوجه المجازي لتعريف الأمكنة، واستعمالَ الجماعة الأمكنة المتاحة استعمالاً يقدم دلالتها الرمزية والإيحائية والصورية على صفتها التقريرية والمادية الحسية. فالساحة القائمة على أنقاض السور المتهدم منذ 1840 وقصفِ الأسطول الإنكليزي بقاياه التي خربها ابراهيم باشا المصري وخلفها وراءه، وبين بعض أبوابه (باب يعقوب الى الغرب وباب الدَرَكه الى الشرق) – كانت على طرف المدينة الجنوبية. وهي "في جنباتها"، شأن المحال التي كان يترد إليها مجنون بني عامر. وليس بعدها، جنوباً وبراً أو بريَّة، إلا جبّانة الباشورة. وهي إحدى الجبّانات التي سوّرت المدينة، يوم اقتصرت هذه على نواتها الضيقة حول "المرفأ"، والأدق حول المينات (مفردها مينة )المنتشرة على الشاطئ بين نهر بيروت شرقاً وشمالاً وبين الاوزاعي غرباً وجنوباً. ويستوفي هذا الشرط الرمزي والمجازي، إذا جاز التعبير، ويستجيب مخارج الحل الوسطي ومراعاته أمرين: تجنّب تكذيب الشرع وأهله، وتفادي تحريم تقاليد وعادات عامية و"شعبية" سائرة.
ويلاحظ ان مصدري التنديد، الشيخ المتنوّر والصحيفة التي لا تقل استنارة، ليسا من "المسؤولين"، ولا من طاقم الحكم القضائي الحكم القضائي أو الإداري المأذون. وهما أقرب الى "المجتمع"، على معنى مبتدئ وهلامي، يضمر الانسلاخ عن السلطة، وأدنى إلى من كانوا يسمون "النخبة الفكرية". وهذه نشأت عن التمدين وتوسعه، وعن تكاثر المهن والأعمال والوظائف الجديدة، وبعثها على دوائر علاقات عريضة وكثيرة الأقطاب والأطراف. فهي، على هذا وتعريفاً، "إصلاحية". وإنكارها على العامة، أو العوام، ما تنكر يرمي الى تنزيه المسلمين وجماعتهم عن الانقياد الى عادات يحسب دعاة الإصلاح أنها دخيلة على "الإسلام" وطارئة. فلا يعنيهم في كثير أو قليل إخراج الاحتفال على هذا النحو، من المدينة وخططها، أو حاراتها المأهولة و"حَرَمها" على معنى "الحرم الجامعي.”وربما لم يلاحظوا ان ندب محال متطرفة، تقوم على خط الحزام السابق – بين البوابات، وعلى عتبة البرية وغيرَ بعيد من الجبّانات – الى استقبال التعييد ولعبه وانتهاكاته لم يقتصر، في الأثناء، على خلاء عصّور. فهو، أي ندبُ المحال المتطرفة الى الاحتفال، وقع على عين المريسة (ومرجوحة أم محمد ميرزا المنصوبة هناك)، ومحلة الحاراتي، ورأس النبع (ومرجوحة بديع صبرا)، وتلة الحص (مرجوحة المبشر). وكلها يومذاك، في جنبات المدينة وبريتها. وهي مهدت الطريق وشيكاً الى لفظ مسرح العيد ونفيه الى النطاق الأبعد وهو حرج بيروت وغابة صنوبرها، حيث استقر ولا يزال الى اليوم. ويلي الحرج العتيد ضواحي بيروت الأبعد: فهو بعد طرف رأس النبع الجنوبي، وبعد مزرعة العرب، على ما كانت تسمى دائرة السكن بين كنيسة الروم الأرثوذكس وبين طرف الغابة الشمالي ويجاور بها العرب البدو "أهل الذمة" الأقرب الى استانبول وسلاطينها، وبعد مدرسة المقاصد الإسلامية الخيرية وباكورة بِرها وخيرها )في(1880.
"أربعة أيوب" والخارج
وليس الابتعاد من حَرَم خطط الإقامة والتجارة والعبادة والإدارة (الحكومة) ببيروت وقفاً على عيد الفطر، الديني والأهلي معاً وجميعاً. فحين يُحيي أهلها (المسلمون)، أو كانوا يحيون "أربعة أيوب"، في آخر يوم أربعاء من نيسان، كانوا يخرجون "من الأحياء" الى شاطئ الرملة البيضاء وشوران "على ظهور الخيل والطنابر وهم يصفقون ويغنون ويهزجون"، على ما يناسب احتفالاً ربيعياً وأدونيسياً. فإذا بلغوا المواضع التي يقصدونها، رفعوا العرازيل، وأعدوا طيارات الورق، ورقصوا وغنّوا، وشووا اللحم وأكلوا المفتقة، ودخّنوا النراجيل، وتسابقوا ركضاً على الرمل وسباحة في الماء، وجمعوا الأصداف وطيّروا الطيارات و"شركلوا" خيطانها عمداً أو عفواً، وتحرّشوا في الأثناء بالبنات وتشاجروا. وحين يحل المساء يغتسلون، ويستعيدون ذكرى شفاء نبي الصبر التوراتي والقرآني أيوب من الجذام غداة اغتساله، تسويغاً نبوياً لنهار استثنائي. وعلى شاكلة أيام عيد الفطر، يُخرِج أربعاء أيوب من يسمّون أنفسهم "بيارتة"، على نسبة عشائرية وبدوية عربية (العوازم والمحاميد والمَساندة والطراونة)، من جلدهم أو طورهم اليومي. فيماشون نازعاً إلى التبديد والإفراط ليس من شيمهم أو سننهم. ولا يستقيم اجتماع متحفظ وقليل الموارد إذا ماشى أهله هذا النازع، ومالوا معه. وعلى شاكلة العيدين يخلط يوم أيوب الأعمار، ويقدم الشباب وليس الأولاد على غيرهم. ولكن مكانة الطعام من التعييد، وهي عالية، ورفع العرزال وتطيير الطيارات (إلى صناعتها)، كلها تبوئ الأهل والعائلة والأقارب محلاً لا نظير له في مسرح عيد الفطر وأدائه. وعلى خلاف عيد الفطر كذلك "الأربعة" العتيدة احتفال شمسي، وينهض على تقويم من الصنف نفسه. وهو "يغمس" المحتفلين في البحر والماء، ويُعمِل قيام بيروت على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وصفتها البحريّة، في شعائر اجتماعها، وفي تجديدها هيئة هذا الاجتماع وإحياء وشائجه وأواصره الطبيعية والبيئية. ولا ريب في أن خروج أهل المدينة في هذا اليوم جماعةً، وتواضعهم عليه، ونصبه معلماً متعارَفاً وثابتاً على حوادث عامهم، ينزله منزلةً متميزة من "عالم حياتهم". واختيارهم شاطئ المدينة البعيد، وراء السور والأبواب والضواحي والجبّانات والخانات والمقاهي، قرينة على "رغبة" في التحلل الموقت من رسوم اجتماعهم، والانصراف عنها، و"تعطيلها( ”على مثال يوم العطالة أو العطلة من العمل). ولكن أهل بيروت يرغبون في التحلل والانصراف والتعطيل، كلاً وجميعاً، وهم على لحمتهم واجتماعهم ومواطأتهم. وإقامتُهم على مبانيهم العائلية يقيد النازع الشمسي والديونيزوسي( الأدونيسي) الذي يضمره المثال اليوناني والمصري والفارسي والبربري. ويقصره على وصف "ظهور" السيرج، أي زيت السمسم، و"تفتق السمسم عنه" في آخر مطاف طبخ حلوى الأبرز بالطحينة والسكر والماء وبالعقدة الصفراء وصفاً عشقياً وباهياً.
احتفال الداخل
وإلى الاحتفالات الخارجية والمتطرفة المسارح، كانت تشهد بيروت في وقت واحد، احتفالاً داخلياً. فحال ثبوت هلال شوال، ورؤياه، تطلق المدافع في ساحة القشلة) أي السراي الكبير) طلقات تعلن الثبوت. ويصطف الجنود على جانبي سوق الفشخة "المركزي"، وهو طريق يصل دار الحكومة) السراي الصغير) في ساحة البرج، خلف جامع الأمير عساف الى الشرق، بالجامع العمري الكبير وباب ادريس الى الغرب. وسمّي الطريق الجديد في 1894، سنة توسيعه. ويركب الوالي عربته، ويركب معه مفتي الولاية والنائب) القاضي الأول) ونقيب السادة الأشراف في موكب من كبار المأمورين) الموظفين). ويقصد الموكب الجامع من بابه الشمالي، وهو استحدث بعد توسيع سوق الفشخة المكتظ، فتهتف الجموع بالتركية: "باد شاهم جوق يشا) "يعيش مولانا السلطان). ويؤدي الوالي وصحبه صلاة العيد. وينتقل الموكب من الجامع الى القشلة. فيعرض القوة العسكرية في الموقع، ويهنئ قائده وكبار العسكريين، ويزور مستشفى "العساكر الهمايونية" في المبنى القريب، ويقدم الهدايا الى العسكريين المرضى، ويرجع، في موكبه، إلى دار الحكومة. فيتقدم منه "كبار المأمورين والأعيان والوجوه والذوات" بالتهنئة والتحية. وبعد صلاة العيد والتهاني والمعايدة، يتوجه الناس الى زيارة المقابر. وينقسم الزائرون نساءً ورجالاً. فالنساء يزرنها إما بعد عصر يوم الوقفة، أو صباح أول يوم العيد. وتُخرج زكاة الفطر قبل صلاة العيد في آخر يوم من رمضان، على ما قضت المحكمة الشرعية. وفي البيوت تشمر النساء عشية اليوم الأول، لـ"تعزيلة العيد"، وجلو البيت نظيفاً، "يلمع نظافة". وتنصرف الصبايا الى صباغ الحنّة، ونقش الأكف، والإعداد لمسرح عيدهن في اليوم التالي بساحة عصّور، "خارج" المدينة. فيُظهرن تبرّجهن، ويتنقلن في حراسة أمهاتهن وإخوتهم والآباء، إذا قُدِّر لهؤلاء الانصراف من المواكب والتهاني والزيارات العائلية المتبادلة.
وعلى هذا، فالعيد الرسمي يصل السراي، دار الحكومة أو الولاية العثمانية المحدثة) منذ 1887)، بالمسجد الجامع وبالجبانات. والقطبان الأولان هما عماد الدولة "الشرعية" الإسلامية على وجهيها: وجه )طلب) الولاية والأمر، ووجه طاعة أولي الأمر على شروط مقررة ومعلومة. وهذا مسألة أخرى. وتعاقبُ مراحل الاحتفال يكني كناية صورية ومباشرة عن علاقات أركان السلطة والمجتمع بعضها ببعض. فإثبات الهلال الوليد يعود إلى الجمهور أو الأمة. ويتقاسم الجمهور، من طريق الاشتراك في الرؤيا والإجماع عليها ضمناً، عالم حياةٍ واحداً ومتصلاً. ويعلن مدفع الدولة، من طريق المفتي، التقاسم والإجماع هذين. ويتولى عسكرها، أو شرطتها، وصل حبل السراي والجامع، وهو غير منقطع، والتمثيل على الوصلة على مرأى من الجمهور، وفي ثنايا بنيان المدينة وخريطة طرقاتها ومعالمها، وفي "لحم" أسواقها، إذا جازت العبارة. وتتحد هيئة الحكومة، وأركانها الثلاثة )الوالي والمفتي والقاضي)، في موكب واحد يتنقل، رواحاً )ويعرج على الركن العسكري الذي يفرضه السراي)، ومجيئاً، بين القطبين المؤتلفين أو الأقنومين المتحدين والمترجحين )في ميزان الصدارة). ويرعى الجمهور، في الطريق – السوق من السراي الى الجامع ومن الجامع الى السراي، وخلف صفي العسكر أو الشرطة، الائتلاف المشهود، ويهتف لقطبه "الأول) ”وهو أول من غير افتئات على القطب الديني ولا استظهارٍ معياري عليه). وتعقد الصلاة الجامعة بين الوالي) رأس المأمورين والعسكر) والعلماء والقضاة وجمهور المصلين) الأمة) بعقد لا ينفصم، وتقر السرايَ والجامع والسوق) الأسواق) على اختلافها، وعلى تضافرها وائتلافها معاً. وتجهر تهاني الأعيان والوجهاء والذوات، على هذا الترتيب، الاختلاف أو الفرق بين الأمير وبين الرعية ومجتمعها، على نحو ما تجهر ائتلافهما، ورعاية رابطة الدولة والدين التأليفَ بينهما، وولاءَ الجمهور، بوكالة طبقته الأهلية العليا، للدولة العلية وسلطانها المعظّم. وتبدو زيارة المقابر وجهاً مستقلاً من الاحتفال والعيد وإقامة رسومه. فهي تُحمل على الخاص، والانكفاء إليه، بإزاء عام ملأ السلطة والاعتقاد و)تمثيل) المجتمع. والحق ان الخاص هذا لا ينفك من عام الأمة واجتماعها وهيئتها. فالموتى، بجوار محلات )خطط أو حارات) المدينة القريب، ليسوا خارجاً منفصلاً أو منقطعاً انقطاعاً تاماً من اهل المحلات. فهم، أي مقابرهم، جزء من الأمة، وحلقة ماثلة وقريبة، وقتاً ومكاناً، من حلقات اتصالها ووحدتها. وإذا لم تحلّ المقابرُ في وسط حارات السكن، أو بين الخطط القبلية، على ما كانت حالها في المدن العربية والإسلامية والقديمة، فهي لم تُنفَ إلى ظواهر "بعيدة" إلا مع خروج المدن، أي بيروت في حالنا، من بواباتها وسورها أو أسوارها، وصوغها، لأمكنتها ورسومها وعلاقاتها ومشيختها وحدودها صياغة جديدة. واتصال زيارة المقابر بالعيد وشعائره قرينة على اتساع الأمة، أنساباً واعتقاداً، واحتسابها موتاها فيها.
ومسرح العيد هذا، على الشاكلة الرسمية، أو السياسية والاجتماعية التي تقدمت روايتها، هو قلب مدينة بيروت السياسي )العثماني) والديني )الإسلامي) والإداري والاقتصادي، وعلى قدر أقل كثيراً قلبها السكني والسكاني. فحين انتخبت بيروت عاصمة ولاية مستقلة برأسها عن ولاية سوريا أو سورية، أي دمشق )من دون حلب البعيدة إلى الشمال والكرك الى الجنوب والشرق)، في أواخر العقد الثامن من القرن التاسع عشر، كانت "قرى" الضواحي القريبة. مثل زقاق البلاط والباشورة )المتصلة بالبسطة التحتا) والرمل )الظريف والزيدانية)، ومن ورائها عين المريسة ورأس بيروت، غرباً، والصيفي والرميل والرميلة والقيراط والأشرفية ورأس النبع الشرقي، شرقاً، نوى سكن عامر، وتستدرج السكان من نواحي ودوائر كثيرة، بين تركيا شمالاً ومصر جنوباً وبينهما جبل لبنان في المرتبة الأولى. وأقامت "القرى" – النُوى على بعض الانفصال. فهي بمنزلة أو مثابة محلات )مفردها محلة)، دلالة على قوة الأواصر بين جماعة السكان والأهل وبين الناحية التي ينزلونها ويقيمون بها. وبقي ما بينها، شأن "ساحة" السور )عصّور) بين محلات الحدرة )جنوب الجامع العمري) وجورة الزبيب وزاروبها )ساحة النجمة لاحقاً) وباب الدركه )أعلى المعرض جنوباً) وبين الباشورة وزقاق البلاط، خلاءً أو بَرّاً معلقاً بعض الوقت. وعلى رغم نزيف المدينة القديمة أو الشرقية، وتوجه أهاليها تدريجاً الى ضواحيها واستقبال ضواحيها الوافدين إليها من غير نزولهم فيها قبل النزوح الى الضواحي، لم ينفك قلب المدينة الجغرافي، داخل السور وبواباته، يتسع ويتفتق عن أسواق جديدة أو متجددة، وعن مهن مبتكرة، وسلع وتجارات غير معروفة، ويفتح أبواب خاناته وقيسارياته )مخازنه) ولوكنداته وبعض محاله وشققه لمقيمين أجانب وكثر من صنف "طريف" ومستحدث. فتجمع القلب أو المركز في وقت واحد هجرة السكان وتركهم مساكنهم الضيقة والطرقات المعتمة، وإقبال التجار والتجارات والأعمال عليه وتجديد عمرانه وخططه.
الداخل والخارج
وعلى خلاف الاحتفال بالأعياد في الأطراف، ونازعها الى خلط المراتب وفك الجماعات الأهلية وإخراجها من انطوائها على نفسها، ومراودتها المحظورات والنواهي، واحتكامها الى دواعي الرغبة والمتعة – يجدد الاحتفال بالعيد في حرم المدينة المراتب، ويثبتها على أركانها، و"يروي" أدوارها وتضافر هذه الأدوار ونزاعاتها المستترة غالباً. وترجحُها بين دار الولاية والحكومة وثكنة العسكر وبين المسجد الأعظم أو الجامع، من وجه، وبين القطبين )دار الولاية والجامع) وبين أعيان الجمهور والناس )"المجتمع"، في مصطلح ليس مصطلح الوقت)، من وجه آخر متصل بالأول. و"يقول" الاحتفال الرسمي والمركزي تقدم الحاكم العثماني التركي على المحكومين العرب، ورجحان كفة السيف والقوة على كفة المعتقد والاشتراك فيه. و"يقول" كذلك صدارة مكانة الحاكم المحارب، قياساً على مكانتي القاضي و"الوجه" الأهلي، على الترتيب هذا. ولا يستنفد التأويل معاني الاحتفال السياسي والاجتماعي الرسمي. فالاحتفال لا يرتب الوظائف وأهلها على مراتب، أي لا يفصل بين المراتب ويميزها الواحدة من الأخرى، وحسب. فهو يربط المرتبة بالمرتبة، ويعطف الواحدة على الأخرى بواسطة الرواح والمجيء بين القطبين الرئيسيين )والقشلة فرع على الحكومة)، وتقاسم المركبة او العربة الواحدة، واستعراض الجمهور وقَبول التهاني، وتبادل المحال في الصلاة فيؤم المصلين والوالي فيهم شيخ الفتوى. وفي الأحوال كلها، يسري في المراتب والوظائف والأدوار والمحال، وفي أصحابها وأهلها، معنى جوهري مشترك وواحد هو "الإسلام"، ورابطته وتاريخه وفقهه وسننه. وينزع هذا المعنى الى الاشتمال على مرافق "عالم الحياة" ووجوه هذا العالم كلها، عامها وخاصها. والاحتفال الرسمي بالعيد مثال على الاشتمال، على نحو ما ان الاحتفال العامي والطرفي مثال على قصور النازع الى الاشتمال عن إدراك غرضه واستيفائه استيفاءً تاماً. فـ "البقية" الباقية، والمتخلفة عن الاستيفاء، تخرج من المدينة وعمرانها، أو خططها وعلانيتها، وهي تنقل حلقاتها ومراتبها ورسومها من البيت فالطريق فالسوق فدار الحكومة فالجامع، الى برية غير معمورة وقريبة، إذا كان العيد تقليداً دينياً عاماً، وبعيدة، إذا كان الاحتفال تقليداً أهلياً غير ديني، إلا على وجه انتحال اسم نبي شائع وقوي التمثيل على اختبار إنساني مشترك وعام.
وعلى هذا، فالخروج المتواتر والمتصل من محلات بيروت وزواريبها وبوابات سورها، طوال سحابة قرن من الزمن )1820؟ - 1920؟)، كان سياقه السعي في تصريف أبنية العمران المديني، ومراتب هذا العمران، ودوائره ومرافقه تصريفاً مختلفاً. وتوسَّلَ الخروجُ من مدينة السور والبوابات الى مدينة الميناء المتوسطي "الكبير"، وحاضرة الولاية، وعاصمة الجمهورية من بعد، بأربعة عوامل متضافرة: توسيع تجارتها البحرية وبابها على حوض المتوسط العثماني والأوروبي الجنوبي، وفك القيد "الشرعي" والاجتماعي والإداري عن امتداد العمران وضم دوائر البر القريب فالأبعد الى حرم متصل شرقاً وجنوباً، ووصل البوابة البحرية بـ"الداخلية اللبنانية) ”جبل المتصرفية) والعثمانية، ودمج العوامل الثلاثة المتقدمة في أبنية بلدية واجتماعية واقتصادية متماسكة. واقتضى هذا، عاملاً عاملاً وعوامل مجتمعة، تمهيد الفروق والحواجز النوعية أو الجوهرية، المادية والمعنوية الرمزية، بين داخل ضيق منكفئ وضعيف البنية والموارد، وبين دوائر خارج كثير ومتعاظم التشابك والتنازع والدينامية وشهوة الضم. ولما كانت العوامل هذه متنازعة الجهات والمصالح والقيم، خلفت منازعاتهم في جسم بيروت آثاراً غائرة وظاهرة. وأرخت الندوب بثقلها على الدولة اللبنانية، وبنيانها السياسي والرمزي، أي على وحدتها واتصالها، وعلى انعقاد هذه الوحدة ومسكتها. فقطبا الداخل المرتبي والخارج المتصل والمستوي يصدران عن دواعٍ مختلفة متقابلة ومتوالدة. وبينما يخرج الداخل من انكفائه ويقتحم الخارج الداخل، وتنشأ مسارح وعوامل مركبة ومولَّدة، ينبعث القطبان، وسورهما وبواباتهما، في حلل جديدة، وتخفق أعلامهما على المسارح والميادين والحواجز.
تلح "الحادثة" المتمادية على أصحاب أخبار بيروت، أو أخبارييها وبلدانييها الذين كتبوا ويكتبون في "خططها" على مثال عربي وإسلامي قديم، وتقوم مقام حلقة وسط بين وثيقة ولادة وبين مشهد بدئي خرجت بيروت به الى الوعي والتاريخ: في 1772 قصف الأسطول الروسي بيروت وميناءها) العثماني) وعجز أمير الجبل يوسف الشهابي عن إقرار الأمن في الناحية التي يتنازع السيطرة عليها مع ولاة السلطنة ببلاد الشام ولبنان )"جبل الدروز" ثم جبل لبنان). فكتب الأمير الى عثمان باشا، والي عكا، أن "البلد داشرة" من غير "سور ولا تحصينات ولا محافظ". فأرسل الوالي 400 خيال و200 من المشاة، وكلهم مغاربة مهنتهم الحرب في إمرة أرناؤوطي )ألباني)، شاب ونافذ، هو أحمد بك )الجزار). وكان على البك ان "يحافظ" على البلدة المضطربة، وهي تعد يومها 4000 الى 6000 نفس أو نسمة، معظمهم عدداً إن لم يكن نفوذاً من المسلمين، من غارات الروم )اليونان) والروس والبربر والطليان البحرية، وقرصنتهم. وإلى المحافظة العسكرية، كان على موفد والي عكا ووالي صيدا وسيطاً )1775)، انتزاع الناحية – وهي قريبة من إمارة الجبل ونفوذها وكانت جزءاً منها، وفي متناول حملات البحر، وتشد أهلها الى اهل الجبل مصالح مشتركة – من يد آل شهاب. فبين يوسف شهاب وأحمد بك الأرناؤوط منازعة تجارية على عوائد المواد الغذائية. وانتزاع الثغر البحري من آل شهاب وحكام الجبل وكنيسته المارونية يترتب عليه مكسب كبير هو سد منفذ الجبل البحري والملاحي على السياسات الأوروبية المتوسطية وأبرزها يومها السياسة الفرنسية المناوئة للسلطنة. فعمد البك سريعاً الى "ضبط حصون )"السور (وأبراجه" وأبوابه الأربعة الأم، على عدد الجهات. وشحنها بالمقاتلة. وأعد العدة لـ"مرابَطة" مديدة. فأقطع بعض "ضباط" المقاتلين، حماة الأبراج، أراضي أو مزارع على جهتي السور وحول البرج الذي يتولون حراسته. وبعض هؤلاء وقف إقطاعه، بعد عقد ونصف العقد، على نفسه، وعلى "أزواجه وأولاده". وخص البك بالتحصين أبراج البوابتين اللتين تقومان بإزاء الجبل والطرق النازلة منه، بوابة الدَرَكه )بين الخندق الغميق جنوباً والمعرض شمالاً) وإلى شرقها برج الكشاف، و"بوابات" السراي القديمة، وراء جامع الأمير عساف وبجوار القلعة البحرية، شرقاً وشمالاً. فقوى أبراجهما وخص المقاتلين فيهما بقطائعه. ولم "يبخل" الأرناؤوطي على أهالي المدينة الأثرياء والميسورين بالمصادرة. فالدفاع )المدافعة) عن أرض المسلمين، وصد المشركين والكفار وأهل البدع عنها، من تبعات أهالي الثغور، ولا تتحملها "الدولة" وحدها، على رغم أنها دولة حرب في المرتبة الأولى. ولما أنكر تجار الثغر المصادَرون على العامل العثماني فعلته، وهم اشتموا من الحماية والمدافعة احتلالاً يسد الطرق على تجارتهم مع الجبل، ويسطو على أرضهم، ويحسم حالهم المعلقة والمجزية بين الوالي وبين الأمير، اقتص الجزار منهم بالإمعان في المصادرة، وبنفي بعضهم من بلده الى بر الشام أو الى الآستانة. وطال نزاع والي صيدا ثم والي عكا مع مدن الساحل، والتجار الفرنسيين من ورائها. فطرد الوالي المتمكن، في أواخر أعوام 1780 التجار الفرنج من صيدا وعكا، وصادرهم على خانهم بصيدا، وحوَّله ثكنة عسكرية. فوجه التجار سفنهم ومراكبهم خلسة الى بيروت ومرفئها، من غير وكالة قنصلية. فتعقب الوالي الفرنج الى بيروت، ودك، في 1791، الكنائس وجعلها اسطبلات. ودعم السور العتيد بحجارة أبنية الشهابيين والكنائس المهدمة. وحين أخلى جند الباشا البلدة الساحلية إلى عكا، وتولى النظارة على الإخلاء أحد رجال ضاهر )ظاهر) العُمَر يعقوب الصيقلي، صحب الجنودَ) "بعضُ) أهل بيروت". وهم ربما من أولاد الجند والمقاتلين الذين "شحن" بهم الجزار الحصون والسور، أو هم من أهل البلد الذين حملوا جلاء "جند المسلمين" على سقوط جزء من "دار الإسلام" بأيدي "أعداء الدين" الفرنجة و"اللبنانيين". وحين شارك باشا عكا في صد عسكر بونابرت، لما استولى هذا على مصر وأراد إنشاء "مملكة سورية" تحت عباءة فرنسا وقطع طريق إنكلترا البرية الى الهند، مدح بعض شيوخها المعممين الباشا العثماني.
والحق أن أحمد باشا الجزار نهض، طوال نيف وثلاثة عقود، عَلَماً على بيروت مسورة وحصينة وعثمانية. واستتبعت الحال هذه، السور المتجدد والحصون والأبراج والإدارة العسكرية والانقطاع من جبل لبنان والتجار الفرنج، انكفاء على مساحة بقعة ضيقة يبلغ طولها 750 متراً وعرضها 350 متراً. والسور المدعّم بالأعمدة والحجارة الضخمة المصادرة امتد من سفح رابية السراي الكبير ويمم شرقاً الى كنيسة مار جرجس المارونية، وانعطف بعدها بقليل الى قبالة جامع الأمير عساف، وهو جامع السراي المتخلف عن فخر الدين يومها، ثم الى المرفأ وجامع المجيدية. ويحوط السور الجامعَ ويمضي شمالاً وغرباً فيفصل زاوية الإمام الأوزاعي، داخله، من الكنيسة الكبوشية، خارجه. فيطوق العمران ويلتف حواليه مصعداً من طريق تحاذي باب إدريس) لاحقاً) قبل أن تُقفل على سفح الرابية. ويحصر السور المستطيل المدينة البحرية المجتمعة حول مينائها وقلعتها البحرية. ويتنازع الميناء، والمدينة من بعد، دوران أو وظيفتان: وظيفة حربية، هي وظيفة الثغر بإزاء مراكب الفرنج التي تجوب المتوسط "الإسلامي" دورياتها التجارية والعسكرية منذ الحروب الصليبية أو قبلها، وتحاصر موانئه بين الوقت والوقت أو تغزوها وتسبي وتحرق وتحمِّل، ووظيف تجارية، على خلاف الأولى، تتعاظم في اوقات السلم أو "الاستقلال" الجبلي اللبناني ومد الجسور السياسية مع بعض الحواضر الأوروبية. فينزل التجار الفرنج بجوار الميناء حول سراي "المير" وبرجه الكشاف) بلغ علوه 60 قدماً وسمك جدرانه 12 قدماً)، وهو قال فيه أحد أرصاد ابراهيم باشا المصري قبيل دخول جيش الباشا بيروت في 1831 أنه "يحكم المدينة". وتقتضي المهمة الحربية غلق بيروت على حصون السور وأبراجه، وردم الميناء بالأتربة والحجار والصخور على ما اضطر فخر الدين درءاً لإنزال بحري عثماني تهدده، وقطع طرق التجارة، من البحر ومن الجبل وإليهما، إلى "سوق" بيروت ومنه. وتقتضي الوظيفة التجارية فتح الأبواب، واستقبال "الغرباء" على الوجهين: وجه جبل لبنان، ومن ورائه بلاد الشام وأسواقها، ووجه أوروبا المتوسطية وسلعها ووكالاتها ومنازعاتها على الحصص.
ولا تنفك الوظيفة الحربية العثمانية، في الأزمات على الخصوص، من رسم عمراني) تنظيمي) مدني واجتماعي - سياسي مثّل عليه حكم احمد باشا الأرناؤوطي من غير شبهة، ولكنه لم يبتكره ولم يباشره ابتداءً. فخِطط بيروت الموروثة من القرن الثامن عشر، وربما من القرنين العثمانيين اللذين سبقاه، يتوسطها ويقوم منها بمنزلة ركنها ومحورها جوامعُها ومساجدُها وزوايا الأولياء المتصوفين المقاتلين والفقهاء. فالواجهة البحرية، من الشرق الى الغرب، تنتظم صفاً يكاد يكون مستوياً ومتصلاً من الجوامع والزوايا: جامع الأمير منصور عساف، فالجامع العمري "الكبير"، فالزاوية المجيدية، فجامع الأمير منذر فزاويتي عبدالرحمن الأوزاعي والشيخ رسلان. وتقوم المساجد والزوايا في موازاة درب الملاحين القديم، وهو شرفة المدينة البحرية على مينائها. وبعضها، مثل الجامع العمري وجامع الأمير منذر، يتوسط المدينة، سكناً وأسواقاً، وهما لم ينفصلا إلا مع خروج بيروت من السور وبواباته. وليس ثمة مساجد على الجهة الجنوبية من البلدة، "وراء" الجامع العمري وجامع الأمير منذر. والصرح أو المعلم الديني الوحيد، قبل تشييد جامع محمد الأمين وتدشينه )في 2005)، على خط السور الجنوبي هو كنيسة مار جرجس المارونية، قبالة مدرسة الراهبات اللعازاريات ومستوصفهن (1848). فلم يسع موارنة بيروت، وهم أهل جبل الشوف وكسروان، بناء كنيسة في قلب المدينة، على خلاف الأرثوذكس "البلديين"، ولا على الواجهة البحرية حيث وسع البناء الكبوشيون الفرنج خارج السور، فشيدوها، بعد بعض الوقت، جنوباً) وجهة الشوف والمتنين).
وينزل السكان بيوتاً و"زواريب" وحارات، أو محلات وأسواقاً تفترض كلها، دائرة فدائرة، الانطواء على دائرتها، ووراء بابها الداخلي. فثمة بجوار الجامعين الكبيرين، العمري ومنذر، باب يوسف إده، وباب زاروب الشيخ رسلان، وباب الحدرة، وباب رجال الأربعين) اللصيق بكنيسة مارجرجس)، والباب الصغير عند طرف السور على الميناء. وشأن بوابات السور، تقفل أبواب الزواريب والحارات مساء، قبل المغرب بساعتين ولا تُفتح إلا قبيل الفجر. والحجز الصفيق بين الطريق وبين دواخل البيوت، وقَصْرُ العناية على البيت وجواز رمي القذارة في الطريق، ورفع الجدران العالية وتطويق البيوت بها، وتسترُ البيوت بعضها على "حرمات" بعض وتحكيم القضاء في انتهاكات النظر "السترة" – هذه وغيرها مثلها نجم عنها ما أريد بها أي التضييق على الانتقال والتقلب بين أظهر المحال والنواحي. والشاغل الذي يتقدم الشواغل الأخرى هو الحؤول بين "الأجنبي"، وهو من ليس "ابن عم" على قول تغريبة بني هلال، وبين اقتحام الحِمى العائلي الأهلي. وبابُ الزاروب الواطئ، وتعرجُ الأزقة وخلوها من معالم تعرف، وشبهها الواحد بالآخر) على ما يرى الى اليوم في بعض مدن المغرب القديمة مثل مراكش أو الصويرة)، تبدو كناية مادية عن بنية حربية ودفاعية. فلا يسع الغريب دخول الزقاق، وبلوغ مقصده، إلا بواسطة دليل أو مرشد من أهل الزقاق. ولا يسع، بديهة، الدواب والجنود والشرطة واللصوص اقتحام الحارات الحصينة، المشيدة على الشاكلة هذه، إلا في أحوال الطوارئ والاضطراب العلنية. فتبيت الحارات والسكك والنهوج، على قول أهل مصر، آمنة وراء بواباتها وجدرانها، جزراً معزولة، قريبة ونائية في آن، وداخل البيت، من بابه الى محرابه، حصنٌ حرام كذلك. فيلاحظ عبداللطيف الفاخوري، وهو نشأ في بيت بالخندق الغميق ورثه والده عن والده، أن مدخل البيت موارب. فلا يستقبل الداخلُ الفناءُ، بل يستقبله جدار يستر الفناء، ويدعو الداخل الى الانحراف إلى إحدى الجهتين، والانقياد الى رسم الدار. والجدار )الأعمى) هذا يسمى "باشورة"، على اسم المحلة البيروتية الأولى خارج السور والبوابات، بجوار المقبرة المعروفة، وبإزاء بوابة الدَرَكه. ومنها دخل ابراهيم باشا المصري في أواخر 1831 ومطالع 1832 حين دخل بيروت فاتحاً ثم حاكماً. وهي البوابة التي تشدَّدَ وبالغَ البك الأرناؤوطي في تحصينها بالحجار والأعمدة الثقيلة والكبيرة التي نهبها من باب رجال الأربعين القريب، وبإقطاع قطاعات الأرض الى قادته المغاربة. فيذهب المحامي البيروتي في الاستئناف وأخباري "مدينته" الموسوعي، إلى إثبات "شبه" بين باشورة البيت الحاجزة وبين محلة الباشورة المنتصبة حرساً على بوابة السور الجنوبية بإزاء "اللبنانيين".
ولم يجدد قائد الحامية المغربية سنن الإدارة الاقتصادية العثمانية وتقاليدها. فبلغ عدد الرسوم التي جُبيت من أصناف السكان على أملاكهم وأزراقهم ومعاملاتهم وتجاراتهم، على إحصاء متأخر لمحمد كردعلي، نحو 1090 رسماً. ويلابس "البلص" الجباية لا محالة. وتُضبط المهن والحرف، وطوائفها وأصنافها، من "فوق"، اي من الرؤساء والنقباء والمشايخ والأعيان والوجوه. وهؤلاء يتولون المفاوضة عن "مأموريهم"، وتوزيع "الفردات" ما يفرض عنوة عليهم وخوة ”عليهم. فهم، على هذا، "طبقة" على حدة، ومرتبة مغلقة. وتماسك أجسام أهل الطوائف والأصناف، شأن عصبية العائلات و"العشائر" أو بنيان الحارة والزقاق الأهلي والعمراني، أو وحدة الطريقة الصوفية، حاجز حيوي في وجه "إدارة" الولاة والمتسلمين السلطانية والعسكرية. وتقتضي هذه، أي التماسك والعصبية والبنيان والوحدة، جمعَ عواملها معاً ما أمكن، والثبات على مبانٍ وتقاليد تتناول علاقات أهلها بعضهم ببعض، وعلاقات الأجسام بـ"الإدارة"، والإقامة عليها. ويقيد الثبات على المباني والتقاليد الطائفية و"العشائرية" والمحلية والصوفية وجوه العلاقات والمعاملات المتفرقة: الاجتماعية والفكرية والسكانية والاقتصادية. ويترتب على الثبات، وعلى القيود التي تراعيه، التقليل من اختلاط أهل الحرف والأسواق، وقصر الحرفة على سوق وموضع وحارة وعائلة وطريقة. ويترتب عليه قطع العلاقات بالخارج، والمبادلات معه. وهذا مثال لا يبلغ، ولكنه يلح على حكم المدن، وعلى الأخص إذا كانت المدن هذه "ثغوراً"، وتختلط أديان سكانها وأقوامهم، ويضطلع ولاتها ومتسلموها بولاياتهم بناية عن ديانة ومعتقد وقوم.
فإدارة البك الأرناؤوطي العسكرية والسياسية والمالية والعمرانية لبيروت هي رِدَّة أو رد جواب عثماني تقليدي ومتشدد على أحوال بيروت المزدوجة، الميناء على البحر وحوضه المتنازع، والبوابة على جبل لبنان و"لجاه) " اسم الملجأ الدرزي ببلاد حوران يومها) الأهلي والسياسي. وتحصين المدينة، أو تجديد سورها وحصونه وأبراجه وبواباته، والعدوان على جزء من سكانها وهم معالمهم، ومصادرة أهل اليسار والثراء على أموالهم ومدخراتهم ونفي بعضهم والتمثيل بهم، وجوه من سياسة متماسكة. وهي رمت إلى غلق البلدة البحرية المختلطة على كتلتها الداخلية، وقطع أواصرها بالبحر والجبل، والحؤول بين أهلها وبين إجماعهم على مصالح مشتركة تميل الى فتح الميناء على البحر والبوابة على الجبل. )وحين اختصر الزعيم الدرزي كمال جنبلاط "دولة لبنان"، غداة قرن ونصف القرن على تحصين الجزار بيروت، وعرَّفها بـ"دكان على البحر وفيديرالية طوائف"، لم تعدُ عبارته صوغ المشكلة التي كان على البك الأرناؤوطي حلها، وعالجها بسد طريق التجارة والالتجاء إلى الجبل والاحتماء به، وبخنق تجارة البحر وقطعها، وتثبيت مراتب الأهل على الحط من "النصارى" وجبايتهم، مع المسلمين، جباية متعسفة). والمدينة المسورة والمربعة والمنكفئة على نفسها، والناتئة الحدود والحواجز بين داخلها ومتنها وبين بريتها وهامشها، قرينة على حصانة تامة، وعلى مِنعة صلبة. وهذا ما يفترض أن المغاربة "الخمسمئة" أنجزوه في إمرة الأرناؤوطي. فاستوت البلدة – المرفأ حبيسة سورِها السميك والعالي، وأبوابها الأربعة الموصدة، والمقاتلةِ في أبراجها وحصونها، ومنقطعة من تجار البحر الأجانب ومن نفوذ الأمير يوسف ومصالح رعيته المسيحيين ورأيه في أحكام قضاتها.
إحصاء البوابات
وفي عهد أو ولاية أحمد بك امير الخمسمئة )أو السبعمئة، بحسب بعض المصادر) لا يُشْكل إحصاء البوابات، ولا يُختلف على موقعها ومكانها. فهي، لمرة أخيرة، ووحيدة، أربع: بوابة الدَرَكه جنوباً، وبوابة السنطية )على ميناء، أو "مينْة" الحصن، أو الحسن، على رواية أخرى) غرباً، وبوابة الدباغة شمالاً وشرقاً على المرفأ، وبوابة السراي شرقاً، وراء جامع الأمير عساف وعلى ساحة البرج. ويجمع بين الأبواب الأربعة الثابتة و"القانونية" تحصينها، إذا استثني باب السنطية، فهو لا يعد في الأبواب الحصينة، على رغم إضافته الى )اسم) الحصن. وربما عوَّضَ باب السلسلة، غرب المرفأ، تحصين الباب. ولكن باب السلسلة ليس في عداد الأبواب الأربعة. وهو يُذكر في معرض إحصاء الأبواب المحدثة إما في عهد المصريين أو في عهد "التنظيمات" والإصلاحات العثماني وذلك غداة عودة ابراهيم باشا الى مصر ومقايضة عودته ببقاء السلطنة ودوامها على شرط "إصلاحها"، اي تتريكها وإرساء لحمتها على بيروقراطية إدارية تحل محل الجيش). ويستدل على حداثة الأبواب، في غياب آثار وشواهد قليلة تقتصر على بابي الدَرَكه والدباغة، بافتقارها الى التحصينات. وهي باب يعقوب، نظير السراي الكبير الجديد أو القشلة )إلى الشرق) وباب أبو النصر على ساحة البرج وإلى وجه الساحة الغربي، وباب إدريس، في منتصف السوق بين باب يعقوب وبين باب السنطية. وإذا صدق الإحصاء بدا ان البوابات المستحدثة، وغير العسكرية، تفتح اثنتان منها )بوابة يعقوب وبوابة إدريس) على غرب بيروت وجنوبها. والناحيتان دائرتا توسع نشط وسريع، وتجاريٍ داخل السور وسكني خارجه. وتفتح البوابة المحدثة السابعة، بوابة أبو النصر وسوقها على توسع تجاري داخلي، وعلى تسارع نشوء عمران تجاري وسكني عريض على "الضفة" الثانية من ساحة البرج القديمة. والحق ان "الضفة" الثانية – وهي المدينة المسيحية الخالصة، على رغم تخلل المسيحيين واليهود وسكنِهم المدينة العربية أو العثمانية القديمة، وانتشار ملكياتهم في "ضواحيها" الرملية، وامتلاك المسلمين أرضاً في الأشرفية – هذه "الضفة" وصل بينها وبين نظيرها الى الغرب جسران تجاريان عريضان: كتلة الخانات جنوباً، بين الصيفي، وبين بوابة الدركه و"محلة" اللعازاريات وباب رجال الأربعين الداخلي وأسواقه )المعرض لاحقاً والنورية)، وكتلة المرفأ وأسواقه وخاناته، بين الرميل وبين أسواق باب الدباغة وسوق الفشخة الكبير و"العميق) "إلى طرف المدينة الغربي).
وليست الأبواب الثلاثة الجديدة وحدها هي ما يشكل على الإحصاء، وعلى إدراك معنى الرسم العمراني. ففي إحصاء بعض من أدركوا صورة البوابات وعملها، فتحاً وإغلاقاً، ثمة 5 بوابات: الدركه ويعقوب جنوباً، والمصلّى والدباغة شرقاً، والسنطية غرباً. فالأبواب الثابتة ثلاث: الدركه والدباغة والسنطية. ويثبت هذا قدمها، أو سبقها الحقبة المصرية وحقبة التنظيمات العثمانية الإصلاحية. وفي شطرها الثاني والأخير استقلت بيروت بـ"ولايتها"، وبطريق بيروت - دمشق المعبدة (1863 - 1888) وسكة قطار بيروت - دمشق 1865،) فحوران) وبمرفأ عميق وكبير (1894). ويثبت من وجه آخر، علاقة قيام الباب الجديد، وهو لم يبق بوابة على المعنى العسكري، بتوسع التجارة وقيام الأسواق الجديدة )إدريس وأبو النصر). وباب المصلى، إذا صح انه باب وليس موضعاً، كانت تقام به صلاة العيدين، قريباً من باب السراي وباب الدباغة وباب الخارجة، على تسمية ثالثة ونادرة. وينبه تثليث الاسم اشتراك بوابة السور في وظيفة وجوار جاريين وسائرين: فباب الدباغة يطل على صناعة أو سوق لا يطيق الداخل استقبالها، ويطل كذلك على جبانة الخارجة أو الغرباء) وهذا تشابه آخر: فالغرباء، على قول، هم المغاربة أو هم أهل الأندلس، إمعاناً في التغريب). ومهما كان من أمر التشابه المفضي الى تثليث اسم موضع واحد، فاتصال الباب الشمالي الشرقي بمدفن يدعو الى ملاحظة رابطة تشد البوابات الى ظواهر المدينة) الإسلامية) القريبة، وتحمل قسمة الداخل والخارج على أحد معانيها القوية والنافذة. فقيام المقبرة بإزاء بوابة السور ثابتة عمرانية وتخطيطية: تقوم مقبرة الباشورة بإزاء بوابة الدَرَكه، وربما بوابة يعقوب كذلك، وتقوم مقبرة السنطية بإزاء باب السنطية، ومقبرة الخارجة بإزاء باب الخارجة/ الدباغة/ السراي/ المصلى. فتسوِّر مقابر المسلمين، مدينة الثغر الإسلامي، وتحوطها من جهاتها الثلاث )وتدمج الشمال بالشرق)، وتصل الأسواق وراء البوابات صوب الداخل، بالمدافن، و"المحلات" أو الخطط الأهلية بمدافن موتاها من الأقرباء والأنسباء. فتضيف طوقاً آخر إلى الأطواق والأحزمة التي تبعد الداخل من الخارج وتحجز بينهما بحاجز سميك، على مثال الحاجز الحصين الذي جدد أحمد بك الأرناؤوطي عمارته بين مدينته العثمانية والإسلامية وبين "اللبنانيين" من أهل الجبل وتجار أوروبا وقناصلها وقراصنتها الأروام. وحمل توسعُ الأسواق واتصالها، شرقاً وغرباً، وامتلاءُ السكن وتراصف المساكن، على نقل المقابر وإبعادها وتمهيد علاماتها وشواهدها. ونهض هذا قرينة على تداعي السور) وبوابته) المعنوي والرمزي، وعلى ضعف تمييز الداخل من الخارج والحجز بينهما. وهذا ما قام العيد الى مطالع القرن العشرين، في عصّور وساحته، شاهداً عليه، قبل نفيه الى غابة صنوبر بيروت، ولحاق المقبرة الكبيرة، في 1975 - 1976، به جراء قفل الدفن في مدافن الباشورة "الممتلئة". فلم تصدّ الأسوار "العدو" الكثير الوجوه: عدو الداخل وعدو الخارج، عدو البحر وعدو الجبل، عدو السلطان والوالي وعدو الملة، وحسب. فانتصبت معلماً على مثال المدينة – الحصن، التقليدية والإسلامية، ودليلاً على استحالتها على الأمد الطويل وافتراضها )وصنعها) اجتماعاً مرصوصاً ومنقسماً مراتب وجماعات متحاجزة ومتباعدة، وحارات وأسواقاً منكفئة، على خلاف بعض حالها في الاجتماع الإسلامي ووقائعه) البيروتية) المشهودة والماثلة.
فلما طويت صفحة والي ولاية صيدا (1804) الفظ بموته، وخلفه سليمان باشا الملقب بـ"العادل"، دخلت بيروت، تجارة وعمراناً مدينياً وسكاناً، في طور جديد. وسبق موت الباشا الألباني الجزار انفجار النزاع الفرنسي - العثماني على الساحل الطويل، بين الاسكندرون شمالاً وغزة - الاسكندرية جنوباً، قبيل حملة بونابرت على مصر (1798 - 1799) واحتداد المنافسة الفرنسية - الإنكليزية العسكرية والاقتصادية طوال العهد الأمبراطوري وما بعده. وبيروت، بعد خنق الباشا الألباني صيدا وتجارتها مع الفرنج، ونزوح التجار الأوروبيين الى طرابلس فبيروت، هي قلب هذا الساحل، وتتقاسم مع إزمير والاسكندرية، ضيافة تجارته و"إسكالاته". وتشارك حلبَ ودمشق صدارة المدن المشرقية. فالتجأت إليها، وإلى مرساها، السفن والمراكب قبل افتتاح الوكالات القنصلية، الفرنسية في المرتبة الأولى، والتوسكانية والصقلية الإيطاليتين من بعد. واختار الإنكليز دمشق مقر وكالتهم، بينما كان يناقش الفرنسيون نقل الوكالة التجارية من اسكندرون والوكالة القنصلية العامة من حلب الى بيروت، فكانت بيروت على موعد مع انقلاب الثقل السكاني، والحركة التجارية والاقتصادية، من "الداخلية" العثمانية الى السواحل ومدنها، طوال القرن الثامن عشر، فالقرنين التاليين، على ما لاحظ غير مؤرخ تركي معاصر. وقبل موت الجزار، كانت تجارة بيروت مع مرسيليا كافأت خلسة تجارة صيدا وعكا مع الميناء الفرنسي على المتوسط.
ولم تتأخر أمارات الانعطاف العمراني عن الظهور. وكان أول ظهورها غير بعيد من السور، وبوابته الجنوبية. فيزعم القنصل الفرنسي هنري غيز وهو قدم في 1808 وأقام في 1808 - 1810، ثم في 1824 - 1828 وأوكل إليه ابراهيم باشا بناء المحجر الصحي) الكرنتينا) بها، أن ضواحي بيروت، وهي احياؤها و"محلاتها" فيما بعد، "أثرت... وازداد عدد سكانها، حتى أنه لم يُرَ في جميع البلدان الخاضعة لسيطرة أمير الجبل بلد مأهول، وهانئ العيش، على قدر ما عليه الضاحية المجاورة لبيروت والممتدة من نهر المعاملتين الى الشويفات"، أو "بيروت الوسطى" قبل "الكبرى" بقرن ونصف القرن. وتتوسط المدينة أو البلدة الكبيرة، قياساً على أعداد البلدان المأهولة، سهلاً مغروساً بأشجار التوت الأبيض. وحملت تربية دود الحرير الأهالي، في المدينة والضواحي، على بناء أكواخ في السهل، في وسط الأراضي بين الحدين اللذين يضيق عندهما فاصل الجبل والبحر. وبعض الأمن الذي خلفته مغادرة الفرنسيين مصر وانشغالهم بأوروبا، وانشغال المصريين بمنازعاتهم الداخلية، وموت باشا عكا وصيدا، ومهادنة الأمير الشهابي الجديد والوالي العثماني واحدهما الآخر في بدايات ولايتيهما، الى ازدهار صناعة الحرير تدريجاً في الجبل وضواحي البلدة البحرية – دعا هذا بعض الأهالي الميسورين الى تشييد مبان أوسع وأرحب وأمتن في حدائق الضواحي. و"أخذ المسلمون ينافسون المسيحيين) على البناء)، فلا يرى غير قلة من السكان لم يشتروا ولو بضعة أمتار من الأرض يشيدون عليها برجاً) كذا)"، على قول القنصل غيز. وأطل جيرار دونيرفال، في 1843، من برج فخر الدين العالي بطرف ساحة البرج الجنوبي الشرقي، والساحة سُمّيت به، على السهل الفسيح، ورأى السور والأبراج تحف بالشاطئ بينما تنتشر "صواري منازل القناصل" والأهالي في الجهة المقابلة. ويقارن الشاعر الرحالة المنازل والدور الآخذة في الانتشار وراء السور بالدارات) مفردها دارة: دارة البك، أو الوجيه) الغربية، وسماها الأهالي "قصوراً" أو "أبراجاً" من غير تحفظ، وجعلوها مصايف قبل أن تستقر دور إقامة ثابتة. ويعارضها هو والقنصل الذي أقام ببيروت قبله، بالعمارة المدينية القديمة. وهي مقارنة نحت سريعاً نحو ضدية حادة، وتعاقب عليها خطباء مناسبات التدشين: فارس نمر في افتتاح منتزه الحميدية بساحة البرج في 1884، عبدالله بيهم والمطران طوبيان عون في تدشين الطريق الجديد محل سوق الفشخة في 1891...
والبرج، من الصنف المدني وهو الصنف الوحيد منذ جلاء الباشا الأرناؤوطي وعسكره عن بيروت، بنيان من طبقتين يقام في البساتين والمزارع على عمارة أو هندسة العقد أو الأقواس الغليظة للطبقة السفلية، والأعمدة المقوسة والشرفات الخارجية للطبقة الفوقية. ويحصي عبداللطيف فاخوري، في منزول بيروت، 36 برجاً شُيّدت في انحاء متفرقة من بيروت. ويجمع بينها إنشاؤها خارج السور والأبواب، إما في مواضع قريبة تتخلل الأحياء والحارات القديمة، وإما في الضواحي. وأقدم هذه الأبراج أو الدور، وهو برج الجبوري بمحلة الغلغول على تخوم السور وبوابة الدَرَكه، وقفه صاحبه الحاج محمد آغا ابن عبدالله الجبوري) أحد مقاتلي البك الألباني المستوطنين والمقطعين ببيروت) في 1788) لدى قاضي بيروت الشيخ ابراهيم الصايغ. ولكن برج الجبوري استثناء مبكر. ويتصل تاريخ إنشاء الدور الأخرى من 1827، عشية دخول ابراهيم باشا بيروت، الى أواخر العقد التاسع من القرن التاسع عشر )والحق أن الأعوام المذكورة لا تؤرخ للبناء بل لبيعه أو وقفه أو توريثه، وربما ينبغي إرجاع التاريخ 10 أعوام أو أقل أو أكثر الى "الوراء .”ويعود البرج المبكر الآخر )بعد برج الجبوري)، وهو بني في 1827، إلى كبير تجار بيروت المسلمين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عبدالفتاح آغا حمادة. وبناه بمزرعة القنطاري في بستان يمين "المشهور" يومها بجميزة يمين. وبنيت دور أخرى غير بعيد من "دارة" الآغا، ولو بعد بعض الوقت. فشيدت دار )برج) البربير بحي الرمال الذي يلي القنطاري )رمل الظريف والزيدانية)، وبرج بني نعمان على طرف القنطاري البحري، في 1847، وبرج المفتي الشيخ محمد الحلواني بمزرعة المصيطبة )1847)، وبرج الحاج أمين الميقاتي )1849)، وبرج الطيبي )1849؟) وبرج الأمير فندي )1850)، وكلها شُيّدت بمزرعة القنطاري أو قريباً منها. وفي الأثناء، أنشأ الخواجا حبيب يوسف الدمياطي برج القيراط، في بستان حي القيراط )قرب ساحة الدباس من بعد، على سفح الأشرفية الغربي)، في 1850، ورواق داره السفلية "أمام القبور"، على شهادة وثيقة القضاء الشرعي. وفي السنة نفسها، والموضع نفسه، كان الأمير أسعد الشهابي شيد برجاً بمزرعة القيراط، على مقربة من برج الكشاف، "ظاهر المدينة)" الوثيقة)، واشتراه ناصيف فياض. ولم تحل غلبة الملل وأهلها على دوائر السكن دون اختلاط السكان على مقادير متفاوتة، ولا دون تبايع الأرض والدور. فأقام مشايخ عبدالملك الدروز بالقنطاري، وآل دندن السنة بمحلة الدحداح، على طريق الشام بالمحلة القريبة من حي القيراط. وتقاضى آل دندن وعبدالرحيم الصلح، مدير تلغراف بيروت، في 1870، على حق آل دندن في فتح شباكين يشرفان على ساحة دار الصلحي و"مقر نسائه". وهذا قرينة على تزاحم المباني، وقربها بعضها من بعض على رغم الكروم أو البساتين التي تحوط معظمها، بعد انقضاء نحو 4 عقود على ابتداء تشييدها) على افتراض ابتداء التشييد في عشرينات القرن التاسع عشر). وبنيت دور أخرى في "مزارع" الضواحي البعيدة على شاكلة برج العيتاني (1846) برأس بيروت، وهو أقدم تاريخ لبناء ناءٍ في الوثائق الـ36 "الفاخورية". وأعقبه أو سبقه برج اللبان - الداعوق، القريب من برج الحمرا. وميناء الحصن ورأس بيروت أو بينهما في السنطية والزيتونة، تعاقب على البناء الحاج عمر الهبري (1857) والحاج محمد ابن صالح الطرابلسي (1862) وحسين الداعوق (1864) وقبله الخواجة بسول، ومحمد محمد سنتينا وأنطون بك مصري أوغلي (1863) وآل قدورة )1860؟).
ولعل هذا غيض من فيض غزير وعريض لم تدون الوثائق القضائية بعض آثاره إلا متأخرة أعواماً من العسير تقديرها. وذريعتها إلى التدوين والحفظ هي، على ما مر، مبايعة أو حبس أو إرث، وليس ترخيص بناء معاصر، على ما حصل منذ 1860 - 1870 على التقريب، مع إنشاء مجلس بلدي، وصدور قانون الملكية العقارية العثمانية ثم قانون تسجيلها، وقانون حق الأجانب في التملك بينهما.
المدينتان
ولا ريب في أن إحصاء دوائر بيروت البلدية والإدارية والاختيارية، في 1861 ثم في 1880، على النحو الذي جاء عليه يثبت منازع السكن التي تدل عليها إقامة الدور الكبيرة في الضواحي والظواهر. ولكن الإحصاء يوسع الدلالة، ويلم بنشأة أحياء جديدة لا ذكر لها في الوثائق الباقية، وبثبات نوى سكنية لم تأفل قبل نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن التالي. فأحياء الدباغة والشيخ رسلان والفاخورة) لصقه) والحمام الصغير كانت لا تزال قائمة ومأهولة، على رغم هجمة المحال التجارية الجديدة عليها، واتصال الدكاكين والحوانيت في أسواق جديدة مثل السوق الطويلة والبازركان وخان أنطون بك وباب إدريس، إلى الغرب، وسرسق وسوق الذهب، إلى الشرق. وتحصي الدعوة إلى الانتخاب بشرق بيروت ودائرتها "محلات" أو أحياء الصيفي والرميلة والرميل والأشرفية والقيراط ورأس النبع) الشرقي)، وبعضها أغفلته الوثائق القليلة. وتحصي على الجهة الغربية، خارج السور، الباشورة وزقاق البلاط والمصيطبة والمزرعة ورأس النبع الغربي. ويملأ الإحصاء الدوائر الفردية بالسكان، الناخبين والمستقرين بعد هجرة، غداة العشرين عاماً الدامية (1840 - 1860) التي بقيت بيروت على العموم بمنأى منها، الأحياء الجديدة خارج الأبواب والمأهولة بسكان تكاثروا سريعاً.
وقد يكون إغفال الوثائق بعض خطط السكن الجديدة، مثل الأشرفية والصيفي وحول القنطاري) زقاق البلاط)، على رغم تعاظم السكن فيها واصطفاء مرافق تعليمية واستشفائية لها، مرده إلى ضعف المعاملات الأهلية والشخصية) على صفة "الأحوال" الموصوفة بالصفة) العائدة إليها. فمزرعة الصيفي سرعان ما انقلبت، قبيل 1850 حين باعها طنوس فياض الى بولس طراد، من أرض توت، بين برج الكشاف شرقاً وجنوباً والبحر غرباً وشمالاً، إلى خطة مأهولة بصنوف الآهلين، مثل دير اليسوعية ومدرسته، وسوق البغاء، ومواقف العربات، والخانات والقيساريات المتصلة بالمرفأ القريب. وعلى زاوية ساحة السور الجنوبية الغربية، وهي بقيت خلاء الى 1850 كذلك على ما مر، عمرت تلة زقاق البلاط باكراً بآل حمادة و"قصورهم"، على قول فاخوري، وببعض وجوه آل بيهم، وهم كذلك أصحاب جاه ونافسوا آل حمادة على صدارة المسلمين. وأقام بجوارهم أحد وجوه تجار بيروت يوسف جدي، وآل فريج. وقبل أن يقع الإنجيليون الأميركان على أرض الحرم الواسعة بمحلة طنطاس المشرفة على جل البحر، "على" رأس بيروت، اختاروا زقاق البلاط، الضاحية القريبة من السور ومن نواة المدينة التجارية والإدارية، مقراً لمدرسة إرساليتهم. واستأجروا قصر الحاج عبدالفتاح آغا حمادة، وبنوا غير بعيد منه "بيت" مطبعتهم، وكنيسة أو هيكلاً لصلاتهم. فسميت الطريق المنعطفة من باب يعقوب غرباً طلعة الأميركان. وفي الخطة نفسها انتشرت المدارس وتزاحمت. فاختارها المعلم بطرس البستاني، معتنق البروتستانتية ومترجم نسختها من الكتاب المقدس بعهديه إلى العربية، موئلاً لمدرسته الوطنية. وصنعت الأمر نفسه راهبات الناصرة) ربما قبل شراء رئيسة الدير بالأشرفية، في 1869، من عامر وداود المصري أرض الدير)، وأخواتهن من سلك مار يوسف الظهور، والروم الكاثوليك البطريركيون.
وعلى أثر السور، وحيث شيّد منذ شيّد ثم جدّد ودعم وضرب نطاقاً حول نواة البلدة البحرية وحزاماً خانقاً، وفي الثنايا بين أحياء السكن النامية خارج البوابات، وبين الأسواق القديمة المنتشرة في ظل السور )إلى الداخل) – نبتت الخانات والقيساريات كالفطر. ولم تخرج الخانات والقيساريات مرة واحدة من السور. فكان خان الملاحة أو الملح بمحلة المرفأ، وقيسارية الصاغة وقيسارية البارود وقيسارية الأمير يوسف وقيسارية الشيخ عبدالسلام العماد في رأس سوق العطارين، حول جامع الأمير منذر. وبقي خان طاسو بمحلة الرصيف، على أطراف سوق باب يعقوب، داخل السور. واستقر خان الصاغة بسوق البازركان، إلى الشمال من جامع الأمير منذر. واتصل خان السادات بيهم، في محلة الفاخورة، القريبة من زاروب الشيخ رسلان ومقامه، بالسوق الطويلة وسوق سيور. وتخطت الخانات السور والبوابات في جهات غير مأهولة من قبل، وتفصل غالباً الأحياء بعضها من بعض. فقام خان الدباغة بمحلة الدباغة، بين المقبرة شرقاً والبوابة غرباً. وحفت به خانات أخرى: واحد قرب قلعة الميناء، وآخر بجنبه، وثالث شيده "بنو" بسترس قبيل جلاء الجزار وعرف إما بخان الأروام) الأرثوذكس) أو بخان بني بسترس. وغير بعيد من مجمع الخانات هذا، بنى أحد تجار آل البربير الخان الجديد. وتابعه رعد) خان رعد) وجان بولص طراد، والحلاج)؟)، والحلواني. وعلى الجهة الجنوبية في ساحة البرج، بين الصيفي وبين القيراط، رفع الحاج محمد بن مصطفى الكنفاني خان الكنفاني، وجعل في طبقته العلوية لوكندة وقهوة، وفي داره السفلية فرناً و26 دكاناً. وبجنبه خان النقاش أو خان البرج )برج الكشاف والساحة)، ثم خان حمانا أو خان المتن. وتصافت خانات التيان )حي المقسم غرب برج الكشاف) والأصفر )الدحداح) وسيور )الصيفي) والأمير أمين )الغلغول) والشرتوني )القيراط والدحداح) ومحمد أحمد )الموضع نفسه) والوحوش )سوق الخضار القديم بالقرب من جامع الأمير عساف) والمزيكة )باب يعقوب)، والخان الصغير )باب الدركه)، وبجنبهما خانان لآل ثابت وآل سرسق وآل الزهار على طرف الباشورة الشرقي. وخرج خان فرج الله الى محلة ميناء الحصن.
العمران والسكان
فشغلت الخانات والقيساريات الفجوات بين السور وأسواق الداخل و"محلاته" وبين العمران المتعاظم في حزام الضواحي والمزارع و"القرى"، على ما سميت في بعض الأحيان، بظواهر مدينة السور. والوصلة العمرانية هذه هي، في الآن نفسه، حاجز أو حزام من ضرب خاص. فتخصيص الأنشطة التجارية المختلطة والإقامة الموقتة والغُفل من التعريف الأهلي، وجمع معظم هذه وتلك في مواضع تكاد تكون متصلة وتقتفي رسم السور المتواري وأثره – أقامت العوامل هذه بين المدينة القديمة وبين "ضواحي" السكن المحدثة منطقة عازلة أو محايدة من الخانات والقيساريات و"القهاوي"، والملاهي )دور السينما والمسارح) لاحقاً. فحلت الأسواق، وهي استحوذت تدريجاً على قلب المدينة وفكت الإقامة السكنية بأحيائها وطرقاتها من "الدكان" ومن رعاية "المصلحة" التجارية والحرفية، و"اللوكندات" محل الخارج القريب والبري.
وما لا شك فيه هو ان الفيض عن السور وتخطيه نجم، فيما نجم عنه، عن انقلاب سكاني وتجاري ومالي سريع، رفدته حملة ابراهيم باشا برافد سياسي وإداري اقتصادي قوي. فالسكان الذين كان عددهم بين الآلاف الأربعة والستة في أوائل القرن التاسع عشر، بلغ الـ15 ألفاً في أواخر عشرينات القرن. ويقسمهم القنصل غيز على الأبواب التالية: 7 آلاف مسلم، و4 آلاف أرثوذكسي، و1500 ماروني، و1200 كاثوليكي، و800 درزي، و400 أرمني وسرياني كاثوليكي، و200 يهودي، و400 أوروبي. وتعاظم عدد السكان على هذا النحو في غضون حوالى العقدين، وفي أمصار تعصف بها الأوبئة وتغالبها على ضعف، يستحيل من غير روافد من الخارج، من الجوار القريب ودوائره الأبعد فالأبعد. وإذا كانت نواة السكان من المسلمين والأرثوذكس، بدا بلوغ عددهم 11 ألفاً، أي نحو ضعفي عدد السكان قبل عشرين عاماً، وذلك بزيادة صافية تبلغ في السنة 5 في المئة )حسابياً وليس فعلياً إذا أدرج الشطر الزائد، حين بلوغه سن الإنجاب، في الزيادة) عسيراً. فالنواة الأولى نفسها، إلى الدروز واليهود على تواضع عدد الجماعتين القديمتين، اقتضى تزايدها رافداً من خارج المدينة. وأخبار أهل المدينة، والسنة المسلمين على وجه الخصوص، وأنسابهم التي اعتنوا بها عناية "عربية"، تتقصى مصادر الرافد أو الروافد هذه. فبعضها من مدن الساحل، بين اللاذقية وغزة. وبعض آخر من "الداخلية" ومدينتيها البارزتين، دمشق وحلب. وبعض ثلاث من الحاج المصري والمغربي إلى الحجاز في طريق عودته الى بلاده. ولعل الـ2700 ماروني و)رومي) كاثوليكي، وهم نحو خمس جملة السكان يومذاك، إضافة "خارجية" صافية على نواة "الداخل" المركبة. فهجرة الملكيين )الكاثوليك) من معقلهم الحلبي، في أواخر القرن الثامن عشر، إلى "لبنان"، جبلاً وساحلاً مدينياً خصوصاً، ظاهرةٌ لم تخف على المعاصرين، وكتابهم ورهبانهم وأساقفتهم. والموارنة هم جيران الجبل القريب، شأن الدروز. وتعاظم عددهم في الجبل الضيق، وغلبتهم عليه عدداً وقوة اجتماعية وموارد وتدبيراً، مهدت، من وجه، إلى انقلاب الجبل من نسبته الدرزية الى نسبته "اللبنانية" التي أضمرت نسبة مارونية، وعلى التوسع مسيحية. وأفضت، من وجه آخر، الى انفجار النزاع الأهلي الوشيك في الجبل وفي بعض بلاد "الداخلية" الشامية. وعلى نحو ما كان بعض أهل بيروت يلجأون الى الجبل وأمرائه حين يضيِّق عليهم عمّال استانبول، على مراتبهم واختصاصاتهم، السبل، لجأ أهل الجبل، ومن ورائهم أهل "الداخلية" الدروز والموارنة والأرثوذكس والملكيون وبعض الأرمن والسريان إلى بيروت. ولاذوا بها من "البلص" والتعسف، ومن المنازعات الأهلية واقتتال أصناف العساكر العثمانية والمحلية المتكاثرة جراء ضعف الرأس في المركز )وخلافات شيخ الإسلام والانكشارية والسلطان محمود، صاحب "النظام الجديد").
ودخل هؤلاء بيروت من خارج السور والبوابات حين كان أهل النواة القدامى في الداخل، وأثرياؤهم من تجار وأهل إدارة وقضاء ونسب وحرفة في المرتبة الأولى، يتفرقون في الضواحي والظواهر القريبة، وينزلون قصورها و"أبراجها" و"داراتها" الفسيحة في وسط الحدائق والبساتين. والوافدون الجدد دخلوا المدينة المتجددة، غداة فك إسارها الحربي، مسافرين أو "مقيمين موقتين )...) تدل أمتعتهم المنقولة الخفيفة عن استقرار موقت وغير ثابت، ولا يمنعهم من أن يبدلوا محل إقامتهم بالفرار والالتجاء الى الجبل"، على قول القنصل الفرنسي المعاصر، ونزلوا حزامها، أو أرباضها خارج سورها، مزارعين يعتنون بالتوت وتجاراً ووسطاء بين أهل النواة القدامى، أصحاب تجارة الداخل، وبين التجار الأوروبيين المتوسطيين. وهؤلاء، وقناصلهم ودولهم )الديبلوماسية والقوات العسكرية) من ورائهم، لم يكونوا تجاراً مستميتين وحسب، بل كانوا جزءاً عضوياً من توسع دولهم، ومنافساتها، وقوة مراكزها في تضاعيف الجماعات العثمانية، والإدارات المحلية والمتوسطة، والهيئات الأهلية "التمثيلية)" والمعيَّنة في وقت أول طال نصف قرن). وحملهم هذا على استدخال الجماعات والإدارات والهيئات، والأمكنة وطوبوغرافيتها، على قدر ما حمل الجماعات والإدارات والهيئات على استمالتهم، والتوسل بهم إلى قضاء أغراضها ومصالحها. فالأوروبيون الذين استقروا ببيروت أسهموا في توسع التجارة المحلية من طرق كثيرة أولها توليهم حماية أملاك التجار المحليين من غزوات القراصنة اليونان، ثم تخزين بعض بضائعهم في مخازن الأوروبيين، وجني ربح من فروق رسوم الجمرك، وهي على التجار المحليين أكثر منها على الأجانب الذين كانوا "ينعمون، في شأن الرسوم، بامتيازات خاصة على حساب الرعايا العثمانيين”) هنري غيز). وألحق الأوروبيون "الوطنيين" بهم قبل أن يساوي القانون الفريقين الواحد بالآخر. ومهد انشاء القنصليات في الولايات كلها، وكانت إجازة القنصلية في ولاية )أو لواء أو سنجق، بعد الاصلاحات الأولى) وسيلة من وسائل محاصرة الأهالي وإضعافهم، الى المساواة بعد التفريق على مراتب. ولم يبق الالحاق امتيازاً "مسيحياً" أو أقلوياً عموماً. ويجمع القنصل إنشاء القنصليات ببيروت الى انتشار "مؤسسات تجارية وفنادق ومحال مجهزة على اكمل وجه، وأخيراً ملاه فخمة لا مثيل لها إلا في الأسكلات الخطيرة. ويسع القناصل رشوة الموظفين العثمانيين) الاتراك) وموظفي الادارات المتفرقة، ويستميلونهم من هذه الطريق. ويتوسط القناصل لتجارهم، وللتجار المحليين، معاً، ويتوسطون للسلطنة لدى الجماعات المحلية.
والجهاز القنصلي، على ما يشرح غيز، على مرتبتين، أولى وثانية، ومن نواب قناصل ووكلاء. ويُختار النواب والوكلاء من الاوروبيين عموماً، وإلا اختيروا من الأعيان المحليين. وحين أجيز هذا الاختيار ابتذلت الوظيفة، وتراكض الاعيان عليها. والتحقوا بالجهاز القنصلي، وحازوا بعض امتيازاته. ولكنهم، في مقابلة ذلك، عمدوا حين بسط السلام والامن حرية التجارة البحرية، وتعاطي سليمان باشا، خلف الباشا الألباني )الجزار) التجارة من غير احتكار، الى تخطي الوسطاء والوكلاء الاوروبيين. فعمد التجار العرب، "يحدوهم طمعهم الفطري"، على زعم من يحسب نفسه غير مفطور على مثل هذا الطمع، الى شراء ما يحتاجون إليه مباشرة من البلاد المنتجة. وبعضهم خاضوا البحار الى سواحل أوروبا المتوسطية، فأصابوا نجاحاً وأقاموا هناك حلقة قوية بين الضفتين. ولم تنقطع روابطهم بالتجار المحليين. فكان التجار المقيمون بمريسيليا وجنوى وترييستا وليفورنو وبعض الموانئ الانكليزية وكلاء زملائهم المحليين في الموانئ الاوروبية. وتولى هؤلاء إبلاغ زملائهم المهاجرين احتياجاتهم المحلية، وسبل تلبيتها. وانتهى حلف المصلحة المتبادلة الى "توحيد" الجناحين التجاريين، المقيم والمهاجر، في "طبقة" متماسكة، مشرقية وصفت بـ"الكوسموبوليتية" تجاوزاً، منتشرة في بيروت والاسكندرية وإزمير، الى انتشارها في مرافئ حوض المتوسط الجنوبية )اليونانية) والغربية والشمالية )انكلترا). فكان ببيروت، في 1827، 34 وكالة تجارية كبيرة، دولية ومحلية في عهدة 5 مسملين، و15 مسيحياً، و6 فرنسيين، و4 نمساويين، و2 بريطانيين، وروسي واحد، وسرديني واحد. وإذا أحصي كبار التجار "الوطنيين" كان فيهم 5 مسلمين، و5 مسيحيين، و2 فرنسيان، ونمساويان... وماشى تبلور طبقة "المشارقة" المختلطة، العربية المسيحية والعثمانية والاوروبية المتوسطية، نشوء قضاء تجاري مختلط، محلي وأوروبي، تولى القناصل التلفظ بأحكامه الجزائية، على وجه الخصوص. ولكن تداخل التجارتين، وضعف تكافؤهما، لم يحولا دون استقلال التجار المحليين بشطر راجح من التجارة المحلية، وحصر التجار الاوروبيين في مرحلة الوساطة الاولى )تجارة الجملة). وانفرد التجار الوطنيون من كبار المشارقة ومن أوسع التجار المسلمين والموظفين ثراء، بتسليف أمراء جبل لبنان وأعيانه المدنيين والاكليركيين وعوامه الميسورين المالَ وبعض السلع، وضمان التسلفيات على محاصيل موسم الحرير. وتقاضى المقرضون لقاء سلفاتهم فوائد ربوية فاحشة. وأثقلت هذه على التداول، وفاقمت التبديد والطفيلية في القطب التجاري المشرقي والمسلم. وترتب على الحال هذه تفشي النازع الى البناء في الاثرياء الجدد والقدماء، وحملهم على حبس رأس المال عن أنفسهم، والتخلي عن عوائده من الاعمال والتوفير لو استعمل في الوجهين، وعلى الاستدانة بفائدة تبلغ 4 الى 5 في المئة في الشهر. ويسرت الاعتمادات التجارية الاوروبية الى التجار المحليين التداول وأدخلت في دائرته المتسعة "مستهلكين" جدداً ما كان لهم أن يدخلوها لولا عرض العملة والنقد هذا.
السور المزمن؟
وأثمرت العوامل المتفرقة والكثيرة، في غضون نيف وعقدين، بنية اجتماعية مدينية "صورتها" اجراءات ابراهيم باشا حين دخوله بيروت في 1831 - 1832 تصويراً دقيقاً. فهو سمى اعضاء مجلس شورى نصبهم وسطاء بين الادارة المحتلة وبين الاهالي. وحصل عددهم 12 عضواً: 6 مسلمين من مقدمي عائلاتهم وأسرهم )عبد الفتاح حمادة وعمر بيهم وأحمد العريس وحسن البربير...)، و6 مسيحيين معظمهم من الاورثوذكس والكاثوليك )جبرائيل حمصي وبشارة نصرالله والياس منسى وموسى بسترس...). وعلى خلاف السلطة العثمانية وتحجيرها على الساحل والمسيحيين والتجارة والقضاء، قايض ابراهيم باشا مساواته الاهالي وطوائفهم وحماية غير المسلمين وتحرير التجارة ودعوة الاوروبيين الى الاقامة والاستثمار، بجباية الضرائب أسوة منهم كلهم، وتجنيد شبانهم قسراً، والاستيلاء على الارض الصالحة للزراعة سخرةً، على المثال المصري. وفي أثناء أعوام الحكم المصري، وهو لم يدم عقداً كاملاً، بلغ عدد سكان بيروت )في 1840، سنة جلاء المصري) 30 ألفاً، أي ضعفي عددهم قبل 12 سنة. وهي زيادة في معظمها، من غير شك، "خارجية"، أي من الجبل ومن "الساحلية" )طرابلس وجبيل وجونيه وصيدا وصور)، وفيها مصر نفسها، براً من طريق مدن الساحل وبحراً من طريق الملاحة المشاطئة والخفيفة )في 1838، استقبل مرفأ بيروت 5010 سفن، على احصاء القنصل الفرنسي). وفي ختام فصول "الحركات) النزاعات الأهلية، على ما يسميها بعض الرواة الدروز) في "لبنان"، أي الجبل وبعض الداخل )أو "نكبات الشام" على تسمية شاهين مكاريوس، حوادث البقاع الغربي والجنوبي المختلط)، في 1836، بلغ عدد سكان بيروت 60 ألفاً، وناهز المئة ألف في أواخر القرن وأوائل القرن العشرين. فبعد زيادة بلغت الضعفين في 12 سنة )من 15 ألفاً في 1828 الى 30 ألفاً في 1840، هي عملياً الحقبة المصرية) اقتضت زيادةُ ضعفين آخرين، ولكنها طرأت على حجم أكبر، 23 سنة، أي ضعفي عدد الاعوام السابقة. وهذا قرينة على تقدم مصدر الزيادة الداخلي على روافدها الخارجية. ولا يقلل هذا من ثقل الروافد الجبلية: ففي حادثة 1903 الطائفية ببيروت، وهي أوقعت نحو 15 )؟ ) قتيلاً في اشتباك "أشقياء" برأس النبع، معظمهم )؟) مسيحيون، ترك بيروت لائذاً بالجبل نحو 30 ألف مسيحي "بيروتي".
والملاحظات السكانية والاجتماعية المتقدمة تصف، أو تسهم في وصف حركة العمران المديني التي أخرج بيروت من سورها وبواباتها وحاراتها وطرقاتها وزواريبها. فجددت أسواقها، وأحدثت أسواقاً – بوابات غير حصينة، على ما مر، مثل باب إدريس وباب سرسق، أو أسواقاً حديثة مثل السوق الطويلة. وخلطت سكانها بروافد كثيرة، غلب عليها المصدر الجبلي. وأدخلت في صلب الاسواق التجارية تجاراً وأصحاب مهن جديدة )أطباء ومعالجين ووكلاء ومقاولين وبياعي مفرَّق وموظفين إداريين ومترجمين وخبراء عمارة ورصف طرق...)، وخلطت جنسياتهم المتوسطية والمشرقية. وأخرجت نواة السكان القديمة والقليلة والقريبة من التجانس على رغم قسمتها الدينية الى الظواهر. واستقبلت في الظواهر والمزارع والضواحي والروابي وجوه اهالي النواة وميسوريهم، والمهاجرين من جبل لبنان ومن مدن الولايات القريبة ومن المرافئ والحواضر الاوروبية والغربية. وتشابكت حركات الهجرة، والتقت الهجرتان بشرق طريق الشام، بين الصيفي والناصرة، وبزقاق البلاط والقنطاري والرمل )قبل "الهجرة" الاميركية الى رأس بيروت في الربع الاخير من القرن التاسع عشر)، وفي ثنايا الكتل الثلاث. ولم تكن الهجرتان متجانستين، لا الواحدة قياساً على الاخرى، ولو الواحدة قياساً على نفسها وأجزائها. فإذا اشتركتا في غلبة الميسورين والاعيان في الموجة الاولى، فسرعان ما غلبت العناصر العامية على الهجرة الى الكتلة الشرقية، وداخلها الاجانب المقيمون مداخلة عميقة. وتأخرت الهجرة العامية الى الكتلة السكنية العربية، وكان فقراؤها أشد فقراً من نظرائهم. وبعضهم انتقل، متأخراً، الى الطريق الجديدة، وهي وصلت الحرج ودائرته بشوران والروشة ورأس بيروت في مطلع القرن العشرين. وأقامت كتلة السكان بغرب بيروت على تباعدها المرتبي الاجتماعي زمناً طويلاً قبل أن تنشأ نخب جديدة في دائرة الاقامة والسعي الجديدة، وتردم الهوة، وتخلف النخب القديمة. وهذا ما سبق اليه أهل كتلة الاحياء الشرقية، وهي كذلك أفقر سكانها بأحياء متطرفة في عين الرمانة. ولم تلبث "طبقة" المشارقة المختلطة أن تصدعت في مطلع القرن العشرين. فمال شطرها المسلم الى تيارات الاصلاح العثماني، بينما نزع شطرها المسيحي والشطر الجزئي الاوروبي من منازع وطنية وأهلية استقلالية أو انفصالية، على ما سميت يومها ومن بعد.
في ثنايا الكتل الثلاث، المدينة العربية أو العثمانية، وكتلة الضواحي الشرقية، وكتلة الضواحي الغربية، وعلى رسم السور وبواباته وأسواقه، وعلى أنقاض المقابر القديمة، اجتمعت )أو تكأكأت) كتلة رابعة. فحجزت بحاجز وظيفي ورمزي بين الكتل الثلاث ووصلت بينها معاً. وائتلفت الكتلة الرابعة والمطاعم وصالات السينما وسوق البغاء والمحال التجارية والاسواق الموقتة و"كاراجات" أو محطات السفر وأحياء السكن الفقير والمتوسط القديمة )الغلغول والطمليس والخندق الغميق والقيراط والجميزة والخارجة) والساحات. فكانت الوَصْلة بين الكتلتين الاهليتين وبين النواة السابقة والنازعة الى الاختصاص التجاري. وقامت الوصلة، المختلطة والمركبة، بإزاء "داخل" فقد وحدته وتصدع في دياره ومهجره، مقام خارج "ماجن" لا تقيده نواهي الفصل والتمييز والترتيب ولا أعرافها السائرة. ونهضت الوصلة ومرافقها ومبانيها، المادية والمعنوية، على حدود أو تخوم المدينة العربية العثمانية و"مسالحها)" معابرها المسلحة) المتآكلة، قرينة على رجحان كفة كتلة )الشرقية) على كفة الميزان الاخرى، بينما أسهمت الكتلتان في ازدهار المدينة وتجديدها وتوسيعها وصلُ الميناء بالداخل السوري وتأهيل الميناء وحفره. وهذا ما أجمع عليه الاجانب الاوروبيون والمسلمون والمسيحيون، معاً. وبلغت الحماسة بمسلمي بيروت أن دعوا فيصل بن الحسين، العائد من مؤتمر الصلح بباريس الى دمشق من طريق الميناء النشط والمزدهر، الى انتخاب بيروت عاصمة المملكة العربية المزمعة. فأجاب الامير، عشية ميلسون بضاحية دمشق، أن عاصمة عربية على البحر ليس في المستطاع الدفاع عنها، وضعيفة إذا هاجمتها الاساطيل. ولكن ما تكلم بلسان أعيان بيروت وأبناء عائلاتها هو الداعي البيروتي، الاهلي والمديني التجاري. وأما الداعي الغربي، والعثماني الى وقت قريب، فلا شك في أن جواب الامير الداخلي أقنعه وصرفه من طلب الصدارة لمدينة تجارية ومختلطة أقامت محل سَورها وخندقها وهوية أهلها مستودعات بضاعة، ومسارح ومراقص ومقاه وشاشات ومحطات سفر. فلا يستقيم تبني المدينة على وجه المركب والمختلط والموشى الذي صنعها أهلها عليه، ولا يسعهم نسبته الى أنفسهم وصنيعهم، إلا على مضض.
عن المؤلّف
- وضّاح شرارة، كاتب وعالم اجتماع لبناني. آخر إصداراته "أهواء بيروت ومسارحها" (دار النهار، بيروت، 2009).