
واسيني الاعرج
كنت في مهرجان السنيما في وهران، عندما سألتني إحدى الصحافيات: ما رأيك في تصريح بوعلام صنصال الأخير الذي يشبّه فيه قتلة داعش في نيس، بممارسات ثوار الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية؟
اعتذرت، إذ كيف اجيب عن شيء لم أقرأه؟ انتظرتُ الى أن أقرأ ما قاله بوعلام صنصال في مصدره في جريدة لوموند الصادرة بتاريخ 18-07-2016، في زاوية أفكار في مقالة تحت عنوان: حذار من إرهاب بتكلفة رخيصة gare au terrorisme à bas coût ، شديدة الخطورة لأنها لا تمس فرداً ولكنها تمس ذاكرة جمعية. لم أستغرب كثيراً. ما قاله جزء من منظومة فكرية واستراتيجية أدبية تبناها صنصال منذ روايته قسم البرابرة ورواياته التي تلت بالخصوص مذكرات الأخوان شيلّر، وتصريحاته الكثيرة وزيارته لإسرائيل وموقفه من القضية الفلسطينية والحركة الانفصالية MAK .
لا غرابة مطلقاً في أن يصل إلى ما وصل إليه. فقد وجد القرائن، على الأقل هذا ما يظهر من زاويته في جريدة لوموند الفرنسية، بين أبطال معركة الجزائر (1956-1957) الذين كانوا يحملون قضية في ظرفية استعمارية واضحة ومحددة، واستعملوا الوسائل المتوفرة لطرد المحتل، وبين ما قام به الشاب التونسي المختل، والعدمي، ضد ناس أبرياء في نيس لا علاقة لهم بأي صراع سوى أن الظرف القاسي أوجدهم في ذلك المكان، ليلة الاحتفال بعيد فرنسا الوطني، في جادة الإنكليز الجميلة. طبعاً، يجب أن نتفق منذ البداية على ضرورة الخروج من عقلية المصادرة. من حيث المبدأ، لبوعلام صنصال الحق في أن يرى ما يشاؤه، من ناحية التصورات الفكرية الخاصة به ولا معنى للمناداة بحرمانه من الجنسية أو اتهامه، واتهام أهله بالخيانة الوطنية العظمى، لأن الثورية ليست جينات متوارثة، كما أنها ليست قسراً على مجموعة دون أخرى. فمن غير المعقول أن ننصب المشانق لكل من يختلف مع ما نؤمن به. لكن، لنا الحق أيضاً في مناقشة صنصال في أشياء تبدو شديدة الالتباس والخطورة تمّ تسطيحها وعزلها عن أي سياق لغرض في نفس يعقوب. وهي طريقة سبق أن مارسها صنصال ضد الفلسطينيين حيث وزع العديد من صكوك الغفران «للديمقراطية الإسرائيلية» في مواجهتها «للإرهاب الفلسطيني»، متناسياً، بطبيعة الحال الجرائم الصهيونية التي أدمت الفلسطينيين وغيرهم، ولم تعد تخفى على أحد.
بهذا المنطق الذي سلكه صنصال، سيصبح كل ثوار العالم قتلة. المناضلون الإيطاليون الذين اغتالوا موسوليني وعلقوه في الساحات العامة، سيتحولون إلى قطاع طرق ومجرمين. فرنسيو كوميونة باريس الذين قاتلوا من أجل مثل آخر في القرن الثامن عشر وارتكبوا الكثير من التجاوزات، والمناضلون الذين حرروا فرنسا من أيدي النازية ووضعوا المتفجرات في أمكنة مدنية، سيصبحون أيضا قتلة.
كيف سيكون جون مولان إذا طبقت عليه هذه المقاييس السهلة التي تجرد الفعل الثوري من قيمته العميقه ومن هدفه النبيل؟ بل إنّ شباب 68 الذين رفعوا لواء نظام اجتماعي أكثر عدالة في الجامعات والمعاهد، والساحات الباريسية، وقاوموا بطرق عنيفة أحياناً، ليسوا أكثر قتلة ومجانين.
سيتساوى المناضلون الذين ضحوا من أجل مثل، مع ممارسات هتلر، وقتلة فيشي. الجنرال دوغول نفسه الذي غدا بالنسبة للفرنسيين والعالم، رمزاً للحرية والتحرر وحق تقرير المصير، لن يكون بهذا المنطق، أكثر من مجنون خاض حروباً قاتلة ضد النازية ولاحقاً، ضد كل من اختلف معه. والأمر ينطبق على كل الحركات التحررية التي حملت سلاحاً لتحرير بلدانها من نير الاستعمار الذي ارتكب كل الفظاعات الممكنة من التقتيل إلى محارق بيليسيي Pellisier سيتم تجريمها بمنطق صنصال عندما لا يوضع عنفها في سياقه التاريخي.
فوراء كل ردة الفعل توجد قضية تحررية حقيقية، ويوجد ظلم ولاإنسانية، كثيراً ما اقصاها صنصال في مداخلاته وتصوراته حتى السابقة منها لهذه المقالة. عندما تؤخذ ردات الفعل الثورية خارج سياقها، يصبح التاريخ البشري كله عبثاً وتقتيلاً ودماً ولا معنى.
ماذا كان في إمكان العراقي أن يفعل في حرب الخليج الاولى والثانية التي دفن فيها أكثر من مليون مواطن بريء؟ سوى حمل السلاح والدفاع عن أرضه؟ ماذا يستطيع الفلسطيني فعله اليوم، بعدما مسه اليأس من أي حل سلمي زكته المواثيق الدولية، وفي ظل دولة راعية للإرهاب، سوى تقديم جسده ضد آلة قهرية عمرها اليوم أكثر من نصف قرن؟
ما رأي صنصال في تجارب ريغان النووية وآلاف ضحايا قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما؟
ما رأيه في النابالم الذي أطلق على مداشر فقيرة فمحا الصغار والكبار؟ ما رأيه في إبادة 45 ألف ضحية في أيام قلائل؟ كيف نسمي هذه الهمجية التاريخية؟ في أية خانة نضع أجدادنا وآباءنا الذين تركوا كل شيء وراءهم والتحقوا بالحركة الوطنية برفقة الآلاف من أمثالهم من الذين حملوا السلاح وقاتلوا من أجل شيء واحد هو أن يكونوا أحراراً على أرضهم وأرض أجدادهم؟
ماذا فعل ملايين المقتولين لتحرير أوطانهم في عز الاستعمارات القاتلة والخطيرة والديكتاتوريات القاهرة التي نهبت الأرض وخيراتها وأذلت الناس؟ قبل لوم الضحية وإحصاء ممارساتها الإرهابية؟ يجب التوجه نحو الجلاد وسؤاله سؤالاً بسيطاً: أية قضية إنسانية كان يحميها في النهاية؟
لهذا أستطيع القول إن صنصال لا يقول فكراً، لكنه يبيع سلعة. بالنسبة لمجرم، إذ لا يمكن نعته إلا كذلك؟ جادة الانجليز في نيس، لا يبشر إلا بعدمية مقيتة هدفها في النهاية الإنسان والبحث في أشكال إبادته. عدمية تحولت إلى آلة تبرر كل التطرفات المتأتية من اليمين المتطرف وحتى جزء من اليمين العادي المنافس له في المزايدة السياسية، تخدمه خدمة جليلة. فأية قرابة بين هذا وذاك؟ التطرف والإرهاب فرعان لجذر واحد، هل يجهل صنصال ذلك؟ لا أعتقد، فهو رجل وافر الذكاء والمعرفة. طبعاً، لتصريحه الأخير، مبررات كثيرة. فهو جزء من سلسلة من الإشارات المبعوثة لمن أراد أن يسمعها ويلتقطها من سدنة الجوائز العالمية الكبرى، وتوضع في ميزان الشجاعة ورصيد كتاباته المقاومة؟ وهي من الناحية الثانية تبتذل تاريخ أمة ورغبتها في التحرر في سلسلة من العمليات التسطيحية.
ما رأي بوعلام صنصال في كل الميراث النضالي الإنساني، الأمريكي، الأمريكي اللاتيني، الأوروبي، العربي، الآسيوي والإفريقي؟ الذي صاحب تحرر هذه المناطق وصنع مصيراً آخر للإنسانية جمعاء؟