في شهر آب من العام 2012 تسلّلت بصحبة صديق ديراني إلى مدينة داريا، بعد المجزرة الكبرى التي حصلت فيها. هناك التقيت العشرات من نسائها ...
في شهر آب من العام 2012 تسلّلت بصحبة صديق ديراني إلى مدينة داريا، بعد المجزرة الكبرى التي حصلت فيها. هناك التقيت العشرات من نسائها وشبابها ورجالها، شممت رائحة الموت، التي كانت ماتزال عالقة في الأجواء، رائحة الدخان، فبعض الحرائق كانت ماتزال مشتعلة، رائحة القهر، ورائحة الألم. لكن في النهاية كان ثمة كبرياء غريب، يشتدّ عادة بعد الشدائد. وحدها رائحة الكبرياء هي التي رافقتني يومها وأنا أغادر داريا في 30 آب العام 2012، وبعد شهرين وأنا أغادر وطني إلى المنفى.
كثير من تلك التوثيقات التي جمعتها استخدمتها فيما بعد كمادة في روايتي "الذين مسّهم السحر"، بعض منها نشرتها في الصحافة، والبعض لم أنشره. منذ أيام وداريا وناسها يلحّون على ذاكرتي، وتلك الزيارة المضمّخة بالفجيعة تفرض نفسها عليّ كأنها حصلت البارحة. هنا أعيد أنشر بعض القصاصات عن داريا، تحية لها، وتحية لأهلها الجميلين، وعسى يأتي يوم ونلتقي من جديد هناك.
ملاحظة: الأسماء ليست حقيقية، فقد اعتدت على نسيان كل الأسماء الحقيقة وكتابة الوهمية منها خوق الاعتقال.من توثيقات داريا:
أنا الناجي الوحيد، أنا ضحية المجزرة.
"أبو أحمد الصافي"، ذاك الذي يعرف معظم الذين سقطوا في مجزرة مدينة "داريا" آب 2012، فهو الذي دفن معظمهم! يدور في سيارته الهونداي الصغيرة البيضاء في الشوارع وتحت القصف، يراوغ الشظايا والحرائق والنهايات، يلمّ الجثث المرتمية هنا وهناك، يأخذها إلى باحة المسجد ويكفّنها... "لوجه الله"، كما عبّر. ثم يدفن الجثث فيما القصف مستعر، "فإكرام الميت دفنه". قال لي وهو يقف متعجّلاً عند باب بيته: أنا رأيت الموت مرات ومرات. كنا ننقل الناس الميتة، إلى الآن لم أعرف جثث من هي؟! ندور في السيارات، ونلمّ الجثث من الشوارع والأقبية... مئات ومئات، سيارتي كلها مثقّبة بالرصاص!... انظري انظري. رأيت الذي لم يره بشر. لن تصدقي بشاعة ما رأيت!! الذي صار يا أختي بهذا البلد ولا الخيال بيتصّور أفظع منه، ومهما حاولتم أن توثّقوا وتكتبوا لن تقدروا... الذي حدث أفظع... أفظع بكتير...
- وإن لم تتعرف على صاحب الجثة هل تدفنها؟!
- يصوّرها الشباب بالموبايل. إذا أتى من يسأل عن جثة قريب له أريه الصور ليرى إن كان من يريده بينها! على فكرة أختي حتى لو كان القتيل عوايني أدفنه، ما عندي مشكلة... هو روح كمان! لا يجوز من الله أن أتركه هكذا، مرمي مثل الحيوانات أجَلّك... إكرام الميت دفنه.
الدفتر الذي كان يغصّ بالأسماء شاهد على ما دفنت يداه: مئات الجثث دفنها "أبو أحمد الصافي" خلال أسبوع دامٍ مرّ على مدينة "داريا". ولأن الموتى راحوا يُخلقون في الشوارع والأقبية والشقق والمحلات وفي كل مكان، لم يعد من متّسع للعناية بكل جثة على حدة. فصار شباب "داريا" يصفّون الجثث قرب بعضها بعضاً، ويكفّنونها بانتظار الدفن الجماعي. ذات ليلة من ليالي الحصار جهّزوا أكثر من خمس وعشرين جثة، صفوها أرتالاً متتالية بانتظار دفنها في إحدى المقابر الجماعية التي أعدّها الشباب على عجل. كانت الدماء ماتزال تسيل في مجارٍ طارئة على الأرض الترابية، وتتّجه إلى جذوع الأشجار القريبة لترويها. قبل أن يبدؤوا بوضع الجثث في الحفر الطويلة، التي انتهوا من حفرها، انطلق صوت يشقّ الهواء، كان يبدو بأن الطيران قد بدأ بغارة جديدة على المنطقة. سقطت قذيفة قريباً، ودوى صوتها المهدد، فما كان من الشباب إلا أن رموا معدات الحفر وانطلقوا للاختباء ريثما تنتهي الغارة. في غرفة أرضية بجانب المقبرة قبعوا حوالي نصف الساعة حتى انتهت الغارة، ثم خرجوا مسرعين ليكملوا عملهم قبل أن تأتي غارة أخرى. كانت النار تتصاعد من بعض الجثث المصطفة، وقد سقطت القذيفة وسطها، جثث أخرى تفحّمت، فيما تشظّت غيرها من الجثث إلى مئات القطع المتناثرة في كل مكان من المحيط.
"وحدنا من نموت مرتين في هذه البلاد".
قال لي أحد الشباب.
قبل أن نغادر البيت أعطاني مجلة ملوّنة متقنة التصميم اسمها "عنب بلدي"، يصدرها الناشطون في المدينة عوضاً عن المطبوعات والدوريات الرسمية التي لم يعد لها وجود هناك. على صفحات تلك المجلة كانوا يسفحون كل ما يريدون إجهاره، كل ما يوثقونه، وكل ما أرادوا قوله منذ زمن بعيد!
ثمة رجل لا يمكنني نسيانه في "داريا"، رجل نحيل للغاية، حانٍ، والكمادات المصفرّة تغطي أكثر من نصف وجهه الأيسر. لم يقل لي اسمه، طلب أن أدعوه "أبو نادر"، الناجي الوحيد من مجزرة حصلت في إحدى أقبية البنايات التي اختبأ فيها العشرات. همس لنا كممسوس بأن عناصر النظام أخرجوا الرجال من القبو على دفعات، اثنان اثنان في كل دفعة، صفّوهم على الحائط المقابل للقبو، ورشّوهم بالرصاص. كل رجلين قتلا سوية أمام أعين الباقين الذين كانوا ينتظرون حتفهم القريب! ثلاثة وستون قتيلاً ارتموا يومذاك في القبو، بينهم ناجٍ وحيد، هو "أبو نادر" أبقاه القدر ليكون شاهداً على ما حصل.
الجميع نجوا، وبقيت وحدي ضحية المجزرة!!
يقول. كانت الرصاصة قد دخلت من عنقه وخرجت من وجنته، ملليمترات قليلة فصلته عن الموت كأبيه وأخويه وأصدقائه وجيرانه. حين استيقظ كانت الأجساد المدماة منتشرة حوله، الذباب يطنّ، رائحة الدماء طاغية، والجو خانق كقبر. أزاح جثة من عليه وقام يهرول خارجاً.
- "مازال الصوت في رأسي... من شان الله، اقتلوني ودعوني ارتاح. لا أستطيع النوم. كلما نمت أسمع صوت صراخ أبي أو حشرجات أخوي...".
كان يبدو أن الملليمترات القليلة التي فصلته عن الموت فصلته عن الجنون كذلك. لم يكن بإمكاني يومذاك أن أكمل حديثي معه، فقد كانت الفجيعة أفظع من أن يتحملها المكان.
(*) مدونة نشرتها الروائية روزا ياسين حسن على صفحتها الفايسبوكية
ليست هناك تعليقات