فايز القنطار – أكاديمي سوري
يقول الباحث الفرنسي ميشيل سورا في كتابه “الدولة الوحشية” أي دولة الأسد أن المؤتمر العلوي الذي عقد في حمص عام 1963 بحضور حافظ الأسد اتخذ عدة قرارات أهمها:
اقامة دولة علوية تكون عاصمتها حمص وتشجيع انتقال العلويين إلى حمص واللاذقية وطرطوس
اختراق حزب البعث والسيطرة على المدارس العسكرية (كليات الضباط)
ازاحة العناصر الدرزية والإسماعيلية من الجيش وبسط السيطرة على مختلف مفاصله الحساسة.
جاء هذا المطلب الأخير على اثر تصفية “السنة” من الجيش بعد انقلاب 8 آذار بتهم ملفقة وازاحة ما تبقى منهم على اثر حركة جاسم علوان الناصرية. ثم ابعد الجميع تدريجيا فيما بعد وتم بالفعل احتكار الكليات العسكرية ليشكل الطلاب العلويون الغالبية الساحقة في هذه الكليات.
كانت مشكلة حافظ الأسد مع “الدروز” مثل مشكلته مع الأكثرية “السنة” فابناء الجبل شكلوا بعد الاستقلال ثقلا عسكريا وسياسيا في الدولة السورية أكبر بكثير من حجمهم الديموغرافي هذا الدور برضى وقبول الأكثرية “السنة” ومباركتها. هذا الدور هو محصلة لانخراط “الدروز” في مشروع وطني عروبي منذ مطلع القرن العشرين ودورهم البارز في معارك السوريين من أجل الحرية والاستقلال فكان فرسان جبل العرب في مقدمة جيش الملك فيصل وهم اول من رفع العلم العربي في دمشق التي استقبلتهم استقبال الأبطال . وتعاظم دور الجبل في الكفاح ضد المستعمر الفرنسي وربما أخذت جغرافية الجبل وتضاريسه اضافة لعزيمة فرسانه أهمية خاصة في هذا الدور الوطني الطليعي في مواجهة المستعمرين الجدد. هذه المعركة التي انطلقت بقوة في الجبل عام 1925 واحتضنها “السنة” في الجنوب السوري وفي دمشق وغوطتها واشترك الجميع دروز وسنة ومسيحيين في مشروع وطني تحرري. فثورة جبل العرب لولا هذا المشروع وهذا الاحتضان لبقيت ثورة محلية يسهل تطويقها وإخماد جذوتها. حظيت هذه الثورة باهتمام الوطنيين الذين قدموا لها سبل الدعم وفتحوا امامها الآفاق لتنتشر في مختلف ارجاء الوطن السوري. وأصر زعماء “السنة” على تسمية سلطان باشا الأطرش قائدا عاما للثورة السورية ومنهم الزعيم الكبير عبد الرحمن الشهبندر طيب الله ثراه الذي عاش بين الثوار في الجبل وكان من القادة البارزين في هذه الثورة. أدرك الشهبندر أهمية جغرافية الجبل في منازلة الاستعمار المدجج بآلة حربية متقدمة وعرف عن كثب شجاعة هؤلاء الرجال واقدامهم واستعدادهم للتضحية من أجل الحرية والاستقلال. هكذا دخل الجبل في عمق الوطنية السورية وسطر بدماء ابنائه ملحمة المجد بتناغم مع جميع مكونات المجتمع السوري، ودخل المشهد السياسي والعسكري بدور اساسي بعد الاستقلال وكان معيار الوطنية والولاء للوطن هو الأساس في هذا الدور.
كان حافظ الأسد مدركا لهذه العقبة الكبيرة في وجه مشروعه الدكتاتوري الطائفي فقام بتدبير المكائد والمؤامرات للتخلص من ابناء الجبل وإزاحتهم نهائيا وتهميش دورهم كما تم تهميش كل مكونات المجتمع السوري وإقصاء الجميع فلم يبق في المشهد إلا من يقبل الاذعان لإرادة الحاكمين الجدد. وفي انقلاب 23 من شباط 1965 تم ازاحة القادة التاريخيين لحزب البعث وتأكيد السيطرة شبه التامة للمشروع الديكتاتوري الطائفي تحت شعارات التقدم والوحدة والاشتراكية. كان الرائد سليم حاطوم ابرز عناصر الانقلاب الأخير وسرعان ما أدرك انه تم توريطه من قبل الأسد وجديد والكتلة العلوية، وشعر بالخداع فالقيادة المدنية والعسكرية اصبحت حقيقة في ايدي علوية. ندم حاطوم وقام بالاتصال بمن انقلب عليهم وعمل على اخراجهم من السجون وتهريب بعضهم إلى لبنان، وبدأ الاعداد لانقلاب آخر فلم يعد في الجيش سوى كتلة الدروز والاسماعيليين ووضع الجميع تحت رقابة ومتابعة من قبل جديد والأسد. في عام 1966 على اثر محاولة حاطوم الانقلابية الفاشلة، حيث تجنب سفك الدماء وفضل الهروب إلى الأردن لينادي من اذاعتها أن حافظ اسد وأعوانه يقودون سوريا إلى حرب أهلية بعد تصفية الجيش السوري من مكوناته الوطنية .
وفعلا تم القاء القبض على معظم الضباط الدروز والزج بهم في المعتقلات بحجة المشاركة في “مؤامرة حاطوم” والكثير من بينهم ليس لهم اية صلة او معرفة بما يدور. وبلغت الاعتقالات حدا دفع قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا أن يبعث ببرقية إلى رئاسة الأركان يستنكر هذه التصفيات في الجيش لأبناء الجبل.
شيطنة حاطوم وتخوينه
سليم حاطوم شاب مندفع شديد الحماس أصبح وهو برتبة ملازم اول بطلا من ابطال الجيش السوري عندما كان على الخط الأول في جبهة الجولان وكانت اسرائيل تتحرش بالجيش السوري في زمن الانفصال عام 1962 وهناك اوامر بعدم الرد على هذه التحرشات. قام الجيش الاسرائيلي بهجوم واسع على بلدة فيق حيث تتمركز وحدة سليم حاطوم الذي لم يتمكن من الحصول على موافقة القيادة على الرد. فقام على مسؤوليته الشخصية بإعطاء جنوده اوامر التصدي للقوة المعتدية وخاض معركة مشرفة انتهت بهزيمة المعتدين الذين لم يتمكنوا من سحب آلياتهم وأسلحتهم المحطمة فتم سحبها وعرضها في شوارع دمشق. ولم يعط حاطوم وسام اومكافأة لأنه رفض الانصياع لأوامر القيادة اذ أعطي هذا الوسام الى قائد اللواء. هذه المعركة جعلت من حاطوم بطلا وطنيا وأكسبته شعبية واسعة في الجيش السوري. هذه الشعبية الواسعة أقلقت الأسد واصحاب المشاريع الطائفية اذ يشعر بالصغر بالرغم من رتبه الوهمية أمام هذا الضابط المقدام الذي صنع النصر في حين لم يعرف الأسد وزمرته سوى الاذلال والهزائم امام الأعداء عبر تاريخه العسكري الطويل، كان يستأسد على العزل من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين وابعد الجيش السوري عن المواجهة مع الأعداء وخاض معاركه القذرة ضد ابناء شعبه.
ارتكب سليم حاطوم الكثير من الأخطاء نتيجة حماسه واندفاعه، وتم توريطه وخداعه بشعارات قومية يسارية اكتشف تضليلها عندما شعر بانه لم يعد من قوة ذات شأن في الجيش السوري سوى الأسد واتباعه فبدأ محاولته الانقلابية في ايلول 1966. وكانت فرصة الأسد الذي كان وزيرا للدفاع لتصفية المئات من الضباط الدروز من الجيش وطردهم ومحاكمة ابرزهم اللواء فهد الشاعر والرائد سليم حاطوم وحكموا بالاعدام واتهم حاطوم بالخيانة والعمالة “لاسرائيل”.
في حرب 5 حزيران 1967 كان الجيش السوري يفتقد لخيرة كفاءاته وضباطه الوطنيين ويفتقد لقيادة شجاعة ووطنية فبعد ايام من بداية الحرب وقبل أن يدخل الجيش في مواجهة مع اسرائيل أصدر حافظ الأسد وزير الدفاع امرا إلى الجيش بالانسحاب الكيفي من الجولان بلا حرب ولا ضرب وولى ضباط القرداحة أدبارهم هاربين تاركين أسلحتهم ومواقعهم المحصنة التي كان بإمكانها إن تقاوم سنوات طويلة. وأشاعت أجهزة المخابرات إن سبب الهزيمة هو خيانة “الدروز” الذين أشروا بالمرايا للطيران الاسرائيلي !!!! بهدف امتصاص الغضب الشعبوي . وكذلك فعلت الأجهزة القرداحية بعد كل هزيمة وأصبح الدروز شماعة يعلق عليها هزائم ضباط الأسد.
بعد هزيمة حزيران المخجلة اتصل سليم حاطوم بالقيادة السورية طالبا السماح له ولجنوده الدخول للدفاع عن دمشق وافقت القيادة على هذا الطلب ولكنها غدرت – كعادتها – والقت القبض على حاطوم وعذب حتى الموت واقتيد إلى الاعدام وهو جثة هامدة بتحريض وإشراف حافظ الأسد مستغلا غياب رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي الذي كان سيرفض تنفيذ هذا الاعدام لو عاد إلى البلاد. تم التخلص من هذا الشاب المفعم بالوطنية والرجولة وهو لم يبلغ الثلاثين من العمر. هكذا تصنع أكاذيب العصابة الأسدية بتحويل الخونة إلى أبطال والأبطال إلى خونة: سليم حاطوم نموذجا.
منذ ذلك الوقت تم اقصاء “الدروز” وتهميشهم ومنع ظهور شخصيات ذات شأن من جبل العرب فالكل يجب إن يكون ملحقا بالقرداحة بعد اقصاء الجميع والسيطرة على الجيش والأجهزة الأمنية. همشت السويداء وحرمت من التنمية وعوقبت ايما عقاب.
قائد الثورة السورية الكبرى
بقي وجود سلطان باشا قائد الثورة السورية الكبرى هذا الرمز الكبير من رموز الحرية بقي كالصخرة على صدر الأسد خصوصا وان رجاله الأمنيين ينقلون له أن الباشا لا يكن له المودة وهذه حقيقة . فلم يزر حافظ السويداء سوى مرة واحدة وذهب مرة أخرى “معزيا” محتفلا بوفاة سلطان باشا فغياب هذا الزعيم الوطني الكبير يسهل فرصة ظهوره المصطنع عن طريق الصور والتماثيل والخطاب الاعلامي الأجوف الذي جعل منه القائد التاريخي بطل التشرينين المعلم الأول والطالب الأول والقاضي الأول في طقوس عبادة الشخصية استخفت بعقول السوريين. سقطت هذه الهالة المصطنعة مع اول مظاهرة اطلقها الشعب السوري مطالبا بحريته وتناثر حطام تماثيله في شوارع المدن السورية.
بقي سلطان باشا في ضمير كل الوطنيين السوريين ورمزا يعتز به أبناء الجبل ن وسعى النظام الأسدي جاهدا لتهميش هذا الرمز ومنع شباب الجبل من الاحتفال بذكرى وفاته في 26 آذار من كل عام. كان يستنفر اجهزته الأمنية ويقطع الطرق المؤدية إلى القريا حيث يرقد رمز الحرية في مثواه الأخير. فهو يريد مسح هذه الرموز العملاقة من الذاكرة الوطنية خصوصا بعد اغتيال الزعيم كمال جنبلاط . أدرك عقلاء الدروز أن الأسد يدفع بهم إلى الظل والتهميش ولن يسمح لزعامة وطنية درزية تستقطب الناس فلا كبار إلا “كبار” القرداحة . وهذا لم يقتصر على الدروز وانما شمل الجميع فاغتيال صلاح الدين البيطار في باريس واغتيال رفيق الحريري ياتي في إطار هذه السياسة الأسدية التي اتخذت منحا خطيرا بعد تحالفها الطائفي مع ملالي طهران
انتفاضة السويداء في عام 2000
انطلقت هذه الانتفاضة بعد 4 أشهر من تسلم الوريث رئاسة الجمهورية .بعد مقتل شاب (فادي عريج بطل الجمهورية -العاب القوى ) من قبل البدو المرتبطين باجهزة النظام وقام زملاؤه في الثانوية بمظاهرات احتجاجية للمطالبة بوضع حد لتسلط اجهزة الأمن وعملائها. فساد هذه الأجهزة أصبح شديد الوضوح فلم تتورع عن التلاعب بكل شيء وتنظيم عمليات التهريب بالتعاون مع بعض البدو تهريب المخدرات والآثار&8230;. وضاق الناس ذرعا بتسلط هذه الأجهزة وإمساكها بمفاصل الحياة . وسيطر الشبان على المدينة واقتحموا دار الحكومة ولاذت الأجهزة الأمنية بالفرار امام الغضب الشعبي العارم. وكعادته اعتبر النظام ذلك نوعا من العصيان المدني وخروج على السلطة ، فسلطة الوريث الصغير مهددة. فوجئ الناس بدخول الدبابات وإطلاق الرصاص القاتل الذي يستهدف الراس والصدر وقتل العشرات وأصيب المئات لا بهدف تفريق المظاهرات بل بهدف الترويع والقتل فكل من يخرج عن بيت الطاعة الأسدي سيكون مصيره رصاص دمدم المتفجر. غير مسموح في دولة الأسد سوى بمسيرات التأييد التي تهتف بالروح بالدم لصغير القرداحة. وهكذا غرقت السويداء بدماء شبانها الصغار طلبة الثانوية وروعت المدينة في ظروف من الصمت وقطع الاتصالات وإعطاء الأحداث صبغة طائفية وكأنها مواجهة بين البدو والدروز وإشاعة أن “الدروز لا يحبون البدو لأنهم سنة”. وبعد مجزرة المستشفى التي سقط ضحيتها 18 شابا بدم بارد من قبل الحاجز الموجود هناك سرعان ما أشيع إن الأمر عبارة عن تصرف فردي ومن أعطى الأمر هو ضابط “حموي سني”. هذه الأكاذيب اعتاد عليها السوريون فسرعان ما تم الكشف عن حقيقة الضابط القاتل فهو من المقربين من قمة النظام ومن منطقة القرداحة كان المسئول عن تلك المجزرة فلا علاقة لا “للحموية ولا للسنة” بذلك.
يعمل النظام بلا كلل على التحريض وزرع الفرقة وإشاعة الكراهية بين مكونات المجتمع فهذه سياسة ثابتة في دولة آل الأسد. فالتحريض لم يتوقف يوما ضد الدروز وتخوينهم وعندما تسنح الفرصة يتم تحريضهم على اخوتهم وشركائهم في الوطن.
بعد استعادة السيطرة على المدينة ودخول الأسلحة الثقيلة وإغراق مظاهرات شبان الثانوية بالدماء عمل النظام على تسوية مهينة ومذلة مستخفا بحياة الناس عن طريق عملاءه الذين طردهم المحتجون ورفضوا الحوار معهم. وتم التعتيم على هذه الانتفاضة ولم يعرف السوريون عنها شيئا سوى بعض الاشاعات التي تشوه حقيقتها
وصل وزير داخلية النظام الفاشي محمد حربا وبدا بتوجيه اللوم الى قائد الشرطة العميد خضر المزيد وهو من عشائر الجزيرة وأخذ عليه عدم اطلاق النار على المحتجين والسماح للشبان بالدخول إلى السرايا وهدده بأقصى العقوبات. فأجابه لن أطلق النار ولن اقتل احدا “وشو صار انكسر لوحين بللور” !!! فهذا الضابط الوطني الأصيل تم تهديده بأشد العقوبات لأنه لم يقتل.
منذ ذلك الحين وضع النظام ثقله الأمني والعسكري في السويداء التي غدت مطوقة بالمدافع والدبابات من جميع الجهات وأصبح فيها من الجنود والأمن أكثر من عدد السكان ، وتوقفت مظاهر التنمية في المحافظة باستثناء تطور الأبنية والقصور العائدة للمحافظ وفرع الحزب وأجهزة الأمن التي تغولت على المجتمع بشكل غير مسبوق، واخترقت كل مفاصل الحياة الاجتماعية . فبعد أن كانت شعبة المخابرات عبارة عن شقة صغيرة مقابل الشرطة العسكرية أصبح لديها الآن ابنية وقصور فخمة وحتى المستشفى القديم الذي ورثناه عن الانتداب الفرنسي تم تحويله إلى مركز أمني وبعد هذه الانتفاضة، أضيف إلى هذه الفروع فرع الأمن الجوي سيء الصيت .
لم يعد أمام الشباب سوى التفكير في الهجرة او التطوع في أجهزة الأمن والجيش كعناصر وضباط صف في احسن الحالات بعد احتكار كليات الضباط من قبل جبلة والقرداحة فابن السويداء – كغيره من السوريين- لا يحلم برتبة ضابط إلا نادرا . وعندما يموت يرفع إلى ضابط شرف.
وهكذا عمل النظام الأسدي على ترويض ابناء الجبل ومحاولة اذلالهم وتحويلهم إلى خدم وحشم لضباط القرداحة عبر الخدمة الالزامية . يعرف نظام الأسد جيدا عنفوان شباب الجبل وشهامتهم وثوريتهم فهم لا ينامون على ضيم فعمل جاهدا على انتزاع هذه القيم النبيلة التي تميزهم وسحقهم واستعبادهم كغيرهم من السوريين. وكانت الخدمة الالزامية هي الفرصة المناسبة لتدجين السوريين جميعا وإذلالهم وترويضهم . وهكذا تحول الجيش السوري من جيش وطني ينمي مشاعر الاعتزاز والكرامة ويدافع عن الحدود ويربي افراده تربية وطنية صحيحة ، تحول إلى جيش يشكل مدرسة للعبودية والفساد والإذلال . وكل ابنائنا الذين مروا بهذه المؤسسة منذ الثمانينيات يعرفون ذلك جيدا عبر تجاربهم المريرة. يعرفون كيف كانوا عرضة للاستغلال وتأدية الخدمات الخاصة للضباط والمسئولين وكيف كان يسرق طعامهم وكيف كان عليهم دفع الرشا للحصول على ابسط حقوقهم.
تصفية الشيخ البلعوس ونخبة من شيوخ الكرامة
برز دور الشهيد الشيخ وحيد البلعوس منذ بداية ثورة الحرية والكرامة ، ظهر من العمق الشعبي ، واستطاع بسرعة أن يسد الفراغ الذي تركه تغييب النظام للقادة والقيادة سوى تلك المرتهنة للنظام الأسدي، فشكل حالة شعبية نمت وتطورت والتف حوله الكثير من رجالات السويداء حيث مكنته خلفيتيه الدينية من تحدي النظام وأجهزته الأمنية فلم يجرؤ على المساس به تجنبا لردة فعل قد تخرج السويداء عن طورها وتذهب إلى مواجهة مفتوحة. كان أهم ما يأخذه الشيخ البلعوس على أجهزة النظام هو عملها على اسعار الفتنة بين اهل السويداء وأهل درعا وفساد هذه الأجهزة ومتاجرتها بقوت الناس وتحالفها مع السماسرة والمهربين وتجار الحروب. تمكن الشيخ من تشكيل قوة مسلحة أصبح يحسب حسابها وعندما قويت شوكته تحدى النظام وقام باقتلاع بعض حواجزة التي كانت تمارس اذلال الناس. والخطوة الأكثر خطورة هي اعلانه حماية كل من يتمرد ويرفض الخدمة العسكرية في صفوف النظام، وأعلن أن ابناء السويداء لن يكونوا أداة في الحرب الأسدية على السوريين وهم لن يخرجوا خارج المحافظة وقامت مجموعاته بتحرير بعض العسكريين الذين تم توقيفهم على الحواجز وتجميعهم بهدف سوقهم خارج المحافظة.
هذه المواقف وتنامي قوة رجال الكرامة التي اسسها الشيخ البلعوس أصبح أخطر مشكلة بالنسبة للنظام الأسدي في محافظة السويداء. بدأ النظام يستشعر الخطر من هذه الظاهرة التي لم يقمعها في البداية ظنا منه انها ظاهرة مذهبية ليس لها ابعاد وطنية . ولكن سرعان ما تبين إن جماعة رجال الكرامة تتجاوز الاطار المذهبي الذي يشجعه النظام لتمزيق وحدة السوريين وتحمل آفاق وطنية تنسجم مع تاريخ الطائفة المعروفية وتقاليدها الوطنية عندما أعلن بأن سوريا امنا وليس لدينا وطنا بديلا والولاء للوطن فقط لا لشخص ولا لجماعة، كما أعلن أن مهمة رجاله هي حماية الجبل وتأمين الأمن لأبنائه ولكل من احتمى بأهله وطلب من الشباب عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية، وقام رجاله بتحرير بعض المعتقلين من بين أنياب أجهزة النظام وإخراجهم من داخل المقرات الأمنية عنوة.
ولكن النظام الأسدي عبر تاريخه لا يقبل بتنامي زعامة شعبية حقيقية لا في السويداء ولا في مكان آخر، فكل الزعامات يجب أن تكون ملحقة تابعة وخاضعة لصبي القرداحة، فزعامة البلعوس النابعة من صميم القاعدة الشعبية وتصاعد تأثيره والتفاف الناس من حوله حيث استقطب اهتمام ابناء الطائفة المعروفية التي تبحث عمن يعبر عن حقيقتها ويحترم تاريخها الوطني وتقاليدها في الحرية والكرامة ، تبحث عن زعامة تنأى بها عن أن تكون ملحقة بآل الأسد . فالبلعوس أخذ يكبر أكثر مما يتحمله نظام القرداحة ، وبدأ يهدد بسحب البساط من تحت “الزعامات” المرتبطة بأجهزة النظام .
ويتذكر الناس كيف قام النظام وعملاؤه في لبنان باختطاف الاستاذ شبلي العيسمي في بداية الثورة لتغييب تاثيره على الحراك الشعبي في الجبل.
في مطلع شهر أيلول من هذا العام تصاعد الحراك الشعبي السلمي في محافظة السويداء واستمرت الاحتجاجات ثلاثة أيام متتالية تطالب بإسقاط المحافظ وقادة الأجهزة الأمنية لارتباطهم بالفساد وتلاعبهم بقوت المواطنين وعدم توفر سبل العيش بانقطاع الكهرباء وعدم توفر الوقود وغلاء الأسعار الذي جعل معظم الناس تعيش تحت خط الفقر. أدرك النظام بأنه يفقد السيطرة ولم تعد أدواته وأجهزته قادرة على ضبط الأوضاع. أدرك النظام إن هذه الاحتجاجات التي تهدد بالاستمرار والاتساع تعني اسقاطه شكلا ومضمونا وخروج السويداء من تحت عباءته.
عندها لعب مقامرته الأخيرة ظنا أن تغييب الشيخ البلعوس سيزيح من طريقه عقبة كأداء وبتوجيه التهمة للمعارضة المعروفية يدفع الجميع إلى التقاتل مما يتيح للنظام أن يستعيد بسط سلطته مجددا . إلا أن حسابات أقبية المخابرات ليست صالحة لكل زمان ومكان . ولن تكون السويداء بعد تصفية شيخها الكبير وحيد البلعوس لن تكون كما كانت من قبل.
تتضح طبيعة العلاقة بين جبل العرب والنظام الأسدي فهي في العمق علاقة صراع مستمر ويجب عدم السقوط في الوهم وسوء التقدير فالقوى التي تطفو على السطح ترتبط عضويا بالنظام مثلها مثل غيرها على امتداد الوطن السوري حيث نجح النظام بكل ما يملكه من إمكانات مادية وأمنية وإعلامية من ربط بعض الفئات ربطا عضويا به ربطت مصيرها بمصيره ولن تبرح المكان إلا برحيله.
العمق الشعبي في السويداء لا يطيق نظام الأسد نظام القتل والفساد والاستبداد والذي اقصى الجميع والجبل لا يمكنه الخروج على تراث الأجداد الوطني وحسهم الدقيق بالعدل وتوقهم إلى الحرية
21/ايلول/2015
يقول الباحث الفرنسي ميشيل سورا في كتابه “الدولة الوحشية” أي دولة الأسد أن المؤتمر العلوي الذي عقد في حمص عام 1963 بحضور حافظ الأسد اتخذ عدة قرارات أهمها:
اقامة دولة علوية تكون عاصمتها حمص وتشجيع انتقال العلويين إلى حمص واللاذقية وطرطوس
اختراق حزب البعث والسيطرة على المدارس العسكرية (كليات الضباط)
ازاحة العناصر الدرزية والإسماعيلية من الجيش وبسط السيطرة على مختلف مفاصله الحساسة.
جاء هذا المطلب الأخير على اثر تصفية “السنة” من الجيش بعد انقلاب 8 آذار بتهم ملفقة وازاحة ما تبقى منهم على اثر حركة جاسم علوان الناصرية. ثم ابعد الجميع تدريجيا فيما بعد وتم بالفعل احتكار الكليات العسكرية ليشكل الطلاب العلويون الغالبية الساحقة في هذه الكليات.
كانت مشكلة حافظ الأسد مع “الدروز” مثل مشكلته مع الأكثرية “السنة” فابناء الجبل شكلوا بعد الاستقلال ثقلا عسكريا وسياسيا في الدولة السورية أكبر بكثير من حجمهم الديموغرافي هذا الدور برضى وقبول الأكثرية “السنة” ومباركتها. هذا الدور هو محصلة لانخراط “الدروز” في مشروع وطني عروبي منذ مطلع القرن العشرين ودورهم البارز في معارك السوريين من أجل الحرية والاستقلال فكان فرسان جبل العرب في مقدمة جيش الملك فيصل وهم اول من رفع العلم العربي في دمشق التي استقبلتهم استقبال الأبطال . وتعاظم دور الجبل في الكفاح ضد المستعمر الفرنسي وربما أخذت جغرافية الجبل وتضاريسه اضافة لعزيمة فرسانه أهمية خاصة في هذا الدور الوطني الطليعي في مواجهة المستعمرين الجدد. هذه المعركة التي انطلقت بقوة في الجبل عام 1925 واحتضنها “السنة” في الجنوب السوري وفي دمشق وغوطتها واشترك الجميع دروز وسنة ومسيحيين في مشروع وطني تحرري. فثورة جبل العرب لولا هذا المشروع وهذا الاحتضان لبقيت ثورة محلية يسهل تطويقها وإخماد جذوتها. حظيت هذه الثورة باهتمام الوطنيين الذين قدموا لها سبل الدعم وفتحوا امامها الآفاق لتنتشر في مختلف ارجاء الوطن السوري. وأصر زعماء “السنة” على تسمية سلطان باشا الأطرش قائدا عاما للثورة السورية ومنهم الزعيم الكبير عبد الرحمن الشهبندر طيب الله ثراه الذي عاش بين الثوار في الجبل وكان من القادة البارزين في هذه الثورة. أدرك الشهبندر أهمية جغرافية الجبل في منازلة الاستعمار المدجج بآلة حربية متقدمة وعرف عن كثب شجاعة هؤلاء الرجال واقدامهم واستعدادهم للتضحية من أجل الحرية والاستقلال. هكذا دخل الجبل في عمق الوطنية السورية وسطر بدماء ابنائه ملحمة المجد بتناغم مع جميع مكونات المجتمع السوري، ودخل المشهد السياسي والعسكري بدور اساسي بعد الاستقلال وكان معيار الوطنية والولاء للوطن هو الأساس في هذا الدور.
كان حافظ الأسد مدركا لهذه العقبة الكبيرة في وجه مشروعه الدكتاتوري الطائفي فقام بتدبير المكائد والمؤامرات للتخلص من ابناء الجبل وإزاحتهم نهائيا وتهميش دورهم كما تم تهميش كل مكونات المجتمع السوري وإقصاء الجميع فلم يبق في المشهد إلا من يقبل الاذعان لإرادة الحاكمين الجدد. وفي انقلاب 23 من شباط 1965 تم ازاحة القادة التاريخيين لحزب البعث وتأكيد السيطرة شبه التامة للمشروع الديكتاتوري الطائفي تحت شعارات التقدم والوحدة والاشتراكية. كان الرائد سليم حاطوم ابرز عناصر الانقلاب الأخير وسرعان ما أدرك انه تم توريطه من قبل الأسد وجديد والكتلة العلوية، وشعر بالخداع فالقيادة المدنية والعسكرية اصبحت حقيقة في ايدي علوية. ندم حاطوم وقام بالاتصال بمن انقلب عليهم وعمل على اخراجهم من السجون وتهريب بعضهم إلى لبنان، وبدأ الاعداد لانقلاب آخر فلم يعد في الجيش سوى كتلة الدروز والاسماعيليين ووضع الجميع تحت رقابة ومتابعة من قبل جديد والأسد. في عام 1966 على اثر محاولة حاطوم الانقلابية الفاشلة، حيث تجنب سفك الدماء وفضل الهروب إلى الأردن لينادي من اذاعتها أن حافظ اسد وأعوانه يقودون سوريا إلى حرب أهلية بعد تصفية الجيش السوري من مكوناته الوطنية .
وفعلا تم القاء القبض على معظم الضباط الدروز والزج بهم في المعتقلات بحجة المشاركة في “مؤامرة حاطوم” والكثير من بينهم ليس لهم اية صلة او معرفة بما يدور. وبلغت الاعتقالات حدا دفع قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا أن يبعث ببرقية إلى رئاسة الأركان يستنكر هذه التصفيات في الجيش لأبناء الجبل.
شيطنة حاطوم وتخوينه
سليم حاطوم شاب مندفع شديد الحماس أصبح وهو برتبة ملازم اول بطلا من ابطال الجيش السوري عندما كان على الخط الأول في جبهة الجولان وكانت اسرائيل تتحرش بالجيش السوري في زمن الانفصال عام 1962 وهناك اوامر بعدم الرد على هذه التحرشات. قام الجيش الاسرائيلي بهجوم واسع على بلدة فيق حيث تتمركز وحدة سليم حاطوم الذي لم يتمكن من الحصول على موافقة القيادة على الرد. فقام على مسؤوليته الشخصية بإعطاء جنوده اوامر التصدي للقوة المعتدية وخاض معركة مشرفة انتهت بهزيمة المعتدين الذين لم يتمكنوا من سحب آلياتهم وأسلحتهم المحطمة فتم سحبها وعرضها في شوارع دمشق. ولم يعط حاطوم وسام اومكافأة لأنه رفض الانصياع لأوامر القيادة اذ أعطي هذا الوسام الى قائد اللواء. هذه المعركة جعلت من حاطوم بطلا وطنيا وأكسبته شعبية واسعة في الجيش السوري. هذه الشعبية الواسعة أقلقت الأسد واصحاب المشاريع الطائفية اذ يشعر بالصغر بالرغم من رتبه الوهمية أمام هذا الضابط المقدام الذي صنع النصر في حين لم يعرف الأسد وزمرته سوى الاذلال والهزائم امام الأعداء عبر تاريخه العسكري الطويل، كان يستأسد على العزل من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين وابعد الجيش السوري عن المواجهة مع الأعداء وخاض معاركه القذرة ضد ابناء شعبه.
ارتكب سليم حاطوم الكثير من الأخطاء نتيجة حماسه واندفاعه، وتم توريطه وخداعه بشعارات قومية يسارية اكتشف تضليلها عندما شعر بانه لم يعد من قوة ذات شأن في الجيش السوري سوى الأسد واتباعه فبدأ محاولته الانقلابية في ايلول 1966. وكانت فرصة الأسد الذي كان وزيرا للدفاع لتصفية المئات من الضباط الدروز من الجيش وطردهم ومحاكمة ابرزهم اللواء فهد الشاعر والرائد سليم حاطوم وحكموا بالاعدام واتهم حاطوم بالخيانة والعمالة “لاسرائيل”.
في حرب 5 حزيران 1967 كان الجيش السوري يفتقد لخيرة كفاءاته وضباطه الوطنيين ويفتقد لقيادة شجاعة ووطنية فبعد ايام من بداية الحرب وقبل أن يدخل الجيش في مواجهة مع اسرائيل أصدر حافظ الأسد وزير الدفاع امرا إلى الجيش بالانسحاب الكيفي من الجولان بلا حرب ولا ضرب وولى ضباط القرداحة أدبارهم هاربين تاركين أسلحتهم ومواقعهم المحصنة التي كان بإمكانها إن تقاوم سنوات طويلة. وأشاعت أجهزة المخابرات إن سبب الهزيمة هو خيانة “الدروز” الذين أشروا بالمرايا للطيران الاسرائيلي !!!! بهدف امتصاص الغضب الشعبوي . وكذلك فعلت الأجهزة القرداحية بعد كل هزيمة وأصبح الدروز شماعة يعلق عليها هزائم ضباط الأسد.
بعد هزيمة حزيران المخجلة اتصل سليم حاطوم بالقيادة السورية طالبا السماح له ولجنوده الدخول للدفاع عن دمشق وافقت القيادة على هذا الطلب ولكنها غدرت – كعادتها – والقت القبض على حاطوم وعذب حتى الموت واقتيد إلى الاعدام وهو جثة هامدة بتحريض وإشراف حافظ الأسد مستغلا غياب رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي الذي كان سيرفض تنفيذ هذا الاعدام لو عاد إلى البلاد. تم التخلص من هذا الشاب المفعم بالوطنية والرجولة وهو لم يبلغ الثلاثين من العمر. هكذا تصنع أكاذيب العصابة الأسدية بتحويل الخونة إلى أبطال والأبطال إلى خونة: سليم حاطوم نموذجا.
منذ ذلك الوقت تم اقصاء “الدروز” وتهميشهم ومنع ظهور شخصيات ذات شأن من جبل العرب فالكل يجب إن يكون ملحقا بالقرداحة بعد اقصاء الجميع والسيطرة على الجيش والأجهزة الأمنية. همشت السويداء وحرمت من التنمية وعوقبت ايما عقاب.
قائد الثورة السورية الكبرى
بقي وجود سلطان باشا قائد الثورة السورية الكبرى هذا الرمز الكبير من رموز الحرية بقي كالصخرة على صدر الأسد خصوصا وان رجاله الأمنيين ينقلون له أن الباشا لا يكن له المودة وهذه حقيقة . فلم يزر حافظ السويداء سوى مرة واحدة وذهب مرة أخرى “معزيا” محتفلا بوفاة سلطان باشا فغياب هذا الزعيم الوطني الكبير يسهل فرصة ظهوره المصطنع عن طريق الصور والتماثيل والخطاب الاعلامي الأجوف الذي جعل منه القائد التاريخي بطل التشرينين المعلم الأول والطالب الأول والقاضي الأول في طقوس عبادة الشخصية استخفت بعقول السوريين. سقطت هذه الهالة المصطنعة مع اول مظاهرة اطلقها الشعب السوري مطالبا بحريته وتناثر حطام تماثيله في شوارع المدن السورية.
بقي سلطان باشا في ضمير كل الوطنيين السوريين ورمزا يعتز به أبناء الجبل ن وسعى النظام الأسدي جاهدا لتهميش هذا الرمز ومنع شباب الجبل من الاحتفال بذكرى وفاته في 26 آذار من كل عام. كان يستنفر اجهزته الأمنية ويقطع الطرق المؤدية إلى القريا حيث يرقد رمز الحرية في مثواه الأخير. فهو يريد مسح هذه الرموز العملاقة من الذاكرة الوطنية خصوصا بعد اغتيال الزعيم كمال جنبلاط . أدرك عقلاء الدروز أن الأسد يدفع بهم إلى الظل والتهميش ولن يسمح لزعامة وطنية درزية تستقطب الناس فلا كبار إلا “كبار” القرداحة . وهذا لم يقتصر على الدروز وانما شمل الجميع فاغتيال صلاح الدين البيطار في باريس واغتيال رفيق الحريري ياتي في إطار هذه السياسة الأسدية التي اتخذت منحا خطيرا بعد تحالفها الطائفي مع ملالي طهران
انتفاضة السويداء في عام 2000
انطلقت هذه الانتفاضة بعد 4 أشهر من تسلم الوريث رئاسة الجمهورية .بعد مقتل شاب (فادي عريج بطل الجمهورية -العاب القوى ) من قبل البدو المرتبطين باجهزة النظام وقام زملاؤه في الثانوية بمظاهرات احتجاجية للمطالبة بوضع حد لتسلط اجهزة الأمن وعملائها. فساد هذه الأجهزة أصبح شديد الوضوح فلم تتورع عن التلاعب بكل شيء وتنظيم عمليات التهريب بالتعاون مع بعض البدو تهريب المخدرات والآثار&8230;. وضاق الناس ذرعا بتسلط هذه الأجهزة وإمساكها بمفاصل الحياة . وسيطر الشبان على المدينة واقتحموا دار الحكومة ولاذت الأجهزة الأمنية بالفرار امام الغضب الشعبي العارم. وكعادته اعتبر النظام ذلك نوعا من العصيان المدني وخروج على السلطة ، فسلطة الوريث الصغير مهددة. فوجئ الناس بدخول الدبابات وإطلاق الرصاص القاتل الذي يستهدف الراس والصدر وقتل العشرات وأصيب المئات لا بهدف تفريق المظاهرات بل بهدف الترويع والقتل فكل من يخرج عن بيت الطاعة الأسدي سيكون مصيره رصاص دمدم المتفجر. غير مسموح في دولة الأسد سوى بمسيرات التأييد التي تهتف بالروح بالدم لصغير القرداحة. وهكذا غرقت السويداء بدماء شبانها الصغار طلبة الثانوية وروعت المدينة في ظروف من الصمت وقطع الاتصالات وإعطاء الأحداث صبغة طائفية وكأنها مواجهة بين البدو والدروز وإشاعة أن “الدروز لا يحبون البدو لأنهم سنة”. وبعد مجزرة المستشفى التي سقط ضحيتها 18 شابا بدم بارد من قبل الحاجز الموجود هناك سرعان ما أشيع إن الأمر عبارة عن تصرف فردي ومن أعطى الأمر هو ضابط “حموي سني”. هذه الأكاذيب اعتاد عليها السوريون فسرعان ما تم الكشف عن حقيقة الضابط القاتل فهو من المقربين من قمة النظام ومن منطقة القرداحة كان المسئول عن تلك المجزرة فلا علاقة لا “للحموية ولا للسنة” بذلك.
يعمل النظام بلا كلل على التحريض وزرع الفرقة وإشاعة الكراهية بين مكونات المجتمع فهذه سياسة ثابتة في دولة آل الأسد. فالتحريض لم يتوقف يوما ضد الدروز وتخوينهم وعندما تسنح الفرصة يتم تحريضهم على اخوتهم وشركائهم في الوطن.
بعد استعادة السيطرة على المدينة ودخول الأسلحة الثقيلة وإغراق مظاهرات شبان الثانوية بالدماء عمل النظام على تسوية مهينة ومذلة مستخفا بحياة الناس عن طريق عملاءه الذين طردهم المحتجون ورفضوا الحوار معهم. وتم التعتيم على هذه الانتفاضة ولم يعرف السوريون عنها شيئا سوى بعض الاشاعات التي تشوه حقيقتها
وصل وزير داخلية النظام الفاشي محمد حربا وبدا بتوجيه اللوم الى قائد الشرطة العميد خضر المزيد وهو من عشائر الجزيرة وأخذ عليه عدم اطلاق النار على المحتجين والسماح للشبان بالدخول إلى السرايا وهدده بأقصى العقوبات. فأجابه لن أطلق النار ولن اقتل احدا “وشو صار انكسر لوحين بللور” !!! فهذا الضابط الوطني الأصيل تم تهديده بأشد العقوبات لأنه لم يقتل.
منذ ذلك الحين وضع النظام ثقله الأمني والعسكري في السويداء التي غدت مطوقة بالمدافع والدبابات من جميع الجهات وأصبح فيها من الجنود والأمن أكثر من عدد السكان ، وتوقفت مظاهر التنمية في المحافظة باستثناء تطور الأبنية والقصور العائدة للمحافظ وفرع الحزب وأجهزة الأمن التي تغولت على المجتمع بشكل غير مسبوق، واخترقت كل مفاصل الحياة الاجتماعية . فبعد أن كانت شعبة المخابرات عبارة عن شقة صغيرة مقابل الشرطة العسكرية أصبح لديها الآن ابنية وقصور فخمة وحتى المستشفى القديم الذي ورثناه عن الانتداب الفرنسي تم تحويله إلى مركز أمني وبعد هذه الانتفاضة، أضيف إلى هذه الفروع فرع الأمن الجوي سيء الصيت .
لم يعد أمام الشباب سوى التفكير في الهجرة او التطوع في أجهزة الأمن والجيش كعناصر وضباط صف في احسن الحالات بعد احتكار كليات الضباط من قبل جبلة والقرداحة فابن السويداء – كغيره من السوريين- لا يحلم برتبة ضابط إلا نادرا . وعندما يموت يرفع إلى ضابط شرف.
وهكذا عمل النظام الأسدي على ترويض ابناء الجبل ومحاولة اذلالهم وتحويلهم إلى خدم وحشم لضباط القرداحة عبر الخدمة الالزامية . يعرف نظام الأسد جيدا عنفوان شباب الجبل وشهامتهم وثوريتهم فهم لا ينامون على ضيم فعمل جاهدا على انتزاع هذه القيم النبيلة التي تميزهم وسحقهم واستعبادهم كغيرهم من السوريين. وكانت الخدمة الالزامية هي الفرصة المناسبة لتدجين السوريين جميعا وإذلالهم وترويضهم . وهكذا تحول الجيش السوري من جيش وطني ينمي مشاعر الاعتزاز والكرامة ويدافع عن الحدود ويربي افراده تربية وطنية صحيحة ، تحول إلى جيش يشكل مدرسة للعبودية والفساد والإذلال . وكل ابنائنا الذين مروا بهذه المؤسسة منذ الثمانينيات يعرفون ذلك جيدا عبر تجاربهم المريرة. يعرفون كيف كانوا عرضة للاستغلال وتأدية الخدمات الخاصة للضباط والمسئولين وكيف كان يسرق طعامهم وكيف كان عليهم دفع الرشا للحصول على ابسط حقوقهم.
تصفية الشيخ البلعوس ونخبة من شيوخ الكرامة
برز دور الشهيد الشيخ وحيد البلعوس منذ بداية ثورة الحرية والكرامة ، ظهر من العمق الشعبي ، واستطاع بسرعة أن يسد الفراغ الذي تركه تغييب النظام للقادة والقيادة سوى تلك المرتهنة للنظام الأسدي، فشكل حالة شعبية نمت وتطورت والتف حوله الكثير من رجالات السويداء حيث مكنته خلفيتيه الدينية من تحدي النظام وأجهزته الأمنية فلم يجرؤ على المساس به تجنبا لردة فعل قد تخرج السويداء عن طورها وتذهب إلى مواجهة مفتوحة. كان أهم ما يأخذه الشيخ البلعوس على أجهزة النظام هو عملها على اسعار الفتنة بين اهل السويداء وأهل درعا وفساد هذه الأجهزة ومتاجرتها بقوت الناس وتحالفها مع السماسرة والمهربين وتجار الحروب. تمكن الشيخ من تشكيل قوة مسلحة أصبح يحسب حسابها وعندما قويت شوكته تحدى النظام وقام باقتلاع بعض حواجزة التي كانت تمارس اذلال الناس. والخطوة الأكثر خطورة هي اعلانه حماية كل من يتمرد ويرفض الخدمة العسكرية في صفوف النظام، وأعلن أن ابناء السويداء لن يكونوا أداة في الحرب الأسدية على السوريين وهم لن يخرجوا خارج المحافظة وقامت مجموعاته بتحرير بعض العسكريين الذين تم توقيفهم على الحواجز وتجميعهم بهدف سوقهم خارج المحافظة.
هذه المواقف وتنامي قوة رجال الكرامة التي اسسها الشيخ البلعوس أصبح أخطر مشكلة بالنسبة للنظام الأسدي في محافظة السويداء. بدأ النظام يستشعر الخطر من هذه الظاهرة التي لم يقمعها في البداية ظنا منه انها ظاهرة مذهبية ليس لها ابعاد وطنية . ولكن سرعان ما تبين إن جماعة رجال الكرامة تتجاوز الاطار المذهبي الذي يشجعه النظام لتمزيق وحدة السوريين وتحمل آفاق وطنية تنسجم مع تاريخ الطائفة المعروفية وتقاليدها الوطنية عندما أعلن بأن سوريا امنا وليس لدينا وطنا بديلا والولاء للوطن فقط لا لشخص ولا لجماعة، كما أعلن أن مهمة رجاله هي حماية الجبل وتأمين الأمن لأبنائه ولكل من احتمى بأهله وطلب من الشباب عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية، وقام رجاله بتحرير بعض المعتقلين من بين أنياب أجهزة النظام وإخراجهم من داخل المقرات الأمنية عنوة.
ولكن النظام الأسدي عبر تاريخه لا يقبل بتنامي زعامة شعبية حقيقية لا في السويداء ولا في مكان آخر، فكل الزعامات يجب أن تكون ملحقة تابعة وخاضعة لصبي القرداحة، فزعامة البلعوس النابعة من صميم القاعدة الشعبية وتصاعد تأثيره والتفاف الناس من حوله حيث استقطب اهتمام ابناء الطائفة المعروفية التي تبحث عمن يعبر عن حقيقتها ويحترم تاريخها الوطني وتقاليدها في الحرية والكرامة ، تبحث عن زعامة تنأى بها عن أن تكون ملحقة بآل الأسد . فالبلعوس أخذ يكبر أكثر مما يتحمله نظام القرداحة ، وبدأ يهدد بسحب البساط من تحت “الزعامات” المرتبطة بأجهزة النظام .
ويتذكر الناس كيف قام النظام وعملاؤه في لبنان باختطاف الاستاذ شبلي العيسمي في بداية الثورة لتغييب تاثيره على الحراك الشعبي في الجبل.
في مطلع شهر أيلول من هذا العام تصاعد الحراك الشعبي السلمي في محافظة السويداء واستمرت الاحتجاجات ثلاثة أيام متتالية تطالب بإسقاط المحافظ وقادة الأجهزة الأمنية لارتباطهم بالفساد وتلاعبهم بقوت المواطنين وعدم توفر سبل العيش بانقطاع الكهرباء وعدم توفر الوقود وغلاء الأسعار الذي جعل معظم الناس تعيش تحت خط الفقر. أدرك النظام بأنه يفقد السيطرة ولم تعد أدواته وأجهزته قادرة على ضبط الأوضاع. أدرك النظام إن هذه الاحتجاجات التي تهدد بالاستمرار والاتساع تعني اسقاطه شكلا ومضمونا وخروج السويداء من تحت عباءته.
عندها لعب مقامرته الأخيرة ظنا أن تغييب الشيخ البلعوس سيزيح من طريقه عقبة كأداء وبتوجيه التهمة للمعارضة المعروفية يدفع الجميع إلى التقاتل مما يتيح للنظام أن يستعيد بسط سلطته مجددا . إلا أن حسابات أقبية المخابرات ليست صالحة لكل زمان ومكان . ولن تكون السويداء بعد تصفية شيخها الكبير وحيد البلعوس لن تكون كما كانت من قبل.
تتضح طبيعة العلاقة بين جبل العرب والنظام الأسدي فهي في العمق علاقة صراع مستمر ويجب عدم السقوط في الوهم وسوء التقدير فالقوى التي تطفو على السطح ترتبط عضويا بالنظام مثلها مثل غيرها على امتداد الوطن السوري حيث نجح النظام بكل ما يملكه من إمكانات مادية وأمنية وإعلامية من ربط بعض الفئات ربطا عضويا به ربطت مصيرها بمصيره ولن تبرح المكان إلا برحيله.
العمق الشعبي في السويداء لا يطيق نظام الأسد نظام القتل والفساد والاستبداد والذي اقصى الجميع والجبل لا يمكنه الخروج على تراث الأجداد الوطني وحسهم الدقيق بالعدل وتوقهم إلى الحرية
21/ايلول/2015